فتحي المسكيني لمرايانا: التصوف تجاوز أفق الملّة الإسلامية… والإيمان “الحديث” لا يجب أن يتعارض مع منطق المواطنة 2 - Marayana - مرايانا
×
×

فتحي المسكيني لمرايانا: التصوف تجاوز أفق الملّة الإسلامية… والإيمان “الحديث” لا يجب أن يتعارض مع منطق المواطنة 2\4

في هذا الحوار مع الفيلسوف والمفكر التونسي فتحي المسكيني، نحاول أن نقرب قراء مرايانا من أهم الأفكار والطروحات الأصيلة، التي عرف بها أو دافع عنها في مشروع نظريّ وفلسفي متماسك.

لهذا، فبعد متابعتنا لكيف يعتبر أنّ الفلسفة لم تتوقف في عمل العرب، وأنّ الغزالي بريء ممّا ينسب إليه من تهم من قبيل “قتل التفلسف، في هذا الجزء الثاني، يقدم لنا فتحي المسكيني قراءته للتصوف الإسلامي، وكيف تمكّن الأخير من ابتكار “فردانيّة” قديمة داخل أفق المسلمين.

لابدّ من تصحيح صغير هنا: أنا لا أعتبر “قراءة التراث” مهمّة فلسفية. إنّ ما سُمّي “تراثا” هو ذاكرتنا العميقة وجملة “مصادر أنفسنا” التي تدّعي الآن أنّها “موجودة” في أفق العصر. وكل الشعوب لها “تراث” أي كميّة مدوّنات أساسية ترجع إليها وتنطلق منها بشكل مستمرّ مثل “شكل” للهوية وليس “محتوى” نهائيّا لها. تراثنا هو شكل انتمائنا إلى الإنسانية، لكنّه اليوم ليس المضمون الوحيد لأنفسنا. نحن صيرورة لها شكل، ولسنا سيلانا هلاميّا من الأجساد التي تتناسل خارج اللغة. كلّ ما نعتبره “نحن” هو ما نجح أسلافنا في سبكه في لغتنا وحوّلوه مع تتالي الأجيال إلى ورشة لصناعة الهوية من خلال اللغة.

“نحن” ضمير يشير إلى مجرّد بناء لغوي نجح في الاستمرار. لكنّه صار مع الوقت الطريقة الوحيدة لتشكيل الهويات التداولية التي ندّعي الانتماء إليها. التراث شكل للهوية وليس مضمونا لها. كذلك فإنّ الدين ليس هو “كلّ” مصادر أنفسنا، بل جزء منها فحسب، إذْ هي تمتدّ من “اللغة العربية” بنحوها وصرفها وبلاغتها ومعاجمها، إلخ، وكلّ ما قيل بها أو كُتب منذ “المعلّقات” إلى عصر ابن خلدون، مرورا بالقرآن والحديث والفقه والتصوف والشعر والأدب، دون أيّ تمييز جذري الخ… إنّ اختزال التراث في الدين هو خدعة فقهية. إنّ تراثنا متنوّع بشكل مرعب، ولا يمكن الانتماء إليه من دون احتمال “طيّات” هووية متنافسة ومركّبة.

أود أن أوضح أنني لا أنظر لما يُسمّى “التّصوف النظري” كـ”إمكان تأويليّ للدّين”، كما يراه بعض الباحثين. وذلك لسببين خطيرين: أوّلا أنّ “الدين” ليس هو “الإيمان” بل نوع من المؤسسة الاعتقادية التي يمكنها استقطاب المؤمنين وتحويلهم إلى أعضاء وظيفيين في “جماعة” هووية حيّة. لا معنى للدين بلا جماعة، سواء كانت أخلاقيّة كما هو حال الرهبانية المسيحية، أو سياسية كما هو حال “الملّة الإسلامية” التاريخية، أي تلك التي وصف ابن خلدون نهايتها وأغلق تاريخها الخاص. كان الدين مؤسسة مركّبة ومركزية تمسك بكل خيوط الوجود الخاص والعام ونجح في اختراع مدينة الملة وتنصيبها والحكم باسمها على الأشخاص بوصفهم “أعضاء” نهائيين في “جماعة” المؤمنين.

لذلك، لم يكن التصوّف تأويلا للدّين، بل كان تجاوزاً رمزيًّا ووجوديّا خطيرا لأفقه وطريقته. ما كان يقوله المتصوّف المحترف هو هذا تقريبا: من أراد الوصول إلى الله عليه أن يعتبر ذلك معركة شخصية لا يمكن لأحد أن يجرّبها بدلا عنه، ولو كانوا جماعة المؤمنين كافّة. إنّه يقترح إيمانا بلا “دين مؤسساتي” أي بلا “طاعة سياسية” لسلطة الملّة حيث يسود إلهُ المعتقدات أي إله الرسوم أو إله العوام، كما يقولون. ما كان يصبو إليه المتصوّف هو النفاذ إلى إله الوصول وليس إله الطاعة. كان الدين تمرينا عظيما على تحرير المؤمنين من الأصنام؛ لكنّ ذلك تطلّب تحريرهم من نوع السلطة التي تقوم عليها الأصنام أي “الطاغوت”. وبذلك اضطرّ الدين إلى التحوّل إلى نظام “حكم”، أي إلى “ملّة”. لم يكن يمكنه أن ينجح في كسب معركتين مختلفتين: معركة التحرر من عبادة الأصنام، ومعركة التحرّر من شكل الحكم القائم على عبادة الأصنام، من دون بناء “سلطة” جديدة. وحدها السلطة يمكنها أن تدّعي كسب معركة الحقيقة ومعركة الحرية في صيرورة واحدة.

وكان الدين، أو الملة، قد نجح في تحقيق ذلك عند العرب ما بين القرن السابع والقرن الخامس عشر. أمّا التصوّف فهو تجربة أفراد، وهذا تجديد جذري في طرح مسألة “الإيمان” تمّ فيها تجاوز أفق الدين بشكل محرج: لقد صار الفوز بالآخرة معركة “شخصية” ولا يمكن خوضها إلاّ بشكل “فردي”. لقد تحوّل الإيمان إلى مشكل “وجودي” وتخلّص بوجه ما من قيود الامتثال لقواعد الملّة التي ضبطها فقهاء السّلطة في كل مرة، هم الذين عملوا بشدّة عجيبة وعقلانية فظيعة على بناء “أحكام” يتمّ فرضها باعتبارها “أخلاقا” للنفوس، وليس فقط “حركات” للأبدان. وحده المتصوّف؛ إلى جانب نوع نادر من الشعراء مثل أبي نواس أو أبو العلاء المعري بمفردات من نوع آخر؛ نجح في التمرّد على منطق الملة الذي لا يرى “الأفراد” بل ينصبّ عمله على بناء “الجماعة” المرعبة والمتراصّة بلا أيّ مكان للتفاوض؛ وحده المتصوّف نجح في اختراع ذاته بشكل فردي، ودون أيّ خروج عن شرط الإيمان. لقد كان التصوّف بذلك أوّل شكل من “الإيمان الحر” في تاريخ أنفسنا القديمة.

  • هل تقصد أن التّصوف شكّل لحظة انعتاق “الفرد”ونحت معالم هوية فردية خالصة داخل جماعة المسلمين؟

هذا تحديدا ما وجدته رائعا في التصوّف بكل تجاربه، وخصوصا السنية، أي التي هي جزء من تاريخنا. لقد نقل التصوف الإيمان من نطاق الجماعة إلى أفق الأفراد: لا معنى لدين بلا جماعة، أي بلا طاعة، لكنّ الإيمان يمكن أن يكون تجربة فردية فذّة. لقد نقل المتصوّف نواة الهوية من سلامة الجماعة إلى نجاة المفرد.

لكنّ ذلك لا يعني أنّنا نحتاج اليوم إلى استقدام “متصوّفة جدد” حتى ننجح في نحت مقولة “الفرد” التي تتطلّبها الحياة الحديثة، التي انخرطنا فيها بلا رجعة لأنّها بنية “العصر”، أكانت تلك الحياة “خاصة” أو “خصوصيّة”، حيث يبتكر الأفراد شكل أنفسهم الجديدة بناءً على حريات شخصية لم يعد يمكن التفاوض حولها، أم كانت عامة أو عمومية، حيث يُعاد بناء “الجماعة” بوصفها هذه المرة “مجتمعاً” أي مجموعة لم تعد مكوّنة من “رعايا” بل فقط من “مواطنين” يملكون حقّ المشاركة في التّشريع لمستقبلهم؛ وبالتالي لشكل الدولة التي ستحكمهم. لم يعد يمكن لأيّ قوّة أن تجرّد الأفراد من فرديتهم، ومن ثمّ فإنّ الحلم الديني ببناء “جماعة” من “المؤمنين/الرعايا” قد صار مستحيلا أو هو لا يتمّ إلاّ في شكل تدمير نسقي لشكل الحياة الحديثة.

ولكن على عكس الدين، أو الملة أو المؤسسة السياسية، الذي يبدو بلا مستقبل، رغم “عودته” إلى الاشتغال في الفضاءات العمومية الراهنة، فإنّ ما أشار إليه التصوّف لدينا، أي فكرة أنّ الإيمان هو موقف “فردي” ولا يمكن لأحد أن يخوضه إلاّ في تجربة “شخصية” تماما، يبدو لنا من ناحية فلسفية أسلوباً مبدعاً في التعامل مع مشكلة “التعالي”، حيث يقترح المتصوّف “تعالياً أفقيّا” بدلا عن التعالي العمودي للدين. ما يقترحه المتصوّف هو أن نجرّب “عبادة” حرّة، لا تخضع لقواعد فقهية مقنّنة سلفا من طرف فقهاء محترفين حسب منطق السلطة الذي اخترعته مدينة الملة، أي مدينة “الجماعة الرعوية” التي لا ترى “أفرادا” بل مجرّد مجموعة من أجسام “المكلّفين”.

ومع ذلك، فإنّ الفرديّة المتصوّفة التقليدية ليس لها من مقولة الفرد المعاصرة إلاّ “الشّكل”: أي مشروع ابتكار الذات بشكل شخصي وحرّ وجديد. لكنّ المحتوى قد تغيّر بلا رجعة. كان الفرد المتصوّف يملأ حياته بطلب “الخلود” الشخصي الذي أشار إليه الوحي لكنّ دين الملّة تراجع عنه واكتفى بسلامة الجماعة حتى لا يهدم رابطة “الأمة”. أمّا الفرد المعاصر فهو يملأ حياته بشيء آخر غريب عن التصوّف: إنّه العمل على “ابتكار ذاته” بشكل حرّ، وهو لا يجد من سبيل أخرى لتحقيق ذلك تحت حماية الدولة إلاّ في شكل “المواطنة” بوصفها نوعا من “الصداقة” المدنية مع زملاء الوطن. وهو لا يملك من وسائل لابتكار ذاته باعتباره مواطنا نشطاً إلاّ “الأدب” أو “الفن” عامة، بوصفه البديل الحديث عن سرديات الخلاص.

من أجل ذلك، نحتاج اليوم إلى التّنبيه لسبل أخرى في تأويل الدّين: أنّ الأزمنة الحديثة قد نقلت فنّ الوجود من طريق “الآخرة” إلى طريق “المستقبل”؛ وبالتالي أنّ على “المتديّن” الصادق أن يعيد وصف تجربته مع الإيمان بشكل لا يتعارض مع منطق المواطنة. وإلاّ فإنّه رهط ثقافي مهدّد بالانقراض. ليس من السهل أن نفاوض “العصر” على صحّته أو على صلاحية “الوجهة” التي يأخذها. لا يبدو أنّ “العصر” في كل مرة هو شيء يمكننا أن نخرج منه أو أن نقطع معه. إنّ “المعاصرة” معركة شرسة من أجل أن “نوجد” مثل بقية أعضاء الإنسانية، وليس مجرد احتمال يمكننا أن نرفضه وأن “نعود” أدراجنا إلى تراثنا العميق. هذا التراث نفسه قد تردّم تحت طبقات أنفسنا الجديدة، ومن ثمّ نحن لم نعد نستطيع أن نلتقي به إلاّ في شكل أنفسنا الجديدة، أي بوصفنا “مواطنين” إجباريين في عصر بعينه هو عصرنا.

  • وماذا عن فكرة الآخرة، التي تحتلّ مكانة مهمة في الوعي الإسلامي، الكلاسيكي والمعاصر على حد سواء؟

كانت فكرة “الآخرة” في وقتها ابتكارا رائعًا لتنظيم معركة “الخلود” في أفق حيوان نجح في اختراع سردية فذّة مكّنته من الخروج من عائلة الحيوانات والانفراد بالأمانة على جميع المخلوقات. كان ذلك عملاً أخلاقيا مبدعا نقل مشكلة “الموت” من مساحة “الأجساد” إلى أفق “النّفوس”، ومكّن البشر من السيطرة على المفاعيل العدميّة لشعورهم المقيت بالتناهي. لكنّ الأزمنة الحديثة قد “علمنتْ” تجربة الإيمان حين ترجمته في شكل من “حرية الضمير” حيث يملك أيٌّ كان حقّا ميتافيزيقيا في أن يدخل في اتّصال شخصي بإلهه دون أن يمنّ عليه أحد شيئا. وبالتالي، فقدَ خطابُ الآخرة كل طرافته وتحوّل إلى عائق أخلاقي أمام بناء فكرة جيّدة عن المستقبل. لقد صارت الآخرة مجرّد فضول روحاني يقع توظيفه سياسيّا من أجل إعادة المؤمنين إلى حظيرة الملة.

لذلك، فإنّ المهمّة الصعبة، والتي يتحاشاها الدّعاة المحترفون، هي مرافقة المؤمنين في تجاربهم الجديدة عن أنفسهم الجديدة، وتوفير الدّعم الرّوحي اللازم لأسلوب وجودهم غير المسبوق والمعقّد في أفق المواطنة. علينا أن نقول إنّ “المؤمن” في هذا العصر هو أمانة أخلاقية نفيسة ولكن هشّة أو سريعة العطب. ولا أعني المتديّن اليومي الذي هو موظّف في سردية الملة أو في منطق الجماعة الرعوية، وليس مؤمنا فقط. المؤمن المقصود هو الفرد الحرّ الذي وجد نفسه في أفق تراث رائع لم يعد يملك منه إلاّ “شكل ذاته” فحسب. ومن ثمّ هو محكوم عليه بأن يكون مؤمنا حرّا، وليس ذلك اختيارا متكلّفا. وهو “حر” لأنّه “بريء” من أيّ جريمة أخلاقية تتمّ باسم الدين الذي يُحسب عليه.

هذا المؤمن الحر ممكن لأنّ الدين قد فقد طرافته الخاصة وتحوّل إلى أفعال “إنجازية” في فضاء عمومي غريب عنه. وبذلك لا يبدو لي أنّ الدين يمارس هيمنة عميقة على النفوس، بل مجرّد تنظيم معولم للخوف. لقد تحوّل إلى آلة عملاقة لإنتاج الخوف الجماعي بعد أن كان في يوم ما خطّة رائعة… لإنتاج الأمان.

في الجزء الثالث نتعرف مع فتحي المسكيني على ما يسميه مرحلة ما بعد الملّة، وقراءته الفريدة للإلحاد وتحليله للتطرّف العلماني.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *