السهروردي المقتول: عرّابُ الفلسفة الإشراقيّة في التاريخ الإسلاميّ! 3 - Marayana - مرايانا
×
×

السهروردي المقتول: عرّابُ الفلسفة الإشراقيّة في التاريخ الإسلاميّ! 3\3

رأينا في الجزء الأول الأوضاع السياسية والفكرية التي سادت في القرن السادس الهجري في الدولة الإسلامية، وبعض اللقطات من سيرة شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي. ثم انتقلنا في الجزء الثاني إلى رصد الأسباب التي عجلت بإعدام هذا المتصوف بعد تأليب الفقهاء لصلاح الدين الأيوبي عليه. (تجدون روابط الأجزاء السابقة أسفل المقال).
في هذا الجزء الثالث والأخير، نقدم نظرة مقتضبة عن الفلسفة الإشراقيّة التي اشتهر بها السّهروردي.

سنعتمدُ في هذه المحاولة على كتاب فلسفة الوجود عند السهروردي: مقاربة في حكمة الإشراق، لخنجر حميَّة، باعتباره من أهم المراجع التي تدرس فلسفة السهروردي بتفصيل.

ما الإشراق؟ 

لفهم الفلسفة الإشراقيّة، ينبغي التركيز على أنّ “النور” يشكّل لبّ فلسفة السهروردي، فعلى أساس النور قامت فلسفته سواء في الوجود أو المعرفة أو القيم. والنور هو المبدأ وهو الصراط وهو المنتهى.

يقول في مقدمة كتابه هياكل النور: “يا قیوم، أيدنا بالنور، وثبتنا على النور، واحشرنا إلى النور”.

لذلك، فقد انتهى إلى مذهب الإشراق، الذي أطلق عليه “علم الأنوار”، أو “حكمة الإشراق”، ويتمحور حول اعتبار النور مبدأ الوجود. وكلما انحدر الوجود من مستوى المصدر الأعلى إلى ما تحته، انخفضت درجة النور. وعندما نصل إلى عالم الأجسام، نجد النور يقل، ثم يتلاشى تماما في عالم الظلام.

خصص السّهروردي جلّ كتاباته لعلم الأنوار وتخطيط العالم العقلي النوراني، وتناوله بشكل أساسي في كتابه “حكمة الإشراق” خاصة في القسم الثاني، الذي يدور حول نور الأنوار ومبادئ الوجود وترتيبها.

كما تعرض له أيضا في “هياكل النور”، الذي يتألّف من سبعة هياكل، يرمز كل هيكل منها لإحدى مسالك المعرفة الإنسانيّة، حيث يتناول الحواس الخمسة الظاهرة والمتخيّلة والقوة الناطقة، وكيف أن هذه المسالك هي في الحقيقة معابد تقودنا تدريجيًّا إلى عالم الأنوار، وكيف أن القوة الناطقة وهي الهيكل السابع تعتبر المدخل إلى العالم الأعلى، حسب ما يبرزه خنجر حميَّة.

كما تناول السُّهروردي النور في كتبه “التلويحات اللوحية والعرشية” و”المقاومات” و”الألواح العمادية” و”المعارج” و”المشارع والمطارحات” وقصة “الغربة الغربية”…

لذلك، يشرحُ الكاتبُ أنّ التعريف العام للإشراق يعني بالضرورة الكشف وظهور الأنوار الإلهية في قلب الإنسان العارف، ویکون الإشراق بالتجلي والمشاهدة والذّوق والمكاشفة وما تتركه من أثر في القلب والروح.

التّجلي، هنا، هو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، والذوق أول التجليات. يعرّف أبو الوفا التفتازاني الإشراق بقوله: “حدوث الإلهامات من الله للصوفي بطريق مباشر، وعلى باطنه أو قلبه”.

بالعودة إلى السّهروردي، يرجع سبب تسمية حكمته بالإشراقية بكونها الحكمة المفضية إلى الحق، والتي تجعل الحق غاية في الصفاء والوضوح والظّهور، ولا شيء أظهر من النور، ولا شيء أغنى منه عن التعريف، وكل شيء يمكن أن يقسم إلى (نور في ذاته) وإلى (ما ليس نوراً في ذاته)، أي ظلمة.

عمليًّا، يقومُ الإشراق على الحدس الذي يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية صعوداً كان أم نزولاً. “ولا يحدث هذا إلا عند تطهر وصفاء الذات والتجرد عن المادة؛ حيث تعتمد حكمة الإشراق على إشراق العقل بالارتياض الروحي والتجرد عن الدنس والرذائل”. لذلكَ، يقول السهروردي: الإشراقيون لا ينتظم أمرهم دون سوانح نورية. حتى إن وقع لهم شك، يزول عنهم بالنفس المنخلعة عن البدن”.

هكذا، يكون الإشراق “إذن هو تلقي المعرفة الإلهية عن العالم العلوي الروحاني بعد سلوك طريق التّجرد من رياضة روحيّة ومجاهدة للنفس حتى تصفو من کدورات البدن. حينئذ، تشرق فيها العلوم والمعارف”، حسب الباحث.

كلما كان البدن مانعاً للنفس من تحقيق رقيها وتحررها، كان الهروب منه واجباً. هذا الهروب يكون بالعلو في مراتب الوجود ليزداد ما تستقبله من إشراق حتى ترقى إلى العالم الذي صدرت منه. يقول السهروردي في دعائه: “الإشراق سبيلك اللهم ونحن عبيدك”، “لأنك أنت المبدأ الأول والغاية القصوى”.

ولا يتم الإشراق إلاّ بحلول النور في الذات العارفة؛ فالنور مبدأ الحقيقة الإشراقيّة التي هي هدف المعرفة. يفرق السهروردي فعلي “الإشراق” و”المشاهدة” من الاختلاف في الاتجاه، والاتفاق من حيث الجوهر.

الإشراق عند السهروردي هو السبيل إلى الفيض العلوي لمن امتلأ قلبه حكمة فأحبّها ووضع لها شروطاً للوصول إليها، كالتجرد والانقطاع عن الدنيا، ومشاهدة الأنوار الإلهية.

هنا، يظهرُ مكمنُ قوّة السهروردي حين ربط بين الفلسفة والتصوف، وسمى الفيلسوف المتصوّف بالحكيم المتأله، أو الذي يتذوّق الحكمة، وعمد السهروردي إلى القصص في كتابه “التلویحات” ليبين رؤياه الوفية حيث يرد كل شيء إلى نور الله وفيضه.

في العديد من المواضع، يستبدل السهروردي الإشراق والمشاهدة بفعل “العشق” و”القهر”، حيث العشق، به ينتظم الله الوجود صعودا، وبالقهر ينتظمه نزولاً.

على أيّ، يهدفُ الإشراق إلى الوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الذوق والكشف، وليس عن طريق البحث والبرهان العقليين.

يقول قطب الدین الشيرازي في شرحه على كتاب (حكمة الإشراق للسهروردي): “إنها الحكمة المؤسسة على الإشراق الذي هو الكشف، أو حكمة المشارقة الذين من أهل فارس، وهو أيضا يرجع إلى الأول، لأن حكمتهم کشفية ذوقية، فنُسبت إلى الإشراق الذي هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النفوس عند تجرّدها؛ وكان اعتماد الفارسيين في الحكمة على الذوق والكشف، وكذا كان قدماء يونان، خلا أرسطو وشیعته، فإن اعتمادهم كان على البحث والبرهان لا غير”.

الإشراق بهذا المعنى عرفته الفلسفات الشرقية القديمة، وتأتي “الهرمسية في مقدمة هذه الفلسفات، والهرمسيون يفضلون الوحي والإلهام على الاستدلال العقلي في المعرفة. والإشراق جوهر نظرية الوجود في الأفلاطونيّة الحديثة التي ترى أن الله نور الأنوار ومصدر جميع الكائنات.

وهو عند الصوفية ظهور الأنوار العقلية وفيضانها بالإشراقات على الأنفس عند تجردها، وهذه الحكمة الإشراقية نجدها في قصة حي بن يقظان وكيف ترقی النفس لتصل إلى الله؟)، كما نجدها في قصة الغربة الغربية”، يقول الكاتبُ حميّة.

في تفسير النور

من الواضح أنّ السهروردي من الفلاسفة الأكثر توظيفا لمفهوم النور، فالفلسفة الإشراقية هي فلسفةٌ في الأنوار، ومبدؤها أن الله نور قد خرجت من نوره كل الأنوار التي يقوم عليها العالم المادي والروحي.

لذلك، يرى حميّة أن آثار السهروردي قائمة على فكرة النور، وتحتشد في نصوصه ألفاظ النور والتنوير المنسوبة إلى الله: نادی مناد من الملائكة حفَّت من حول عرش النور أنْ يا أيها التائهون في مَهمَهِ البوار، إن أبوابَ السّموات تُفتح في صبيحة كل جمعة. طلعت شموس عن مغاربها، فهلموا إلى الباب الأكبر .. يا من غواشي نوره أضاءت الذوات الذاکرات”.

أضفى السّهروردي “على النور – الذي غدا مبدأ مطلقا – كل مقومات الأنطولوجية التقليدية. فالوجود لدى أرسطو أو الذات المطلقة لدى المتكلمين، هو “نور الأنوار، الذي تفيض عنه بقية الأنوار، كما تفيض العقول عن الواحد في نظرية الفيض عند الفارابي وابن سينا”.

… فـ”الله نور الأنوار”، وهو الغني الحقيقي المطلق فلا تتوقف ذاته ولا کمال له على غيره، وهو الذي لا تتعلق ذاته بغيره ولا حال لذاته هي کمال له، وفق فلسفة السهروردي.

لذا، خرجت من نوره جميع الأنوار التي هي عماد العالمين المادي والروحي. إن النور الإلهي مبدأ الخلق والوجود؛ فالله أخرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود، والنور الإلهي مبدأ الإدراك والمعرفة، يقول الكاتب.

ثمّ يضيفُ أنّ الأساس القرآني لهذا المعتقد، هو هذه الآية: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”.

يغدو النور عند السهروردي مبدأ وجوديًّا، بل هو المبدأ الأوحد، فليس الظلام مبدأ آخر كما تقول الثنوية، وإنما هو مجرد انخفاض في درجة النور.

لذلك، ثمّة فرق بين النور المحض العقلي والنور المحسوس.الأول هو المبدأ والثاني أثر لهذا المبدأ؛ فالنور العارض هو كل نور مشار إليه مثل نور الشمس والكواكب، والنور المحض لا يحل بجسم وليس له جهة؛ ومن ثم لا يشار إليه إشارة حسية بل عقلية بصريح العرفان.

يقول السُّهروردي: “النور المجرد لا يكون مشار إليه بالحس. ولما علمت أن كل نور مشار إليه، فهو نور عارض، فإن كل نور محض لا يشار إليه، ولا يحل جسما ولا يكون له جهة أصلاً”.

…عموماً، تبقى هذه الفلسفة غزيرة ولا يسع المقامُ لعرض كلّ مناقبها عند السُّهروردي. أمّا الأساسيّ، فهو: لماذا قُتلَ السّهروردي في أوج شبابه؟ هل لأنّه كان مُتصوّفاً؟ وهل كان ضروريًّا أن تُقابل بعض الرياضات والمجهاداتوالسياحات، بمصير محتوم: الموت؟

مثل هذه الأسئلة تحرجُ القِراءات الرّسميّة المؤدلجة للدّين، فالفكر الذي  قتل الحلاّج هو عينه الذي أعدَم السُّهروردي وبينهما عينُ القضاة.

لكنّ التاريخ بيّن أن التّجربة الصّوفية كانت أعمق من التّعاطي الظاهري مع النصّ الدينيّ، وقوة التصوف في اللغة وغموضها وتجريدها. هم قتلوا السهروردي… لكن، هل قتلوا الحقيقة؟

نهائيًّا وأبداً…

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *