صناعة الجوع: حين يضرب الجفاف الساحل الإفريقي، تأتي السفن محملة بالإغاثة… وترحل محملة بالغذاء! 4/3
خلال الجفاف، زادت صادرات كثير من بلدان الساحل الإفريقي حتى بلغ بعضها مستويات قياسية… للمفارقة، تبرز الباحثة الأمريكية فرانسيس مور لابيه، كيف أن السفن التي كانت تجلب الإغاثة في وقت ما إلى ميناء داكار مثلا، كانت ترحل محملة بالفول السوداني والقطن والخضروات واللحم.
المجاعة إحدى أكثر الآفات التي تعصف بقسم واسع من سكان العالم. هذا واقع، بيد أن أيادي الاتهام تصوب دائما نحو الطبيعة، والحال أن هذا القول يشبه الخدعة، كما عرفنا في الجزء الثاني من هذا الملف حسب الباحثة الأمريكية فرانسيس مور لابيه.
نواصل إذن ملفنا هذا عن صناعة الجوع في جزئه الثالث، الذي نخصصه للنسق الذي يتسبب في المجاعة بإفريقيا، دائما بالاعتماد على كتاب مور لابيه، “صناعة الجوع… خرافة الندرة”.
فهم عميق لبيئتهم، ذاك الذي طوره صغار المزارعين في الساحل الإفريقي على مدى قرون. أدركوا فترات الراحة التي تحتاجها الأرض، وزرعوا تشكيلة واسعة من المحاصيل كل منها يلائم بيئة مصغرة مختلفة، بيد أنها تتيح معا تكاملا غذائيا.
مالي مثلا، كانت تعرف فيما مضى بكونها سلة غذاء إفريقيا. كان يمكن الاعتماد عليها دائما في تجارة الغلال في أوقات احتياج جاراتها. العادة قبل الاستعمار كانت إقامة مخازن غلال صغيرة في المزارع والقرى للاستهلاك في السنوات الأخرى.
اقرأ أيضا: سناء العاجي تكتب: إنهن يتزوجن النساء!
لكن، ما الذي حدث لهذا النظام الذي تطور قصد مواجهة الجفاف الدوري؟
في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، قبل الغزو الفرنسي حتى، كانت الحضارات الإفريقية قد تعرضت لتدمير شديد نتيجة قرنين من التفريغ السكاني القسري بعدما أخذ الملايين من أفرادها الشباب كعبيد إلى العالم الجديد.
الحقيقة أن كل دولة في الساحل الإفريقي أنتجت فعلا ما يكفي من الغلال لإطعام كل سكانها خلال أسوأ سنوات الجفاف، تؤكد الباحثة الأمريكية. والحقيقة الثانية أن هناك من يرون هذا الإقليم غنيا جدا، لا أرضا مهجورة، ويستندون في ذلك إلى مستودع مياهه الجوفية وأنهاره.
ثم، حين قدم الفرنسيون، أخذوا يبحثون عن وسائل تجعل السكان يدفعون التكاليف الإدارية للاحتلال؛ وكان حلهم هو إجبار الفلاحين على زراعة المحاصيل للتصدير، بخاصة الفول السوداني والقطن.
كان القطن يذهب إلى مصانع النسيج الفرنسية بعدما سيطرت بريطانيا على معظم مصادره، في حين كان يخصص الفول السوداني كبديل رخيص لزيت الجوز الشائع الاستخدام في فرنسا آنذاك.
وبينما كانت المحاصيل المتكاملة مثل الشوفان والبقول تزرع سابقا في دورة تبادلية، زُرع محصول إثر الآخر من الفول السوداني والقطن حتى أرهقت التربة.
اقرأ أيضا: تقرير حديث: نحو 113 مليون شخص في العالم يعانون من “الجوع الحاد”
هكذا، للحفاظ على صادرات القطن، ونتيجة لإرهاق التربة، أُجبر الفلاحون على توسيع المساحة المزروعة قطنا بتخفيض زراعة الشوفان والذرة الصفراء، في حين كان هؤلاء يزرعون سابقا أنواعا مختلفة يتطلب كل منها كمية مختلفة من المطر.
ثم، حين حصلت دول الساحل الإفريقي على استقلال شكلي في الستينيات، كانت الحكومات التالية تفوق الفرنسيين عادة في فرض إنتاج محاصيل للتصدير.
بينما كان الفرنسيون في مالي مثلا عام 1929، يفرضون كضريبة أن يزرع كل من تعدى 15 عاما ما بين 5 و10 كيلوغرامات من القطن، كانت الحكومة المالية مع عام 1970 تجبر كل فلاح بالغ على جني 48 كيلوغراما من القطن لمجرد دفع الضرائب.
فضلا عن استعمال وسائل زراعة مدمرة، والحرث العميق للأرض الذي تسبب في تآكل مساحات شاسعة، أدى التوسع في إنتاج محاصيل التصدير إلى استنفاد الأرض، التي كان يسمح لها سابقا بالراحة لعدد من السنين وكانت تسمدها قطعان الرعاة.
اقرأ أيضا: ماذا تعرف عن الاستشراق؟ الوجه الآخر للغزو الغربي للشرق… 1\2
هكذا، باستنفاد الأرض وبظهور الأسمدة التي زادت نتاج بعض محاصيل التصدير، دُفع الفلاحون إلى تخصيص الأرض المتبقية للمحاصيل التي تدر دخلا أكثر.
الجفاف ظاهرة طبيعية فيما المجاعة ظاهرة إنسانية. أما ما يقلل العواقب البشرية للجفاف، أو يضاعفها، فهو على وجه الدقة النظام الاقتصادي والسياسي، سواء في الساحل الإفريقي أو في العالم بأسره.
تقول مور لابيه إنه لمن المحرج لمن يلومون الجفاف وزحف الصحراء كأسباب للمجاعة في الساحل الإفريقي، أن يفسروا الكميات الضخمة من السلع الزراعية التي ترسل خارج الإقليم، حتى خلال أسوأ سنوات الجفاف.
فخلال الجفاف، زادت صادرات كثيرة من بلدان الساحل الإفريقي حتى بلغ بعضها مستويات قياسية… وللمفارقة، تبرز مور لابيه، السفن التي كانت تجلب الإغاثة في وقت ما إلى ميناء داكار مثلا، كانت ترحل محملة بالفول السوداني والقطن والخضروات واللحم.
اقرأ أيضا: ملايين “العبيد” يعيشون بيننا في عالم اليوم… 2/1
مور لابيه توضح أن السلع الزراعية التي تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، المصدرة من الساحل الإفريقي خلال سنوات الجفاف، كان يذهب أكثر من 60 بالمائة منها إلى المستهلكين في أوروبا وأمريكا الشمالية، والباقي إلى ميسوري الدول الإفريقية الأخرى. أما السيطرة على التسويق والأرباح، فكانت حينذاك (وربما إلى الآن) بيد الشركات الأجنبية الفرنسية.
صحيح أن جزءا من أرباح التصدير يستخدم في استيراد الغذاء، بيد أنه لا يصل إلى الفقراء، الذين ينتج عملهم القطن والفول السوداني والماشية، بل تستهلكه الطبقات الميسورة في المناطق الحضرية.
الحقيقة أن كل دولة في الساحل الإفريقي أنتجت فعلا ما يكفي من الغلال لإطعام كل سكانها خلال أسوأ سنوات الجفاف، تؤكد الباحثة الأمريكية. والحقيقة الثانية أن هناك من يرون هذا الإقليم غنيا جدا، لا أرضا مهجورة، ويستندون في ذلك إلى مستودع مياهه الجوفية وأنهاره.
بإمكانية الري هذه، وبوجود شمس استوائية، يقدّرون أن الساحل الإفريقي يمكنه إنتاج غلال أكثر ست مرات على الأقل، دون ما سيصدره من كميات هائلة من اللحم والخضروات والفاكهة للأسواق المربحة في العالم.
اقرأ أيضا: العيد والحرب: كيف حولت رغبة الإنسان في التجديد، العالمَ، من الفرح إلى الدمار؟ 2/1
هكذا إذن، لا يمكن أن يعد الجفاف سببا للمجاعة، حسب ما تخلص إليه مور لابيه. الجفاف، بالنسبة لها، ظاهرة طبيعية فيما المجاعة ظاهرة إنسانية. أما ما يقلل العواقب البشرية للجفاف، أو يضاعفها، فهو على وجه الدقة النظام الاقتصادي والسياسي، سواء في الساحل الإفريقي أو في العالم بأسره.
في الجزء الرابع والأخير: المعونة وهم يوقع في مصيدة الديون ومن ثم التبعية التامة.
لقراءة الجزء الأول: صناعة الجوع: هل الندرة مجرد خرافة؟ 4/1
لقراءة الجزء الثاني: صناعة الجوع: الطبيعة بريئة والمجاعة ضرب من تكالب البشر على البشر! 4/2
لقراءة الجزء الرابع: صناعة الجوع: وهم المعونة الذي يوقع في مصيدة الديون ومن ثم التبعية التامة! 4/4