فتحي المسكيني لمرايانا: الغزالي لم يقتل الفلسفة، والعرب لم يتوقفوا عن التفلسف بعد ابن رشد 1/4
هو… من أبرز الفلاسفة أو المفكّرين العرب، في هذا الزمان. أصوله من تونس لكنّ فكره كوني وفلسفته لا تقبل أي توقيع قطري أو تأويل هوياتيّ… إنه الكاتب فتحي المسكيني، المترجم وأستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة تونس.
كتب فتحي المسكيني عديدا من المؤلفات: “هيجل ونهاية الميتافيزيقا” (1997)، و”نقد العقل التأويلي” (2005)، “الإيمان الحر أو مابعد الملة” (2019) وغيرها. كما أصدر كثيرا من الترجمات أيضا: “في جينيالوجيا الأخلاق” لفريديرك نيتشه (2010)، و”الدين في حدود مجرد العقل”، لإيمانويل كانط (2012)،.”الكينونة والزمان” لمارتن هايدجر (2013)، الذي نال عنه جائزة الشيخ زايد للترجمة سنة 2013؛ كما ترجم المسكيني حديثا كتاب “قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية”، لجوديث بتلر (2022)، و”المتهكّم الليبرالي”، لريتشارد روتي (2022)، وكثير من الترجمات الأخرى. نشر العديد من المقالات والدراسات في المجلات والصحف التونسية والعربية والأجنبية.
في حواره مع مرايانا، يعرض الفيلسوف فتحي المسكيني أفكاره التي دافع عنها دائما كورشة خصبة لطرح الإشكالات التي تهمّ الرّاهن والمستقبل. ومن المعروف عن محاوَرنا أنه يتفلسف خارج أفق اللغة، مادام فعل التفلسف بالنسبة إليه… فعلا كونيًّا خالصًا.
- يبدو في كتابك الأول: “فلسفة النوابت”، أنّ هناك حلقة مفقودة اليوم إذا ما نظرنا إلى ما يسمى “الفلسفة الإسلامية”. كانت غاية الفلاسفة الذين نبتوا في هذه البيئة تحقيق السّعادة الفردية والدنيوية للإنسان أو ما سمّيته أنت الإتيقا عند الفارابي. لكن، ما مآل فعل التفلسف عند المسلمين اليوم؟
علينا أوّل الأمر أن ندقّق ما نستعمله من “مفاهيم” حتى يكون الحوار ممكنا: إنّ عبارة “الفلسفة الإسلامية” ليست أو لم تعد مفهومة بذاتها أو بديهية. شكليا، يمكن القول: هي إمّا أنّها “فلسفة” ولا معنى لأن تكون “إسلامية” لأنّ التفكير مثل العلم هو بلا هوية دينية أو جماعويّة أو قومية؛ وإمّا أنّها “إسلامية” ومن ثمّ لا معنى لأن تكون “فلسفة” لأنّ هذا الدين العظيم قد اخترع أشكال البحث عن الحقيقة وأشكال التعبير عن الحقيقة التي احتاجَها.
بعامة، الفلسفة ليست عملا “هَوَوِيًّا”. إنّ توقيع المفاهيم في الفلسفة خدعة أو مجرد ألق أسلوبي فحسب. وقد نذكّر بأنّه في سنة 1931، خاض الفرنسيون نقاشا حادّا حول مسألة مشابهة بعد أن نشر إميل برييه مقالا عنوانه “هل ثمّة فلسفة مسيحية؟”، وهو سؤال ظل يُطرح لاحقا تقريبا تحت نفس العنوان من طرف باحثين شتّى. ومن ثمّ، فإنّ عبارة “الفلسفة الإسلامية” هي تسمية غربية أو تمّ نحتها في سياق غربي. لقد كان هناك فلاسفة أنتجوا آثارا فلسفية باللغة العربية، وفي نطاق الملة الإسلامية.
لكنّ الملة ليست اختصاصاً، مثلها مثل الدولة/الأمة: لا يمكن أن نسمّي الفلسفة التي يتمّ إبداعها في نطاق “الدولة-الأمة” بأنّها فلسفة “قوميّة”. كانت الملة شكلا من الحكم هو “حكم المؤمنين” بوصفهم “رعايا”، وكان “الإسلام” هو الدين الذي استخرج منه الفقهاء نمط الشّرعنة الذي برّر ذلك الشكل من الحكم. أين نضع الفلسفة عندئذ؟ هي نمط من التفكير الحرّ الذي يمكن أن ينشأ في أيّ سياق سياسي وتحت أيّ شكل من الحكم، ويمكن أن “يعاصر” أيّ نوع من الدين، لكنّه غير معنيّ تماما بالانتماء إلى هذا الحكم أو ذاك، أو إلى هذا الدين أو ذاك بوصفه “ماهية” له. ومن ثمّ يمكن لأيّ قارئ أن يفهم من الحرص المتكرّر على تسمية أعمال الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد “فلسفةً إسلامية” هذا الأمر المزعج: إمّا أنّ الغرب يريد أن يعزل هذه الأعمال في أفق “غير غربي” وغير مسيحي؛ وبالتالي أن يجرّدها من صفة “الكونية” وحصرها في خانة “المسلمين” دون غيرهم، أو أنّ الكتّاب “المسلمين المعاصرين” يريدون توجيه العبارة نحو استيلاء متعمّد على إمكانية الفلسفة في أفقنا وتطويعها لأهداف غير فلسفية بل “هَوَوِيّة”.
- وهذا بالتّحديد ما تشير إليه في ثنايا كتاب “فلسفة النوابت”، ونودّ أن تقرّبنا منه؟
بالفعل، لأنّ ما كان يشير إليه هذا الكتاب هو بالتحديد أنّ “الفيلسوف” ليس ابناً أو أبًا لأحد. أعني أنه”ينبت” في تربة شعب أو جماعة كبيرة مثل “عشبة” ضارّة أو نافعة. لكن، في الحالتين، هو ليس “فلاحة” مقصودة ومبرمجة لإنتاج نوع متعمّد ومنتظر ومحسوب من العقول والنّفوس. بهذا المعنى، من السّخرية أن ننسب أيّ فلسفة إلى أيّ جهة هووية، اللّهم إلاّ إلى “اللغة” التي تقال بها المعاني أو تُكتب بها النّصوص. بهذا المعنى، ليست هناك فلسفة “يونانية” أو فلسفة “ألمانية”، إلخ، إلاّ بالمعنى “اللغوي”. من حقّ العرب الحديث عن فلسفة “عربية” من حيث اللغة وليس من حيث الانتماء القومي.
ولأنّ الفيلسوف نبتة حرّة، فهو لا يخدم أيّ مؤسسة أو سلطة، بل يخترع المشكل الذي يقدّر أنّه أكثر ما يدعو إلى التفكير في عصر ما وفي أفق شعب ما. وهو ليس مطالبا بالمحاسبة إلاّ أمام ما سمّاه كانط “محكمة العقل” أو “الإنسانية في شخصه”، حيث يؤدّي دور “موظّف الإنسانية” حسب تعبير هوسرل. ولا يجب أبدا أن نبخس قدر الفلاسفة العرب وأن نقلّل من شأنهم بدعوى أنّهم لم يؤدّوا ذلك الدور “الكوني” للفيلسوف الذي ادّعاه أفلاطون أو كانط. لقد كانوا فلاسفة بالمعنى الكوني: حيث إنّ نمطا من “العناية بالنفس” يمكن أن يتأسّس عليه نمط “عادل” من الحكم الذي من شأنه أن ينظّم العلاقة مع المشاركين لنا في الاجتماع. بهذا التقدير، فإنّ علاقتهم بالملة قد كانت علاقة “عرضية” أو خارجية أو صامتة أو خصومية. لكنّها ليست علاقة “مؤسِّسة” لماهيتهم…
- لكن، بالمقابل نجد أنّ هناك أطروحة “شائعة”، تقول بأن تراجع الفلسفة تمّ بعد الهجوم الذي شنّه عليها الغزالي واستمر بعده…أيمكننا، فعلاً، أن نحمّل ما حلّ بـ”الفلسفة العربية” للغزالي، رغم أنّه كانت هناك بنية اجتماعيّة وعقديّة متماسكة حاربت الفلسفة وأدّت إلى “خفوت التّفلسف” في أفق المسلمين؟
هنا، يبدو لي أنّ الغزالي براء ممّا يُنسب إليه: هو لم يقتل الفلسفة بل نظّم سياسة الحقيقة التي يحتاجها خطاب الملة عن “نفسه”، ولم يكن هجومه على الفلاسفة إلاّ من تبعات تلك السياسة، وليس هجوما “ميتافيزيقيا” كونيا، يمكن أن يحدث في مجتمع آخر. بل إنّ المفارقة العجيبة هي أنّ الغزالي قد اكتشف فنّا في التفكير أكثر تطوّرا من طريقة الفلاسفة عندئذ، ألا وهو “نقد الميتافيزيقا” بوصفها “كلاّ واحدا” من المسائل ربما ثمّة حاجة بنيوية للتحرّر من ربقته. صحيح أنّه لم يعثر على الأساس “الترنسندنتالي” الذي كشف عنه كانط، من خلال براديغم الوعي، لكنّه قطع، ربما نودّ أن نقول عن غير قصد، خطوة تمهيدية مثيرة في اتجاه “تفكيك” تاريخ الميتافيزيقا بوصفه كلاّ من المسائل المحكومة بمسبّقات يمكن مراجعتها. لذلك، فإنّ خفوت التفلسف عند العرب بعد ابن رشد، هو بدوره “إشاعة” مغرضة، لأنّ العرب أو المسلمين لم يكفّوا عن الانشغال بالبحث عن الحقيقة، وإن كانوا ربما فعلوا ذلك بطرق تعبير أو إرادة حقيقة من نوع آخر، أي من نوع “غير ميتافيزيقي”، كما نرى ذلك لدى ابن عربي أو الشيرازي.
في تقديري، شعورنا المعاصر بأنّنا وقعنا تحت الاستعمار الغربي ولم نستطع التحرّر من إرادة الهيمنة التي يمارسها على عقولنا وعلى حياتنا حتى بعد “الاستقلال” الرسمي عنه، قد ولّد لدينا أولويات روحية مغلوطة تدور غالبا حول معركة “الهوية”. ومن ثمّ، تمّ حشر جميع قوانا الفكرية والسردية والسياسية في معركة مفروضة علينا، حوّلت كلّ إبداعاتنا إلى مجرّد ردود فعل هوويّة على هيمنة “غربية”؛ وهو ما جعلنا نحبس عقولنا ونصوصنا في دور “الآخر” المجروح، وليس في دور “الذات” المبدعة لمشروعها الخاص. وهذا وضع مأزوم لا فرق فيه بين حداثيّ وسلفيّ.
معركة “الهوية” لم تحقّق لنا شيئا “فلسفيا” يُذكر: لقد حوّلت “المتفلسفة” رغم أنوفهم إلى “قرّاء تراث” ومؤوّلين سيّئين، أي من دون حاجات تأويلية أصيلة، ونقّاد بلا مشروع حول “الحقيقة”. وبذلك، نحن نصلح خطأ سابقا بخطأ آخر. كان الخطأ السابق هو اعتبار الملة هي ماهية الفلسفة التي تظهر في كنفها؛ وصرنا نقرأ الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد باعتبارهم “فلاسفة إسلاميين”، والحال أنّ ذلك يتناقض مع اتهام الغزالي بأنّه قتل الفلسفة بواسطة علم الكلام. إذْ لو كانوا “إسلاميين” كما يُقال لما استطاع الغزالي أن يدمّر صناعتهم، فهو سوف يدمّر جزءا من ماهيته. إنّ ما تمّ تدميره ليس الفلسفة، بل إمكانية ظهور الفلسفة بطريقة أخرى تتجاوز أفق ابن رشد.
في تقديري إنّ انحسار نموذج الملة في الحكم، أي نموذج “الخلافة”، بعد سقوط بغداد في أيدي المغول سنة 1258 هو الذي أخرج العرب من أفق الفلسفة، وليس الغزالي الذي ظهر بعده فلاسفة كبار وأُبدعت بعده نصوص رائعة. كان سقوط بغداد علامة على سقوط “ميتافيزيقي” للعقل في أفق أسلافنا. ذلك أنّ الفلاسفة يحتاجون في أي عصر إلى “معاصرة” شكل أصيل وكوني من الحكم، ما عدا ذلك سوف يتحولون إلى وُعّاظ هوويين وإنْ كانوا يواصلون ارتداء قناع “الثقافة العالمة”.
أمّا الخطأ الثاني فهو استعمال الهوية بوصفها مقياسا للحقيقة. ولا فرق هنا بين استعمال “جوهري” للهوية بوصفها “ماهية” نهائية لأنفسنا علينا أن نعود إليها بشكل “فقهي” صارم، وبين استعمال “إجرائي” للهوية بوصفها معركة رمزية يجب كسبها عن طريق التنقيب عن مواطن “الحداثة” في تراثنا. إنّ ما يجمع بين قرّاء التراث جميعا، أكانوا سلفيين أم حداثيين، هو عدم القدرة على الفصل بين الهوية والحقيقة؛ ومن ثمّ عدم القدرة على اعتناق “الفلسفة” بوصفها فنّا في التفكير “اللاّهووي” الذي يظهر عرضاً في أفق شعب أو في كنف مجتمع ما، لكنّه ليس سياسة انتماء لأحد. ما يخرج الفيلسوف للبحث عنه في “أمّته” ليس الأجوبة الهوويّة بل “العلامات” التي ترشده إلى اختراع المشكل الذي يكون أكثر شيء مدعاة لأن يُفكّر فيه. بهذا المعنى، فإنّ عصر “ما بعد الملة” يصدر علامات ثريّة جدّا لاستئناف التفكير الحرّ، غير المنتمي، وليس لأداء أيّ دور في الدفاع عن ثقافة تشعر أنّها مهزومة.
في الجزء الثاني من هذا الحوار، نتابع مع فتحي المسكيني عملية استقراء أصالة تصوّراته حول التصوف الإسلامي وكيف يتقاطع مع شكل الإيمان الحديث…
- الجزء الثاني: فتحي المسكيني لمرايانا: التصوف تجاوز أفق الملّة الإسلامية… والإيمان “الحديث” لا يجب أن يتعارض مع منطق المواطنة 2\4
- الجزء الثالث: فتحي المسكيني لمرايانا: حكم المؤمنين بوصفهم “رعايا” لم يعد ممكنا، ولا يكفي أن يصبح الفرد “ملحدا” كي يُصبح “حرّا”…3/4
- الجزء الرابع: فتحي المسكيني لمرايانا: الإرهاب “عدمية تاريخية” والأوروبيّون لم يحرّروا الفكر من الدّين 4\4
مقالات قد تثير اهتمامك:
- نبيل فازيو لمرايانا: العلمانية مرفوضة لأن مآل الهزيمة فرض نوعاً من التشرنق على الذات… ولا أحد يستطيع ادعاء امتلاك التراث! 2/2
- محمد سبيلا… المفكر الذي خبر دروب الحداثة وعثراتها في المغرب
- من نقد التراث إلى نقد العقل، كيف أسس الجابري لنقد العقل العربي 1/3
- حسين مروة: صوت الفكر الذي اغتاله الرصاص
- محمد رشيد رضا… مُجهضُ النّهضة الإسلامية والمنقلب على التيار الإصلاحي 1/3
- “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)
- التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!