صناعة الجوع: هل الندرة مجرد خرافة؟ 4/1
توجد في العالم أقلية متخمة اعتل أفرادها من الإفراط في الغذاء. بالمقابل، ثمة أكثرية تتعرض للجوع وسوء التغذية المفضي إلى الموت… الغذاء أحد الأسلحة التي تستخدم في إخضاع الشعوب الفقيرة، حتى أن البعض يعتبر التجويع صناعة، وهي الفكرة التي نتناولها على امتداد أجزاء هذا الملف.
بينما تشتري إحدى المعلبات وتنبهر بغلافها الزاهي واسمها البريء المغري، ربما قد لا تدرك أن وراءها مآس ونكبات لحقت بأولئك الذين كدوا لينتجوا ما بها من طعام فلم يستمتعوا به ولا ذاقوا ولا أطفالهم طعمه.
في العالم، توجد أقلية متخمة اعتل أفرادها من الإفراط في الغذاء. بالمقابل، ثمة أكثرية تتعرض للجوع وسوء التغذية الذي يفضي إلى الموت… الغذاء أحد الأسلحة التي تستخدم في إخضاع الشعوب الفقيرة. لذا، لا غرابة أن يعتبر البعض التجويع صناعة.
“صناعة الجوع… خرافة الندرة”[1]، مثلا، كتاب للباحثة الأمريكية فرانسيس مور لابيه بمشاركة الباحث جوزيف كولينز، توضح فيه كيف أن الجوع صناعة مثل أي صناعة، يوجد من يصدرها ليستفيد ويكسب منها.
ومع أن هذا الكتاب صدر عام 1979، ومن ثم فإن معطياته بحاجة إلى تحيين، إلا أن الأرقام التي يمكن تحيينها تظل أسوأ، لذا فإنه لا زال يمكنه أن يفتح أعيننا على أفكار جديدة بخصوص المجاعة… أفكار نخصص لها هذا الملف.
اعتدنا على القول إن الجوع نتيجة لندرة الغذاء والأرض، ومن ثم فإننا نلوم الطبيعة على مشكلات من صنع البشر. يوجد في العالم نحو 821 مليون جائع أو شخص سيء التغذية وفقا لتقرير نشرته منظمة الأمم المتحدة عام 2017، بيد أن هذا الجوع تواجهه، بالمقابل، الوفرة.
اقرأ أيضا: تقرير حديث: نحو 113 مليون شخص في العالم يعانون من “الجوع الحاد”
ليس هنالك أي أساس لفكرة أنه لا يوجد من الغذاء ما يكفي الجميع، والأرقام العالمية، تقول مور لابيه، كفيلة بدحض الاعتقاد الشائع بأننا بلغنا حدود الأرض. لكن الأهم من كل هذا، هو: هل توجد موارد كافية لإنتاج الغذاء في البلدان التي تشهد أعدادا مهولة من الجوعى؟
في معظم البلدان التي بها جوعى، يسيطر كبار الملاك على شتى الأراضي، بينما هم الأقل إنتاجية، فأغلبهم يحوزون الأرض من أجل المكانة أو الاستثمار، لا كمصدر للغذاء، ومن ثم، يتركون مساحات كبيرة دون زراعة.
بلى… وفق الباحثة الأمريكية؛ الموارد موجودة، لكنها تعاني دائما من قلة أو سوء الاستخدام والتوزيع، ما يتسبب في خلق الجوع للكثيرين والتخمة للقلة… في إفريقيا مثلا وأمريكا اللاتينية، لا يزرع سوى أقل من 25 بالمائة من الأراضي التي يمكن زراعتها.
العقبات التي تحول دون تحرير طاقة هذه الأراضي الإنتاجية في معظم الحالات ليست فيزيائية، إنما اجتماعية؛ فالسيطرة غير العادلة على الموارد الإنتاجية تحول دون تطورها.
في معظم البلدان التي بها جوعى، يسيطر كبار الملاك على شتى الأراضي، بينما هم الأقل إنتاجية، فأغلبهم يحوزون الأرض من أجل المكانة أو الاستثمار، لا كمصدر للغذاء، ومن ثم، يتركون مساحات كبيرة دون زراعة.
اقرأ أيضا: تقارير: المغرب بعيد عن المجاعة لكن التغيرات المناخية تهدد أمنه الغذائي!
الأرض التي تحتكرها القلة تعاني حتما من قلة الاستخدام، وأكثر من ذلك، ما ينتج منها لا يستثمر في التنمية الريفية، إنما يمتص في استهلاك ترفي أو يستثمر في صناعات تناسب أذواق الميسورين.
الواقع أن الإنتاجية المنخفضة لهؤلاء تنتج من الظلم الاجتماعي الذي لا يساعد المزارعين الصغار، الفقراء، على تحسين الزراعة؛ فالملاك الكبار ذوو النفوذ يحتكرون خدمات الإرشاد الزراعي والأسواق، وأساسا “القروض غير الربوية”؛ ذلك أن مقرضي النقود يتقاضون من الفقراء عادة فوائد تتراوح بين 50 و200 بالمائة.
المحاصيل الأساسية في كثير من البلدان تحولت إلى محاصيل تصدير، لا إلى الإنسان، إنما إلى الماشية حتى… المنيهوت مثلا كان الملجأ الأخير أمام الفقراء لملء بطونهم، قبل أن تكتشف الشركات الأوروبية أن طعام الفقراء هذا، سيكون علفا رخيصا للماشية الأوروبية.
ثم إنه، لبناء وصيانة شبكات الري والصرف أو مقاومة الآفات، مثلا، من الضروري أن يعمل جميع من في القرية معا ليكونوا مؤثرين ضمن هذه العملية، بيد أن هذا غير وارد.
نعم، تقول مور لابيه، فحيث توجد ملكية شديدة التفاوت للأرض وغيرها من الموارد الإنتاجية، لا مجال هناك للتعاون؛ فكبار الملاك لا يودون أن يتقدم جيرانهم الفقراء لأن هؤلاء سيكونون أقل قابلية للاستغلال من قبلهم.
ولا ينبغي وفق الباحثة الأمريكية أن نكتفي بقياس الأراضي غير المستعملة لإطعام الجياع، بل ينبغي أيضا أن نقدر سوء استخدام موارد الغذاء، التي تتحول في الغالب من تلبية احتياجات الغذاء الأساسية إلى إشباع من أكلوا فعلا!
اقرأ أيضا: هل تعلّم العَالمُ الدّرسَ من حروبه؟ 3/3
الحقيقة أن قسما كبيرا من هذا الوضع أسهم فيه الاستعمار في بلدان كثيرة، بعدما نزع ملكية أفضل الأراضي الزراعية المستعمرة وخصصها لمحاصيل التصدير، فيما كان يدفع المزارعين المحليين إلى أراض هامشية لا تصلح مطلقا للزراعة الكثيفة.
حين تخضع طاقة الأرض الإنتاجية لقلة الاستخدام، وحين يستنزف نتاجها بصورة متزايدة لإطعام الفئات حسنة التغذية، لا يمكن اعتبار الندرة سببا للجوع… هكذا، الجوع حقيقي، والندرة وهم!
هكذا، قد نجد أن معظم سكان بلد ما، بحاجة ماسة إلى الغذاء، إلا أنه طالما لا يملكون من النقود ما يجعل هذه الحاجة محسوسة في السوق، فإن الموارد الزراعية ستتحول إلى خدمة أولئك الذين يستطيعون الدفع، سواء داخل البلد أو في الأسواق الخارجية التي تقدم ثمنا مرتفعا… هكذا، يتحول الإنتاج إلى محاصيل الترفيه بينما تهمل المحاصيل الغذائية.
المحاصيل الأساسية في كثير من البلدان تحولت إلى محاصيل تصدير، لا إلى الإنسان، إنما إلى الماشية حتى… المنيهوت[2] مثلا كان الملجأ الأخير أمام الفقراء لملء بطونهم، قبل أن تكتشف الشركات الأوروبية أن طعام الفقراء هذا، سيكون علفا رخيصا للماشية الأوروبية.
اقرأ أيضا: من نيويورك، هشام الرميلي يكتب: بائعة الكبريت وراعي الغنم
النخبة الحضرية في تايلاند، يورد الكتاب كمثال، كانت تشتري مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية لزراعة المنيهوت. ولما كانت الزراعة المستمرة تضعف من إنتاجية التربة، كان من الضروري الحصول على أراض جديدة لإنتاج نفس القدر من المحاصيل… النتيجة: بين ليلة وضحاها، احتل المنيهوت أزيد من مليوني فدان في تايلاند وصار محصولها الرئيسي للتصدير.
حين تخضع طاقة الأرض الإنتاجية لقلة الاستخدام، إذن، وحين يستنزف نتاجها بصورة متزايدة لإطعام الفئات حسنة التغذية، لا يمكن اعتبار الندرة سببا للجوع…
هكذا، يكون الجوع حقيقيا، والندرة وهما… لأن الجوع في الحقيقة نتاج للتفاوت الحاد في السيطرة على موارد إنتاج الغذاء، الذي يعوق تطورها ويشوه استخدامها.
في الجزء الثاني: الطبيعة بريئة والجوع ضرب من تكالب البشر على البشر!
لقراءة الجزء الثاني: صناعة الجوع: الطبيعة بريئة والمجاعة ضرب من تكالب البشر على البشر! 4/2
لقراءة الجزء الثالث: صناعة الجوع: حين يضرب الجفاف الساحل الإفريقي، تأتي السفن محملة بالإغاثة… وترحل محملة بالغذاء! 4/3
لقراءة الجزء الرابع: صناعة الجوع: وهم المعونة الذي يوقع في مصيدة الديون ومن ثم التبعية التامة! 4/4