إعدام السهروردي: “الخطيئة الكبرى” لصلاح الدين الأيوبي 2\3
تابعنا في الجزء الأول بعض ملامح سيرة السهروردي منذ طفولته، وعرجنا بالحديث عن معالم عصره المضطربة، التي ظهر فيها حين دخل إلى حلب (تجدون الجزء الأول أسفل المقال).
في هذا الجزء، نقدمُ بعض الخصال التي أدّت إلى تشنج العلاقة بين السهروردي والفقهاء…
كانت حلب وقتها من أهم المدن في شرقي الدولة الأيوبية. كانت تحمي ظهر الدولة من بقايا الزنكيين في مناطق الموصل، ومن سلاجقة الأناضول، وكان هؤلاء يعطلون الإستراتيجية الأيوبية بين حين وآخر، بحسب ما تقول الباحثة في التراث الصوفيّ أسماء خوالديّة.
كما أن حلب كانت مدخل الدولة الأيوبية إلى كردستان، ذلك الخزان الذي كان يوفرالمقاتلين من أبناء القبائل الكردية في الظروف الحرجة. لذلك، كان صلاح الدين قد ولى على حلب ولده الشاب، الملك الظاهر، وأحاطه ببطانة من الفقهاء والعلماء.
حلب… والمناظرة القاتلة!
حين استقرّ الحال بالسّهروردي بحلب، كتب أهم أعماله: “حكمة الإشراق” و”اللّمحات”، و”التّلويحات”، و”المقاومات”، و”المطارحات”، إضافة إلى عشرات الكتب الثانوية والرسائل.
يقول السُّهروردي في آخر كتابه “المطارحات”: “وهو ذا قد بلغ سني تقريبا ثلاثين سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارك مطلع، ولم أجد من عنده خبرة عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها”.
لننتبه أنّه، إلى جانب علم السّهروردي الغزير وأفكاره الواسِعة الآفاق، كان يتمتّع بجرأة بالغة في التّعبير عن أفكاره الصّادمة للوعي العام السّائد في القرن السّادس الهجري. كانت تلك الجرأة تتفاقم فتصل إلى حد التهور أحياناً، وقد أشار فخر الدين المارديني إلى تلك الصفة فيه، فقال: “أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره”.
لم يكن يمارسُ التّقية التي اعتمد عليها غيره من المتصوفة إيثارا للسّلامة والعافية، وكان ميّالاً إلى البوح والإفصاح. وكان يتصف بمجموعة من الصّفات الشّخصية: جرأة الشباب، وثقة في النفس، واعتداد بالذات، وشجاعة في الحق، وإقدام فكري، كأنه كان نابغة زمانه… يقول :
ما عَلى مَن باحَ مِن حَرَجٍ…مِثل مابي لَيسَ يَنكتِمُ
كان طبيعيًّا أن يحدُث تصادم مع فقهاء أشعريين يتشبثون بحرفية النص ظاهريًّا، ويكفّرون الفلاسفة ويحاربونهم ويعادون الصوفيّة، درءا لما يحمله التّصوف من شحنات باطنية؛ وبالتالي، توجّسا من تسرّب الرابط الوثيق بين الباطنية والتشيع؛ سواء أكان إسماعيليًّا أو من أي تيار شيعيّ آخر. لكنه، في حقيقة الأمر، كان خوفاً من أن يستعيد أتباع الفاطميين مواقعهم في العالم الإسلامي.
حين أفصح عن بلاغته وسعة علمه واطّلاعه على مختلف الحقول المعرفية والكلامية والفلسفية في ذلك الزمن، كانت النتيجة أن تألب الفقهاء عليه وكثر تشنيعهم عليه، خصوصاً حين قرّبه الملك الظاهر، ابن صلاح الدين الأيوبي، وصاحبه بعد أن أعجب به، فأدى ذلك إلى مزيد من حقد وحسد الفقهاء عليه.
راسل هؤلاء الفقهاء صلاح الدين الأيوبي، وقالوا إنّ ابنه الظاهر يصاحب كافرا ومارقا وملحدا وزنديقاً. تمادوا في تحذيره من إفساد عقائد الناس إذا تركه، فضلا عن إفساد عقيدة ابنه الظاهر المعجب بالشّهاب السّهروردي.
يمكنُ القولُ باقتضابٍ إنّ السّهروردي، لسوء حظّه، راح ضحيّة التطاحنات السياسية والأيديولوجية الموجودة في العصر… بصورة مأساوية! كيف تمّ ذلك؟
في كتابها “صرعى التصوف”، تقول الباحثة أسماء خوالديّة إنّهُ، نظراً لاشتداد الخلاف بين السهروردي والفقهاء، دعاهم الظاهر إلى مناظرة فكرية، وكان من جملة ما دار في المناظرة بين الفقهاء والسهروردي ما يلي:
الفقهاء: أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيا، وهذا مستحيل.
السهروردي: لا حد لقدرته. أليس القادر إذا أراد شيئا لا يمتنع عليه؟
الفقهاء: بلی.
السهروردي: فالله قادر على كل شيء.
الفقهاء: إلا على خلق نبي فإنه مستحيل.
السهروردي: فهل يستحيل مطلقا أم لا؟
الفقهاء: كفرت.
ثمّ تعلّقُ خوالدية على هذه المناظرة، قائلةً إنّها تبينُ أن السهروردي فرق بين النقل والعقل، بين “الإمكان التاريخي” و”الإمكان العقلي”؛ فليست هناك استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية، وليس ثمة اعتراض في الوقت نفسه على صحة النص الديني القاضي بأن النبي محمد خاتم الأنبياء. أما الفقهاء، فقد تمسّكوا بحرفية النص الديني… وتلكَ مأساةُ السّهروردي!
بقليل من التفصيل، يرى الباحث في التصوف يوسف زيدان أنّ الأسلوب الذي حكَم هذه المناظرة يُفصحُ عن آلية في المنطق تسمى قياس الإحراج؛ وهو أسلوب خبيث جدًّا يجعل الطّرف الآخر (السُّهروردي)، مداناً في أي طريقٍ يسلكُه. فلو قال إن الله قادرٌ على أن يرسل نبيا آخر بعد محمد، فقد كفر بأنّ محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين، وبالتالي هو أنكر معلوماً من الدّين بالضرورة. أمَّا لو قال إنّ الله لا يستطيع، فهذا أصعب، لأنه تشْكيك في القُدرة الإلهية… وهكذا، “انتَصر” الفُقهاء على السّهروردي!
لذلك، يعتبرُ زيدان أنّ صلاح الدين الأيوبي ارتكبَ خطيئة حين لم يفكّر جيداً قبل إصدار قرار بإعدام السّهروردي، ولم يركن إلى العقل كما فعل مع طبيبه موسى ابن ميمون حين قرّر أن يعود للديانة اليهودية بعد اعتناقه الإسلام.
السّهروردي… رحلةُ الموت!
يسعى أبو ريان في أثره “أصول الفلسفة الإشراقية”، أن يرصد التّوتر بين السّهروردي والفقهاء، فقال: “إن لكلّ حادثة معيّنة مقدّمات خاصة تفضي إليهَا: فمن ناحيّة، نجد تهوراً وعدم تحفظ من جانب السهروردي؛ ومن ناحية أخرى، نجد حقدا ورغبة في التشفي من جانب الفقهاء، وقد لقي منهم السهروردي عنتا واضطهادا بالغين حتى أنه ذكر في آخر التلويحات: “ولا تبذلنّ العلم وأسراره إلا لأهله، واتق شر من أحسنت إليه من اللئام، فقد أصابتني منهم شدائد”…
من الأبيات الشّعرية الباقيّة، التي أوردها أبو أصيبعة، وقيل إنها من نظم السّهروردي وهو يعلم باقتراب الموت:
قُل لِأَصحابٍ رأَوني مَيتا … فَبَكوني إِذ رأوني حزنا
لا تَظُنّوني بِأَنّي مَيّتٌ … لَيسَ ذا المَيت وَاللَه أَنا
أَنا عصفورٌ وَهَذا قَفَصي … طِرت مِنهُ فَتَخلى رَهنا
وَأَنا اليومَ أُناجي مَلأ … وَأَرى اللَه عَياناً بِهنا
فَاِخلَعوا الأَنفُس عَن أَجسادِها … لِترونَ الحَقّ حَقّاً بَيّنا
لا تَرعكُم سَكرة المَوتِ فَما … هِيَ إِلّا اِنتِقالٌ مِن هُنا
في أبيات أخرى، تظهرُ تنبّؤاتُ السهروردي باقتراب المصير المحتوم:
أَبداً تَحنُّ إِلَيكُمُ الأَرواحُ … وَوِصالُكُم رَيحانُها وَالراحُ
وَقُلوبُ أَهلِ وِدادكم تَشتاقُكُم … وَإِلى لَذيذ لقائكم تَرتاحُ
وَا رَحمةً للعاشِقينَ تَكلّفوا … سرّ المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ
بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهم … وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ
وَإِذا هُم كَتَموا تَحَدّث عَنهُم … عِندَ الوشاةِ المَدمعُ السَفّاحُ
أمّا بخصوص طريقة إعدامه، فقد اختلف فيها المؤرخون. هناك فريقٌ يقول إنه قتل بتجويعه عبر احتجازه بغرفة حتى ترجّل وحيداً، وكان تلبيةً لطلب السهروردي أن يعدم كذلك؛ وفريقٌ آخر يقول إنه خنق بوتر وآخر يذهب إلى إعدامه بالسيف، بينما فريق آخر رجّح إحراقه.
يوردُ ابن أبي أصيبعة رواية متماسكة قال فيها: “لما بلغ الشهاب ذلك، وأيقن أنه يقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يترك في مكان منفرد، ويمنع من الطعام والشراب، إلى أن يلقى الله تعالى. ففعل به ذلك، وكان في أواخر سنة 586هـ في قلعة حلب، وكان عمره نحو 36 عاما”.
إعدام السّهروردي في النهاية، هو امتداد لإعدام الحلاج وعين القضاة وغيرهم من الصّوفية. إنها شطحةُ المتصوف حين تجدُ سيفَ الدين يسلخُ أطرافها.
لكن… ما هي الفلسفة الإشراقية التي يقال إن السّهروردي أسسها؟
هذا ما سنتعرّف عليه في الجزء الثالث والأخير من هذا البورتريه.
- الجزء الأول: شهاب الدين السهروردي… حلقة من مسلسل إعدام التّصوف في التّاريخ الإسلامي! 1\3
- الجزء الثالث: السهروردي المقتول: عرّابُ الفلسفة الإشراقيّة في التاريخ الإسلاميّ! 3\3
مقالات قد تثير اهتمامك:
- إخوان الصفا… رفع الطّلاق بين الشّريعة والفلسفة! 2\4
- اللَّقاحية… حين كانت اللاسُلطة مذهبا سياسيا للعرب! 1/2
- حسين مروة: صوت الفكر الذي اغتاله الرصاص
- المعتزلة… العقل العربي الإسلامي في بداية تشكّله! 1\3
- المأمون و”محنة خلق القرآن”… صورة عباسية أخرى لاستغلال الديني في السياسي! 2/1
- شغب ناعم… قصة جارية حكمت الدولة العباسية 1/2
- تاريخ الصلاة الإسلامية: من تهجد ما قبل الإسلام إلى الصلوات الخمس
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4
- نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: الوعي التاريخي الإسلامي الشقي والمزيف 1/4
- اغتال العقل وقدس القتل: أثر التشدد الديني على المجتمعات