الوجه الآخر للخلفاء العباسيين… الاهتمام بالعلوم والمعارف وترجمتها إلى اللغة العربية 4/3
ترجموا حتى كادوا، يقول ابن القفطي في “إخبار العلماء بأخبار الحكماء”، لا يبقون على كتاب دون ترجمة أو دون شرح وتلخيص، فقد بلغ ما ترجمه الواحد منهم، ممن اتصف بالخبرة والدراية، مئات الكتب والرسائل.
قدمنا في الجزء الأول من هذا الملف، لمحة عن بدايات ترجمة العلوم إلى اللغة العربية، وتابعنا في الجزء الثاني، بعضا من أهم المراكز العلمية التي ظفر بها العرب بعيد “الفتوحات”، موفرة بذلك الشروط المبدئية لنجاح حركة الترجمة، التي رأت النور مع ميلاد الدولة العباسية…
في هذا الجزء الثالث، نتابع مسلسل تطور تلك الحركة حتى بلغت أوجها الذهبي مع الخليفة المأمون.
رغم اهتمام الخليفة العباسي الأول، أبو العباس السفاح، بتوطيد أركان الدولة، إلا أن ذلك لم يحل دون اهتمامه بالعلم إلى حد ما، حتى إننا نقرأ على لسانه، كما يورد المسعودي في “مروج الذهب”: “العجب ممن يترك أن يزداد علما، ويختار أن يزداد جهلا”.
خلاف ذلك، أسعفت الأوضاع السياسية خليفته، أبو جعفر المنصور، في الأخذ بمشعل الاهتمام بالعلم بعيدا، إذ تجمع المصادر على كونه أول من بدأ حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.
لم يتردد المنصور في الاتصال المباشر بالإمبراطور البيزنطي، قسطنطين الخامس، طالبا منه مد يد العون الثقافي بإرسال عدد من المصادر اليونانية الأساسية التي يريدها، وهو ما استجاب له.
يبدو من هذه المصادر أن الترجمة في عهد المنصور سارت إلى الانتظام، وذلك عبر ترجمة مجموعات صغيرة من تراث الشعوب والحضارات القديمة.
ابن كثير في “البداية والنهاية”، مثلا، يذكر أن المنصور جعل من بغداد منزلا يؤمه العلماء وطلبة العلم، بعدما نقل إليها مجموعات لا بأس بها من الكتب والمؤلفات.
يشير أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم بالقاهرة، عبد الرحمن أحمد سالم[1] إلى أنه، رغم الاحتكاك الحربي بين الدولة الإسلامية وتلك البيزنطية، إلا أن المنصور لم يتردد في الاتصال المباشر بالإمبراطور البيزنطي، قسطنطين الخامس، طالبا منه مد يد العون الثقافي بإرسال عدد من المصادر اليونانية الأساسية التي يريدها، وهو ما استجاب له.
بعده، أتى هارون الرشيد، وكان محبا للعلم، حد أنه سافر وابنيه الأمين والمأمون إلى مصر، فقط ليزور مكتباتها، يذكر السيوطي في “تاريخ الخلفاء”.
في عهد الرشيد، تطورت حركة الترجمة أكثر لسببين: ازدياد المؤلفات من جهة، وتطور المادة المستخدمة في الكتابة من جهة أخرى.
اقرأ أيضا: دولة “الإسلام”: من العدل والرحمة إلى الجور والاستبداد… حكم “السفاح المبيح” 3/3
آنذاك، ظهر الورق بكميات وافرة، بحسب ما يذكره أستاذ التاريخ بجامعة القدس، جلال حسني سلامة، في كتابه “الترجمة في العصر العباسي”، ما جعل من قبيل الماضي الاستخدام السائد لجلود الجواميس والأغنام المدبوغة والنحاس والحديد وعسب النخيل، وكذا عظم أكتاف الإبل والأغنام.
أكبر مكتبة نقل إلينا خبرها في هذه الفترة، تلك المعروفة باسم “بيت الحكمة”. لكن المفكر المصري أحمد أمين في كتابه “ضحى الإسلام”، يؤكد أن غموضا شديدا يحيط بهذا البيت، إذ لم يعثر الباحثون عنه سوى على نتف قليلة.
هذا المستجد بالغ الأهمية دفع هارون الرشيد إلى مراسلة البيزنطيين ودعوتهم إلى فتح خزائن كتبهم، ووضعها تحت تصرف المترجمين.
بالمناسبة، أكبر مكتبة نقل إلينا خبرها في هذه الفترة، تلك المعروفة باسم “بيت الحكمة”.
لكن المفكر المصري أحمد أمين في كتابه “ضحى الإسلام”، يؤكد أن غموضا شديدا يحيط بهذا البيت، إذ لم يعثر الباحثون عنه سوى على نتف قليلة.
هل كان مكتبة فقط أم مكتبة ومعهدا ومرصدا؟ أين مكانه؟ هل أنشأه الرشيد أو المأمون؟ ما نظامه؟ ما كان يقوم به من أعمال؟ كل هذه الأسئلة طرحها أحمد أمين دون أن يصل إلى جواب شاف على حد تعبيره.
على أنه يظهر أن الرشيد هو واضع نواتها، قبل أن ينميها المأمون ويقويها.
اقرأ أيضا: إتلاف الكتب في صدر الإسلام… هذه حكاية نبذ العرب للكتابة 3/1
المأمون هذا، تذكر المصادر، بلغت في عهده حركة الترجمة أوجها الذهبي، إذ لم يدخر جهدا في تقديم العون المادي والمعنوي للعاملين في بيت الحكمة.
كان محبا للعلم. منذ صباه وهو يجالس العلماء، حتى قيل له، حسب ما يورده حسني سلامة: “إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت هرمس في حسابه…”.
يقول ابن صاعد الأندلسي عن المأمون في “طبقات الأمم”: “لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع (المأمون)، تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخرجه من معادنه بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة”.
الأعداد الكبيرة من الكتب المترجمة في تلك الفترة توضح أن العباسيين لم يعتمدوا على المترجمين وحسب، بل أيضا على الأسرى من البلاد التي تحدهم وكانوا على معرفة دقيقة باللغات الأجنبية واللغة العربية، وكذا كان للجواري دور في تعليم لغاتهن المختلفة لأبناء العرب.
بعد وفاته، استمرت الحركة مع الخليفة المتوكل، إذ يروى أنه أغدق أموالا ضخمة على المترجمين الذين اهتموا بترجمة المخطوطات اليونانية في مختلف العلوم والمعارف.
فعلوا ذلك حتى كادوا، يقول ابن القفطي في “إخبار العلماء بأخبار الحكماء”، لا يبقون على كتاب دون ترجمة أو دون شرح وتلخيص، فقد بلغ ما ترجمه الواحد منهم، ممن اتصف بالخبرة والدراية، مئات الكتب والرسائل.
اقرأ أيضا: الشعر ديوان العرب في الزندقة أيضا… قبل أن يطاله مقص رواة الأخبار! 2/1
في هذه الفترة أيضا، انتقل الاهتمام بالترجمة من الخلفاء إلى العامة من خارج نطاق السلطة. ثمة روايات كثيرة، يذكر حسني سلامة، عما بذله بعضهم من أموال في سبيل ترجمة الكتب إلى اللغة العربية.
الأعداد الكبيرة من الكتب المترجمة في تلك الفترة توضح، وفق حسني سلامة، أن العباسيين لم يعتمدوا على المترجمين وحسب، بل أيضا على الأسرى من البلاد التي تحدهم وكانوا على معرفة دقيقة باللغات الأجنبية واللغة العربية، وكذا كان للجواري دور في تعليم لغاتهن المختلفة لأبناء العرب.
على أن عبد الرحمن أحمد سالم يقول إن الترجمات تلك، اتسمت بما تتسم به عادة المحاولات الأولى من أوجه قصور. لذا، جاءت عموما خالية من الدقة، تعوزها صرامة الأسلوب في النقل عن النصوص الأصلية نقلا أمينا وافيا.
اقرأ أيضا: لمحبي السفر… جوجل تعلن عن ميزات جديدة في تطبيق الترجمة
رغم ذلك، فإنها كانت من الأهمية بمكان في وضع اللبنات الأولى للترجمة إلى العربية. ينقل أحمد سالم عن ابن خلدون قوله، في الحديث عن بعض الكتب التي ترجمت في تلك الفترة: “فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها، وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها”.
في الجزء الرابع… نتعرف إلى أوائل المترجمين الذين اعتنوا بنقل المعارف والعلوم إلى اللغة العربية.
لقراءة الجزء الأول: الترجمة إلى العربية: حين أدرك العرب أن العلم وحده المدخل إلى حياة الحضارة 4/1
لقراءة الجزء الثاني: هذه أهم المراكز العلمية التي غزاها العرب فكانت المفتاح في انتقال العلوم اليونانية إليهم… 4/2
لقراءة الجزء الرابع: حركة الترجمة في العصر العباسي: هؤلاء أول من نقل العلوم والمعارف اليونانية إلى اللغة العربية! 4/4