الشّطار والعيارون: “اللصّوص” الذين ناصروا الخلافة العباسيّة 2\2
في السنوات الأولى للحكم العسكري السلجوقي، الذي فرض على بغداد، أفل نجمُ العيّارين. ومع ذلك سرعان ما عادوا لغايتهم الدائمة: الدفاع عن الأرض.
تابعنا في الجزء الأول بداية الاهتمام بالتأريخ لحركة الشطار والعيارين، ومقاومتهم لجيش المأمون خلال حربه الأهلية ضد شقيقه الأمين، وفيما بعد، نضالهم المستميت ضدّ النفوذ البويهي.
في هذا الجزء، نتابع خيوط حكاية هذه الجماعة الرافضة دائما لكلّ تسلّط أجنبي على بغداد؛ وتحديدا، رفضهم لتسلط السلاجقة.
تجدر الإشارة أنّ طبقة العيّارين والشطّار تطوّرت في العراق، وتمّت تسميتهم بعدّة أسماء من قبيل: الزعار والأوباش والطرارين والفتيان، رغم كل النقاش الدائر بخصوص هذه النعوت… كما أصبح لهم نمطٌ معيّنٌ من اللباس يخصّهم دون غيرهم. يقول عنهم أحد الباحثين إنّهم كانوا يحلقون رؤوسهم، ويضع كل منهم خوذة من الخوص على رأسه، كما كانوا يتعرون بشكل كامل، فلا يرتدون إلا خرقة صغيرة في وسطهم، وكانوا دوماً يحملون معهم الحبال. [1]
العيارون ضدّ السلاجقة!
حين دخل السلاجقة بغداد، تصلّبت السّلطنة من جديد. استرجعت بغداد نفحة من الهدوء والسلام الذي غاب عنها لزمن طويل.
في السنوات الأولى للحكم العسكري السلجوقي، الذي فرض على بغداد، أفل نجمُ العيّارين. ومع ذلك سرعان ما عادوا لغايتهم الدائمة: الدفاع عن الأرض.
على إثر ذلك حدثت مواجهات بين السّلطنة الدخيلة والعيارين. تراوحت بين النجاح والإخفاق… وكثير من الصّمود.
هكذا، في النصف الثاني من القرن الرابع، وفي عزّ التسلط السلجوقي على العراق، لم تهدأ حركات ونشاطات العيارين والشطار، ولم تخفت تماماً؛ بل صارت أكثر مما كانت عليه في فترة النّفوذ البويهي.
للتّشويش على الشحنة (الحاكم العسكري لبغداد)، فتح العيارون والشطار، سنة 449 ھ، “عدة دكاكين في نهر الدجاج، ونهر طابق، وسوق العطارين، وكسروا أبوابها وأخذوا ما فيها من الأموال وغيرها. وبالطّبع أدى ذلك إلى إلحاق الأذى بأصحاب المحال، وانتشار السلب والنهب”. [2]
تعنّت العسكر التّرك تجاههم، إضافة إلى نهجُ العنف والقسوة والتنكيل الذي ركن إليه السلاجقة في تعاملهم الفجّ مع العامّة، كل هذا جعل الشطار والعيارين يركنون للعمل السريّ في البداية، درءاً للملاحقات الجدية التي اعتمدها الاحتلال السلجوقي. على هذه الحال، بقي الشطار حتى عهد خلافة المستظهر بالله أبي العباس بن المقتدي بأمر الله وسلطة ركن الدولة “برکیاروق بن ملكشاه”.
في سنة 515 ھ، شكا صاحب الشحنة (الحاكم العسكري لبغداد) إلى الديوان تصرفات العيارين، وخاصة الاعمال الفوضوية واللصوصية، واستأذن من الديوان في أخذ من يشتبه في انتمائه إلى هذه الحركة، فأذن له فأخذ قسما منهم، وبدأ باتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة للحد من حركاتهم وهجماتهم، فتناقصت نشاطاتهم واستمرت هذه الأحداث ما يقارب خمسة عشرة سنة.
آمنت الحركة بضرورة الإبقاء على الخلافة لتحصين بغداد. لأجل ذلك، تظافر العيارون والشطار مع باقي فئات المجتمع البغدادي من أجل مقارعة السلاجقة كما حدث في سنة 520 هـ، حيث ساندوا الخليفة الراشد عندما هدد السلاجقة بغداد. كما كان لهم موقف مماثل سنة 521 هـ، إذ وقفوا إلى جانب الخليفة وقاوموا جنود السلطان محمود الثاني عندما أراد الهجوم على دار الخلافة”. [3]
لكن… حين تطورت الأمور بشكل أسوأ، وتمادت شحنة بغداد في حيفها ضدّ العيّارين وباقي فئات المجتمع، عبر فرض الضرائب، وإهانتهم أثناء تحصيل أموال العامة، انتقم العيارون سنة 530 هـ عبر الهجوم على إحدى دور العمال التابع للشحنة، وقاموا بنهب أموالهم نكاية في هذه الشحنة.
لعلّ هذا يبيّن فكراً فوضويًّا للانتقام من الظلم والجور السلجوقي، من خلال العنف والسرقة والنهب. بمعنى أنهم يحملون مبدأ، كما يرى معظم الباحثين.
لذلك، اشتهر في تلك الفترة “ابن بكران العيار” في بغداد والعراق، خصوصاً منذ أوائل خلافة المقتفي لأمر الله العباسي، وعهد السلطان السلجوقي مسعود بن ملکشاه. كان لهذا العيار أتباع كثر. خافه والي بغداد الشريف أبو الكرم، لكنهم تمكنوا من القضاء عليه قبل أن يشتدّ بأسه وقوّته، واعتقل رفيقه “ابن البزاز”.
احتجاجاً على مقتل “ابن بكران”، نفّذت الحركة “عمليّات خاصّة”، فأخذوا الناس مجاهرة. “كانوا يدخلون الدروب والحمامات والمحلات جهارا ويأخذون أموالهم، واتخذوا لأنفسهم عيوناً على الناس، فإذا رأوا شخصا قد باع شيئا أخذوه منه فتضجر الناس منهم، وبدأ الناس لا يخرجون وقت المغرب وحملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم وما يملكون. وبدأوا بحمل أمتعتهم ورحالهم إلى دار الخلافة”. [4]
شاركت العامة العيارين والشطار سنة 543 ھ، بحركة سياسية ضد السلاجقة ورجالاتهم، بسبب ظلمهم وتعسفهم وغلّهم. تمكنوا أن يكبدوا القوات السلجوقية عدداً كبيراً من القتلى والجرحى. رجّح باحثون أن الهدف الرئيسي لمشاركة العيارين في هذه الحركة هو إخطار السلطة بضعفها، وفي نفس الوقت، زرع الخوف في نفوسهم لئلا يطاردوهم.
عندما حاصر السلطان السلجوقي مدينة بغداد سنة 551 ھ، لمدة شهرين، “وقف العامة من العيارين والشطار والتجار والحرفيين إلى جانب الخليفة وبشكل مشرف لحماية الخليفة والمدينة من عسكر السلطان السلجوقي، فعبروا عليهم وقاتلوهم ورموهم بالنشاب والنفط وأحرقوا السفن الخاصة بالسلاجقة التي كانت تمر عبر نهر دجلة”.[5]
انتهز العيارون الفرصة، فخرج رجل منهم يقال له “أبو الحسن العيار“، وأخذ جماعة من الرجال ومعهم الشطار، ونزلوا السور وكبسوا طوالع الجيش وسرقوهم، وأشاعوا الخوف والاضطراب فيهم، إضافة إلى قتل العديد من الجنود وخاصة في الليل.
جماعة ثائرة؟
من الواضح أنّ الأفعال، التي عرضنا بعضاً منها، تنمّ عن المواقف السياسيّة “القوميّة” لطبقة “العيارين والشطّار” في الدفاع عن العراق ومصالحها في وجه تسلّط السلاجقة. إنها تحيلنا إلى الثوريّة الواضحة في أعمال الحركة العنيفة، وقد يجوز تفسير السّلب والنّهب على أساس البحث عن المساواة ومعاداة الأرستقراطية الطبقية… ولو كان ذلك بأشكال فظّة وغير مقبولة أخلاقيًّا!
يعتقدُ أحد الباحثين أنّ “هؤلاء اللّصوص الشطار والعيارين، على الرغم مما أطلقه عليهم الخصوم والمؤرخون من صفات مذمومة، إلا أنهم تاريخيًّا كانوا أصحاب قضية، وأنهم واقعيا تميزوا بآداب وتقاليد وسمات تميزهم عن سمات اللصوص -بالمعنى اللغوي والقانوني- مثل الشجاعة والمروءة والشهامة والنجدة والصبر على المكاره والبعد عن الشهوات، والمحافظة على المحارم والوفاء بالوعد والحفاظ على العهد، وعدم التعرض لأي شخص استسلم لهم”. [6]
كان شعارهم: الثورة على السلطة وأصحاب المال. هذا يجعلنا نفهم مضموناً يريد رفض الأوضاع السياسية والاقتصادية الطّاغيّة. لهذا، انحصر نشاطهم ضد حكم العسكر والجند المرتزقة والتسلط الخارجي وتخاذل السلاطين والخلفاء وعجز ولاة الشرطة والأثرياء وكبار التجار والأمراء ومن والوهم.[7]
كان أن صار هؤلاء الشطار والعيارون مصدر قلق للسلطات حين تميزت حركاتهم بطابع ثوري ضد الحكام، وزاد من خطرهم أن صار لهم تنظيم مسلح يخضع لرئاسة تراعي أمورهم في بعض الأحايين.[8]
على أيٍّ، فمهما حاول خصومهم الانتقاص من قيمتهم والحط من دورهم، أو التسفيه من قضيتهم، فإن الذي لاشك فيه، أن المجتمع الشعبي قد تعاطف مع هؤلاء الشطار والعيارين، ورأى في “قضاياهم النبيلة” قضاياه…
الدليل على ذلك، تبني المجتمع حركتهم في إبداعه الشعبي، فيما يعرف بأدب الشّطار والعيارين، فتغنى ببطولتهم وأشاد برسالتهم، الأمر الذي فرض نفسه على التطور اللغوي للكلمتين “عيار، وشاطر” فأشار اللغويون العرب المتأخرون إلى ذلك حين قالوا “والعرب تمدح بالعيار وتذم به”، وهي عبارة بالغة الدلالة في التعبير عن طرفي الصراع، وما بينهما من تناقض في الرؤية والتقييم. [9]
أما كلمة “شاطر” فقد تحولت إلى صفة مدح، شائعة في التعبير الشعبي الدارج في عدد من الدول المشرقية، بعد أن كانت صفة قدح في المعجم اللغوي القديم.
كان المقصدُ من هذا الملف أن نوضّح دفاع الشطار والعيارين على بغداد ضد النفوذ الفارسي إبان فتنة الأمين والمأمون، وكذلك ضد النفوذ البويهي، وفيما بعد ضد النفوذ التركي. إنّهم سكّان “وطنيّون” مستعدون للوقوف ضدّ أي غزو أجنبي.
هؤلاء “الرعاع” أبطال… قبل أن يكونوا صعاليكاً أو لصوصاً!
هوامش:
[1]محمد سعيد رضا، عن ورقته البحثية،حركة العيارين والشطار: العنف المدني في المجتمع العباسي خلال القرن الرابع الهجري.
[2] اسماعيل محمد علي جاموسي، عن ورقته البحثيّة : حركة العيارين في العصر السلجوقي.
[3] المرجع نفسه.
[4] نفسه.
[5] نفسه.
[6]محمد رجب النجار، الشطار والعيارين، حكايات في التراث العربي، سلسلة كتب ثقافية شهرية، عالم المعرفة، الكويت.
[7] المرجع نفسه.
[8] نفسه.
[9] نفسه.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- إخَوان الصّفا… هذه حكايةُ رواد الفكر التنويري في التراث الإسلامي! 1\4
- اللَّقاحية… حين كانت اللاسُلطة مذهبا سياسيا للعرب! 1/2
- حسين مروة: صوت الفكر الذي اغتاله الرصاص
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4
- نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: الوعي التاريخي الإسلامي الشقي والمزيف 1/4
- اغتال العقل وقدس القتل: أثر التشدد الديني على المجتمعات