حسن الحو: يوتوبيا الخلافة الإسلامية
هذه الدولة الوردية المزعومة، تحمل في جيناتها عوامل دمارها، فهي قائمة على الإقصاء والعداء وعقيدة الولاء والبراء، وتنذر بحروب أهلية مستمرة لا تضع أوزارها. التاريخ الممتد على مدى أربعة عشر قرنا، فيه من الأحداث ما يدلل على هذه الحرب التي لم تنطفئ يوما، فالمعتزلة نكلوا بأهل السنة أيام اقتدارهم وتقريبهم من طرف الخليفة المأمون، فسجنوا وقتلوا وعذبوا وحَمَلوا الناس كرها على اعتناق مذاهبهم، وأهل السنة ردوا لهم الصاع صاعين زمان المتوكل، والإمام مالك جُلِد ظهره وخُلِع كتفه لمجرد الإدلاء برأيه في مسألة الإكراه، والجعد بن درهم وغيلان القدري قُتلا بسيف السنة، والبخاري مات مهموما مهجورا لرأيه في خلق القرآن، وابن تيمية مات مسجونا…
لن تجد عالما مبرزا دون أن تقرأ عن محنته، حتى أصبحت المحنة سنة في ترجمة سير الأعلام.
تحلم الجماعات الإسلامية، على اختلاف مشاربها وتنوع مذاهبها، بإقامة دولة الإسلام المُحَكِّمة للشريعة، وإبطال ما عداها من القوانين الوضعية والمبادئ الديمقراطية.
تحكيم الشرع الإلهي عقيدة راسخة عند كل الفرق، المتشددة والمعتدلة، وخط أحمر لا يجوز نقاشه أو تعديه. لن تجد إسلاميا، كيف ما كان انتماؤه، يساوره شكٌّ في ضرورة تحكيم شرع الله وتكفير من رأى خلاف ذلك؛ فالخلافة الموعودة لا تُفتح عليها بركات السماء والأرض ولا يُقهر أعداؤها وتُجبى غنائمها وخُمْسها إلا بإقامة الشرائع الإلهية، ” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ”، سورة الأنعام؛ “ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم”؛ سورة المائدة.
أحلام وردية تراود الإسلاميين بزمن التمكين وعزة الدين، وبدولة يحفها الإيمان ويُقويها تعاضد الإخوان. فهل لهذا الأمل في تأسيس دولة ثيوقراطية سلف تاريخي يمكن استنساخه؟ وهل هُيئت لهذه الخلافة المزعومة، الكتلة المنسجمة والموحدة على هدف ومصير مشترك؟؟ وهل الظروف السياسية والعسكرية، والمواضعات الدولية ستسمح بإقامة هذه الدولة الدينية؟!
سنؤجل الأجوبة على كل هذه الأسئلة، ونفترض، مجاراةً للذهنية الإسلامية السائدة، أن اللحظة التاريخية قد أذِنتْ بقدرة قادر للإسلاميين بتشكيل دولتهم وتحكيم شريعتهم، فكيف ستستطيع طوائف وفرق الإسلاميين المتشظية والمتنافرة التوحد تحت راية واحدة، والتوافق حول منهج موحد للحكم؟ الجماعات الإسلامية المتناسلة تستعصي على الحصر، لكل جماعة فكر وزعماء ورؤية شرعية للأمور تختلف حد التضاد مع باقي الطوائف، فهل سيرضى الإخوان ومن يدور في فلكهم من الإسلاميين، الذين خبِروا ميدان العمل السياسي و”تشبعوا بالقيم الديمقراطية” وجربوا التداول على السلطة، بأن يحكمهم السلفيون، الذين لا يرون حدا لمدة حكم ولي الأمر القرشي، ولا يرتضون شق عصا الحاكم وإن زنا أو سرق ما أقام الصلاة ولم يُظهر كفرا بواحا؟
وهل سيغض الشيوخ المحدثون الطرف عن اجتهادات التيارات المعتدلة، التي لا ترى بأسا من نبذ أحاديث الآحاد وتمكين النساء وعقد معاهدات دائمة مع ديار الكفر؟ وكيف سيستسيغ تيار داعش ومن لَفَّ لفها من الأصوليين تأويل آيات وأحاديث جهاد الطلب وتحريم الاسترقاق؟ وما مصير فرق الصوفية المسالمة إذا تمكن الوهابيون من السلطة؟ وكيف سيتم الاتفاق بين القرآنيين المتساهلين وأهل السنة الجامدين على شكل المجتمع ولباس النساء وبث لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
وكيف سيتم اعتماد مناهج مدرسية متفق عليها، بين من لا يرى مانعا من دراسة الفلك والبيولوجيا وباقي العلوم كما اتُّفِق عليها في الدوائر العلمية، وبين من يرى كفر تعليم التطور والاعتقاد بكروية الأرض وتحريم النظريات التي تخالف محكم النصوص؟
وهل ستسمح الجماعات التي عاشت تحت وطأة الاضطهاد ومناهضة السلطات السياسية وما عانته من سجن وتشريد أن تحكمها السلفية المدخلية المرتمية في كنف السلطات السياسية؟ وكيف سيتم الاتفاق على عقيدة واحدة وبقايا الخوارج والأشاعرة والمعتزلة لازالوا بالآلاف ينفون الصفات، ويعتقدون عقائد متباينة في الذات الإلهية وعلاقة النقل بالعقل والقضاء والقدر والكثير من المسائل الكلامية التي يصل في التجاذب لحد التبديع والإخراج من دائرة الإسلام؟
وهل سيرضى إسلاميو المشرق أن يحكمهم إسلاميو المغرب؟
ثم أخيرا وليس آخرا… ما موقف الدولة السنية الوليدة من الشيعة وطوائفها المتناحرة، وكيف ستتعايش دولتان مختلفتان في كل شيء، وكل واحدة ترى أحقيتها بسحق الأخرى والحلول مكانها؟
إن ما تم ذكره من اختلافات جوهرية واستقطابات مستعرة، يضرب في مقتل الحلم في إقامة دولة إسلامية مبنية على تحكيم الشريعة وإعلاء كلمة التوحيد بكل شروطها ولوازمها، والنصوص المؤسسة لهذا الاختلاف والمغذية له كثيرة جدا، ولكل فرقة إسلامية أصولها ونصوصها التي تنطلق منها في التعامل مع المختلف، فأهل السنة والحديث يعتبرون كل الطوائف مبتدعة خارجة عن مراد الله، تستوجب الهجر في الدنيا والعذاب في الآخرة، ويصححون الحديث الذي رواه الإمام الترمذي: “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي”.
فكل الفرق الشاذة في النار، والمبتدعة منبوذون مستباحو الدماء. يقول ابن تيمية: “وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يُقتل لكف ضرره عن الناس، كما يقتل المحارب، وإن لم يكن في نفس الأمر كافرا، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته، وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه”. مجموع الفتاوى (23/351). وبمثل هذه الفتاوى قُتل العديد من المعارضين ومفكري الفرق الإسلامية، كالجعد بن درهم والسهروردي والحلاج…
ومذهب قتل المبتدع هو مذهب الحنابلة والحنفية والمالكية. يقول ابن عابدين من الحنفية: “والمبتدع لو له دلالة ودعوة للناس إلى بدعته ويتوهم منه أن ينشر البدعة وإن لم يُحكم بكفره جاز للسلطان قتله سياسة وزجرا لأن فساده أعلى وأعم حيث يؤثر في الدين.” حاشية ابن عابدين (4/243).
ويقول ابن فرحون من المالكية: “وأما الداعية إلى البدعة المفرق لجماعة المسلمين فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل”، تبصرة الحكام (2/297).
وكل من أظهر خلاف الشائع بين الناس والآثار، وإن كان مجتهدا متأولا، فهو مبتدع، إن لم يُقتل فهجرانه واجب ومطلب شرعي لا يختلف فيه سُنِّيان ولا ينتطح عليه عنزان. يقول الشاطبي: “فإن إيواء المبتدع يجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن المشي إليه والتوقير له تعظيمٌ له لأجل بدعته؛ وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا كالضرب والقتل، فصار توقيره صدودًا عن العمل بشرع الإسلام، وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به، والعمل بما ينافيه”. (الاعتصام [1/85]).
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار” (الصحيح في معنى هذه الآية أنها دالة على هجران أهـل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية…).
والأثار عن الصحابة والتابعين والسلف “الصالح” في هجر وبغض المبتدعة كثيرة جدا، كلها مجمعة على تحصين الإسلام من الآراء الشاذة فقهية كانت أو عقدية.
بصرف النظر عن إجماع أهل السنة والجماعة، وخاصة المحدثين منهم، على عقاب المبتدع بالهجر والإقصاء، فهم أنفسهم مختلفون فيما بينهم ومذاهبهم الفقهية لا حصر لها، ولا تخلو مسألة معروضة للنظر الفقهي في أفضل الأحوال من قولين وروايتين… ومفهوم البدعة عندهم مفهوم هلامي، يتمدد ويتقلص حسب المصالح والقرب والبعد من السلطان، وهذا الاختلاف الفقهي ليس اختلاف تنوع يغني الساحة الفقهية بالآراء المختلفة، بل اختلاف تباغض وتنافر، وما شهدته المذاهب الفقهية الأربعة قديما من حروب فكرية وصلت لحد تحريم الصلاة وراء المخالف ومنع التزاوج بين أبناء المذاهب المختلفة، خير دليل على حالة الهيجان والسعار والتعصب.
أما الفرق الكلامية المتهمة بالمروق والبدعة، فتتهم أهل السنة بالقصور الفكري والجمود العقلي، وترميهم بصفات قدحية كالمجسمة والمشبهة والظاهرية والحشوية، ويرجع أصل تسمية “الحشوية” إلى “جمعهم حشو الحديث من غير تمييز بين صحيحهِ وضعيفهِ ولا إعمالٍ لأدوات النقد والتحليل”. ولن ترضى هذه الفرق الرافعة من قدر العقل أن يحكمها السلفيون الحشوية، ويمنعونهم من النظر العقلي أو يطبقون عليهم أحكام هجر وقتل المبتدع.
وكل ما تقدم من وصف لحالة الغليان والتجاذب الاجتماعي والفكري، لو سَلَّمنا فيه جدلا أن هذه الدولة ستكون حكرا على الإسلاميين دون غيرهم، فماذا لو أضفنا إليهم عوام المسلمين والمخالفين لهم في أصول الاعتقاد، كالعلمانيين والليبراليين والاشتراكيين ممن يدينون بعقيدة الإسلام دون أن يروا أن أحكامه صالحة لكل زمان ومكان؟
إن هذه الدولة الوردية المزعومة، تحمل في جيناتها عوامل دمارها، فهي قائمة على الإقصاء والعداء وعقيدة الولاء والبراء، وتنذر بحروب أهلية مستمرة لا تضع أوزارها. التاريخ الممتد على مدى أربعة عشر قرنا، فيه من الأحداث ما يدلل على هذه الحرب التي لم تنطفئ يوما، فالمعتزلة نكَّلوا بأهل السنة أيام اقتدارهم وتقريبهم من طرف الخليفة المأمون، فسجنوا وقتلوا وعذبوا وحَمَلوا الناس كرها على اعتناق مذاهبهم، وأهل السنة ردوا لهم الصاع صاعين زمان المتوكل، والإمام مالك جُلِد ظهره وخُلِع كتفه لمجرد الإدلاء برأيه في مسألة الإكراه، والجعد بن درهم وغيلان القدري قُتلا بسيف السنة، والبخاري مات مهموما مهجورا لرأيه في خلق القرآن، وابن تيمية مات مسجونا… ولن تجد عالما مبرزا دون أن تقرأ عن محنته، حتى أصبحت المحنة سنة في ترجمة سير الأعلام.
أما الحروب والخيانات الكبرى، كحروب الخوارج والقرامطة والحشاشين والشيعة، فقد استهلكت طاقات الخلافات المتعاقبة، واستنزفت قواها وفتحت الباب للأطماع في احتلالها، وهو ما حدث مع الحملات المغولية والصليبية وحروب الاسترداد بالأندلس.
حالة من حرب الكل ضد الكل، وتبديع وتفسيق، وكراهية وبغضاء، وحِبْرٌ ودماء في التأصيل للمشروعية والأحقية، ودولة بوليسية لا يسمح فيها إلا بالصوت الواحد، وطوائف متناحرة فوق برميل بارود لا تَكَلُّ ولا تمل في خوض حروب مقدسة، كان آخرها الحروب الأهلية التي أشعلتها الطوائف الاسلامية السنية فيما بينها بالدولة الإسلامية الوليدة بالشام والعراق، ثم حربها مجتمعة مع الطوائف الشيعية…
إذا أضفنا للمستحيلات الثلاث التي قال فيها الشاعر:
عَلِمتُ أن المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي
مستحيلا رابعا، وسلمنا افتراضا إمكانية وقوعه، وهو نجاح الإسلاميين في رأب صدع خلافاتهم وتأسيس دولتهم؛ فكيف سيتموقعون وسط عالم مدجج بالأسلحة النووية المدمرة؟ وهل سينخرطون في المنتظم الدولي وفق بنود المعاهدات الدولية أم سينتظرون الفرصة المناسبة لإشعال الحروب المقدسة وإخضاع الناس للدعوة الاسلامية؟؟
إن استحالة إقامة دولة إسلامية تسع جميع الطوائف الإسلامية، فضلا عن باقي التيارات الفكرية، شيء لا يمكن دفعه لمجرد الخيالات الحالمة أو الطوباوية المفرطة، وهو أمر واقع بشهادة التاريخ والواقع… ومن أراد التأكد من شدة التنازع والتنافر، فما عليه إلا تحريك المياه الراكدة على الشبكة العنكبوتية ليرى التشنج والسعار وعبارات التكفير والتفسيق بين التيارات الإسلامية… فليدخل إلى مواقع الشيعة ويَتَرَضَّى على أبي بكر وعمر، أو ليدخل إلى مواقع السنة ويلعن الصحابة، أو فليناقش انتقاد الحكام علانية في مواقع المَداخلة، أو فليثبت الصفات الإلهية في مواقع الأشاعرة، أو لينتقد التصوف والجماعات الحركية في مواقع الإسلام السياسي، أو فليضرب بأحاديث الأحاد عرض الحائط في مواقع المحدثين، أو ليتكلم عن الشركيات وهدم القباب والزوايا في مواقع الصوفية، أو فلينتقد تطويع النصوص لخدمة الاعجاز في مواقع جماعة الإعجاز العلمي، أو فليدخل على مواقع الأصوليين ليحاورهم في منع الاسترقاق وجهاد الطلب والأخوة الإنسانية بين اليهود والنصارى… آنذاك، سيقف على حقيقة حالكة السواد مظلمة الإهاب، وهي أن الهوة بين الإسلاميين لا يمكن ردمها والفجوة لا يمكن رأبها.
إن أبسط الحلول للتخلص من هذا المأزق التاريخي، هو تشخيص الداء تشخيصا دقيقا، ونزع الغشاوة عن العيون والعقول، والتعامل بواقعية مع مخرجات الواقع وتركة التاريخ، والتخلي عن دغمائية وسذاجة اليقينيات، والقبول بالعيش في دولة مدنية حديثة تسع الجميع، يكون فيها الدين مكونا من مكونات المجتمع، وليس سيفا مسلطا على الرقاب أو عاملَ فرقةٍ وتشتيت.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- مسَّ يقينيات وقطعيات من الدين: التأويل الاضطراري!
- محمد عبد الوهاب رفيقي: يريدونها دولة سلطانية لا دولة حديثة
- الخوارج بين الإباضية والسنة… والتأويل بين الخوارج وأهل السنّة! 2/4
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4
- المأمون و”محنة خلق القرآن”… صورة عباسية أخرى لاستغلال الديني في السياسي! 2/1