من تاريخ الخمر: ما حكاية تدرج الإسلام في النهي عن شرب الخمر؟ (الجزء الثاني)
في هذا الجزء الثاني، نرى كيف تعامل الإسلام مع شغف البيئة التي ظهر فيها بالخمر.
بعدما تابعنا في الجزء الأول ملامح عامة عن الشغف بالخمر وحظوته في العهد القديم وعند المسحيين، ثم في “الجاهلية” قبل ظهور الإسلام… نواصل الملف في هذا الجزء الثاني، مع تعامل الإسلام حين ظهوره مع شغف البيئة التي ظهر فيها بالخمر، دائما بالاعتماد على مؤلف الكاتب اليمني، علي المقري، “الخمر والنبيذ في الإسلام”.
في الفترة المكية لدعوة النبي إلى الإسلام، يقول المفكر العراقي هادي العلوي في “من قاموس التراث”، كان المسلمون يشربون الخمر كـ”المشركين”، كما استمروا على ذلك بعد الهجرة، لفترة تمتد بين ثلاث وثماني سنوات، باختلاف الروايات.
النبي في بداية الدعوة لم يحدد موقفه من شرب الخمر، بل وتقول عائشة بنت أبي بكر فيما يرويه البخاري في صحيحه، إنه لو كان أول ما جاء به الإسلام هو النهي عن شرب الخمر لقالوا: “لا ندع الخمر أبدا”.
اقرأ أيضا: إتلاف الكتب في صدر الإسلام… هذه حكاية نبذ العرب للكتابة 3/1
يعود هذا إلى انتشار تجارة الخمر وشربها آنذاك. أغنياء القوم كانوا ينفقون على أفراحهم وعلى المناسبات الاجتماعية الأخرى… حيث يشربون الخمور والنبيذ، يذكر المؤرخ العراقي جواد علي في “تاريخ العرب في الإسلام”.
المراجع التاريخية، الإسلامية منها أيضا، تؤكد أن المسلمين الذين اعتادوا على شرب الخمر قبل الإسلام، ظلوا يشربونها ويتاجرون بها بعده، يأخذونها إلى معاركهم حتى…
ابن هشام يذكر في السيرة (ج1)، خبرا رفضه البعض، يقول فيه إن خويلدا أبى أن يزوج ابنته خديجة للنبي بسبب فقره ويتمه.
وليوافق، أعدت خديجة طعاما ودعت أباها وبعض قريش، فأكلوا وشربوا حتى سكر أبوها، ثم قالت له: “إن محمدا بن عبد الله يخطبني، فزوجني إياه!”.
حين صحا من سكره، قالت له خديجة: “زوجتني من محمد بن عبد الله. قال: أنا أزوج يتيم أبي طالب؟ ألا لعمري! فقالت له: ألا تستحي؟ تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبرهم أنك كنت سكران؟”. وظلت كذلك معه حتى رضي.
المراجع التاريخية، الإسلامية منها أيضا، تؤكد أن المسلمين الذين اعتادوا على شرب الخمر قبل الإسلام، ظلوا يشربونها ويتاجرون بها بعده، يأخذونها إلى معاركهم حتى…
اقرأ أيضا: تاريخ الحج قبل الإسلام: بين القطيعة والاستمرارية 1\3
القرآن في البداية مدح مصادر الخمر: “ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا، إن في ذلك لآية لقوم يعقلون”[1].
أكثر من ذلك، وعد بشراب خاص في الجنة: “إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا”[2]، و”يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين”[3]،”لا يصدعون عنها ولا ينزفون”[4]؛ أي لا يجلب الصداع ولا يفرغ.
شرب جماعة من الصحابة عند عبد الرحمن بن عوف حتى أدركتهم الصلاة فأمهم أحدهم، فقرأ “قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون” إلى آخر السورة، لكن بحذف “لا”… عقب ذلك، جاءت الآية: “يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون”.
لكن الذي حدث، أن المسلمين حين سألوا النبي في المدينة عن الخمر، جاءت الآية: “يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس… وإثمهما أكبر من نفعهما”[5]. بحسب المفكر المصري محمد سعيد العشماوي في “أصول الشريعة”، فإن هذه الآية بينت نفع الخمر وضرره ولم تتضمن أي حكم آخر.
هكذا، كان أن ترك بعض القوم الخمر، بينما راح البعض الآخر يستمتع بمنافعها ويتجنب مآثمها.
ثم ذات يوم، كما جاء في سنن أبي داوود (ج2)، شرب جماعة من الصحابة عند عبد الرحمن بن عوف حتى أدركتهم الصلاة فأمهم أحدهم، فقرأ “قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون” إلى آخر السورة، لكن بحذف “لا”.
عقب ذلك، جاءت الآية: “يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون”[6].
اقرأ أيضا: البيمارَسْتانات… مستشفيات العرب في صدر الإسلام! 1\3
وكان أيضا أن ترك بعضهم الخمر، فيما اكتفى البعض الآخر بعدم شربها أوقات الصلاة… آنذاك، وفق سنن أبي داوود، كان المؤذن إذا أقيمت الصلاة ينادي: “ألا لا يقربن الصلاة سكران”.
الذي حدث بعد هذا، أن حوادث نجمت عن السكر كادت أن تؤدي إلى متاعب سياسية.
سكر رجال من الأوس والخزرج فتذكروا أيامهم الدامية قبل الإسلام، وتناشدوا الأشعار التي قيلت أيامها، حتى تطور الأمر إلى عراك أوشك أن يثير الفتنة بينهما مجددا… مثل هذه الأحداث وغيرها، أقلقت النبي ودفعته مع قادة المسلمين إلى التفكير في إيجاد حل.
مثلا، شرب أحد المسلمين الخمر فجعل ينوح على قتلى بدر، فلما بلغ ذلك النبي: “جاء فزعا يجتر رداءه حتى انتهى إليه، ورفع شنّا[7] كان في يده ليضربه، فلما رآه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، والله لا أطعمهما أبدا”، يقول المؤرخ المصري شهاب الدين النويري، في “نهاية الإرب في فنون الأدب”.
كذلك، في مجلس شراب، يذكر العلوي في “من قاموس التراث” أن رجالا من الأوس والخزرج سكروا فتذكروا أيامهم الدامية قبل الإسلام، وتناشدوا الأشعار التي قيلت في تلك الأيام، حتى تطور الأمر إلى عراك أوشك أن يثير فتنة بين القبيلتين المتصارعتين في الماضي.
اقرأ أيضا: فكرة “الشيطان” في الإسلام 4\4
هذه الأحداث وغيرها، يقول العلوي، أقلقت النبي ودفعته مع قادة المسلمين إلى التفكير في إيجاد حل.
من ثم، جاءت الآيتان اللتان دعتا إلى اجتناب شرب الخمر:
“يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسير ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون”[8].
في الجزء الثالث: هل انتهى القرآن إلى تحريم الخمر حقا؟
لقراءة الجزء الأول: من تاريخ الخمر: في البدء كان شراب الخلود (الجزء الأول)
لقراءة الجزء الثالث: من تاريخ الخمر: هل انتهى القرآن إلى تحريم الخمر حقا؟ (الجزء الثالث)
لقراءة الجزء الرابع: من تاريخ الخمر: هل شرع القرآن والسنة عقوبة لشارب الخمر؟ (الجزء الرابع)
لقراءة الجزء الخامس: من تاريخ الخمر: النبيذ غَيرُ الخمرِ… وفي الإسلام، البعض اعتبر شربه سُنّة! (الجزء الخامس)
لقراءة الجزء السادس: من تاريخ الخمر: العصر الأموي… الخليفة يريد إحداث مقصف على الكعبة ليشرب فيه الخمر مع ندمائه! (الجزء السادس)
لقراءة الجزء السابع والأخير: من تاريخ الخمر: المجون العباسي… لأول مرة، تخصيص موظفين برواتب في البلاط مكلفون بشؤون الشراب! (الجزء السابع والأخير)