المتنبّي: الشّاعرُ الذي… نظرَ الأعمى إلى أدبه! 1\3
كانت نشأة المتنبي، من الناحية المعرفية، غزيرة العلم والمعرفة، كما أنه كان كثير الترحال من مكان إلى آخر، والرحلة قد زادت على صقل معارفه، فزادته خبرة بالناس، وفهما للحياة، ومعرفة بالتواريخ والأنساب والأيام والتاريخ…
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي … وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
بديهيًّا، لا بدّ أن تكونَ الغالبيّة العظمى منّا، قد سمعت هذا البيتَ الشعريّ في الإذاعة أو البودكاست؛ أو طالعته في كتاب أو جريدة أو حتى تدوينة فيسبوكية، باعتباره من الأبيات الشّعريّة الأكثر تداولاً، والتي تنتمي إلى الشّعر العربيّ القديم.
إنّه ببساطة بيتٌ تفتّقت عنه قريحة أحد أهم الشعراء العرب، الذين اتّسم شِعرهم بالفحُولة وبجزالة اللّفظ وقوّة المعنى، وفق كثيرٍ من النقاد.
نتحدّث عن المتنبّي، أو “أشعرَ العَرب” كما يُطلقُ عليه. في هذا البورتريه، تحاول مرايانا أن تبرزَ قليلاً من سيرته وشعره.
من المهد إلى القصيدة
المتنبي… هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي، المولود بحي كندة بالكوفة سنة 303 هـ. لذلك، تلازمُ هذا الشّاعر العباسيّ صفةُ الكندي أو الكوفي، وهو ما دفع الباحثين إلى إبعاد فرضية أنّه من قبيلة كندة (مقابل حي كندة بالكوفة).
تشيرُ بعضُ الروايات التاريخية أنّ والده كان سقّاءً وكان اسمه عبدان. غير أن الباحثين لم يتوقفوا عند هذه النقطة، بل أرادوا معرفة النسب الحقيقي للمتنبي، فقد أشار طه حسين إلى احتمال أن يكون المتنبي عربيًّا، من عرب الجنوب، جعفي الأب، رغم أن ديوانه لا يشير إلى ذلك.[1]
لكن… حين نعود لديوان المتنبي، نجدهُ يصوّر حنينه إلى حيّ كندة بالكوفة ببلاغة شعرية، يقولُ:
أمُنْسِيَّ السّكونَ وحَضرمَوْتاً … ووالِدَتي وكِنْدَةَ والسّبِيعَا
منذُ صباهُ، كان يتردد بين البادية والحضر، فاکتسب من الأولى صلابتها ونزعتها البدوية، ومن الثانية علومها وثقافتها. وقد ذكر الثعالبي (الذي ولد قبل المتنبي بأربع سنوات): أن أباه سلمه إلى المكاتب وردده في القبائل، فنشأ المتنبي في خير حاضرة.[2]
بهذا، تلقى الشاعر تعليمه الأول بالكوفة، في مدارس الشيعة العلويين، حيثُ تلقّن مبادئ الدّين على مذهب التّشيّع. كان القرآن المادة الأساسية في ثقافته، كما تظافرت عوامل عديدة وجهته إلى دراسة القرآن وتعلّمه، فنشأة الشّاعر المبكرة في الكوفة هيأت له هذه العلاقة المبكرة بالكتاب المقدس.
امتزجت الظّروف الموضوعية، مثل وجود الإسلام كديانة سائدة في الكوفة، والعوامل الذاتية، بوصف المتنبي شاعراً بالأساس وهبَ نفسه للقصيدة، فدفع به ذلك لحفظ أجزاء مهمّة من القرآن، وقد أثمرت شاعرية النصّ الدينيّ اهتماماً اعتباريًّا، لديه، بالنّحو واللغة العربية.[3]
كان يركنُ لتلك الذّخيرة اللغوية كلّما خاض نقاشات مع من يُملي عليهم دیوانه. انعکس حفظه للقرآن في بعض أشعاره على نحو ما جاء في قوله:
لَو كُنتَ بَحراً لَم يَكُن لَكَ ساحِلٌ … أَو كُنتَ غَيثاً ضاقَ عَنكَ اللوحُ
وَخَشيتُ مِنكَ عَلى البِلادِ وَأَهلِها … ما كانَ أَنذَرَ قَومَ نوحٍ نوحُ
واضحُ أنّه استلهمها من الآية التالية: “إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”…
عموماً، حينَ اشتدّ عوده، غادر الكوفة. اعتبر طه حسين أن لهذا الرحيل علاقة بعقدة “النّسب”، أو بأنه ابن غير شرعيّ. يقول الناقد: “وليس من شكّ عندي في أن المتنبي لما تقدمت به السنّ قليلاً، قد عرف من أمر نفسه ومن أسرته ما أنكره، وما لم يستطع أن يقيم معه في الكوفة فآثر الرحيل”.[4]
ما يوضّح ما زعمه طه حسين هنا، قوله في موضع آخر: “إن مولد المتنبي كان شاذّا، وإن المتنبي أدرك هذا الشذوذ، وتأثر به في سيرته كلها، ولم يستطع أن يلائم بين نفسه الشاذة، وبين البيئة الكوفية التي كان يراد له أن يعيش فيها”.
بالمقابل، يقولُ الناقد شوقي ضيف: “لقد شكوا في نسب المتنبي لأنه ليس في أشعاره أي إشارة لأبيه وأمه، وهذه مقدمة لا تحتم النتيجة، إذ يشرك المتنبي في ذلك كثير من الشعراء العباسيين الذين لا يشك في نسبهم العربي أمثال البحتري، حيث إن دیوانه يخلو من الحديث عن أبيه ويخلو من ذكر أمه، فهل ترتب على ذلك أنه كان متهما في نسبه؟”.[5]
لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فللمتنبي ردّ على أولئك الذين طعنوا في نسبه، ولكن بطريقته هو، أي من خلال فخره بنفسه، وبنسبه إلى نفسه هو لا إلى أهله، معتبرا فخر الفتى يكون بالنفس والفعل، لا بالآباء والأجداد.[6] ويقول:
فَخْرُ الفَتى بالنّفسِ وَالأفْعَالِ … مِنْ قَبْلِهِ بالعَمّ وَالأخْوَالِ
أكثر من ذلك، صرّح المتنبّي، شعريًّا، أنّ قومه هم من يفخرون بنبوغه هو، وليس هو الأجدر أن يفخر بانتمائه إليهم، يقول:
لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي … وَبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي
في المحصّلة، كان المتنبي مهتمّا بشتى تبويبات العلوم المتاحة أيّامئذٍ، من أدب وفلسفة وعلم كلام ومنطق… التقى، حينها، بالكثير من “كبار علماء” ذلك الزمن كالزجاج، وابن السراج والأخفش، وابن درید، وأبي علي الفارسي وابن جني وغيرهم؛ويشاع عن المتنبي أنه كان ملازماً للورّاقين.
المتنبّي وسؤال النّبوغ
صعدَ نجمُ المتنبي في بداية القرن الرّابع الهجري، حيثُ ضعفت الخلافة واتسمت الحالة السياسية بالعبث إزاء تسلط الجنود. غير أنّ الحياة المعرفية والأدب والحركة العلمية، كانت ما تزال تحتفظ ببريقها.
القرن الرابع للهجرة كان عصراً خصبا للعلوم والآداب، کثرت فيه الدول والإمارات، ما أدى إلى التنافس بين الملوك في المجد وحسن السمعة، ليكون لهم صيت، فحرص الملوك على جذب العلماء والأدباء والشعراء ليقولوا فيهم شعرا يمدحهم ويذكر مناقبهم.[8]
كانت نشأة المتنبي، من الناحية المعرفية، غزيرة العلم والمعرفة، كما أنه كان كثير الترحال من مكان إلى آخر، والرحلة قد زادت على صقل معارفه، فزادته خبرة بالناس، وفهما للحياة، ومعرفة بالتواريخ والأنساب والأيام والتاريخ…[9]
لم يكن المتنبي شاعراً عاديًّا، وقد أدرك ذلكَ مبكّراً، واطّلع على ملامحِ النبوغ الفريدة الكامنة فيه. لا ينكر عليه أحد، بمن فيهم خصومه، أنه كان ذا ثقافة عالمة وصاحب موهبة شعرية فذّة، اهتمّ بصقلها بانضمامه إلى المجالس الأدبية التي كان يقيمها الخلفاء والوزراء، ويضمّون إليها أشهر الشعراء والكتاب وغيرهم، والمتنبي كان واحداً منهم.
كان نبوغ المتنبي حلقة وصل بينه وبين العديد من الحكام، ومنهم سيف الدولة الحمداني بحلب وكافور بمصر.
كان رحالاً، يتجول طلباً للعلم. لكنّ المستشرق بلاشير اعتبرهُ شاعرا جوّالاً، أي الذي يتحوّل للتّكسّب بالشّعر. ولا ننسى أنّ محنة السّجن تفجّرت أيضاً في ظلّ رحلته إلى حمص، حيثُ قيل إنّه ادعى النبوّة، وذلك أصل تسميته المتنبي.
قضية ادعائه النبوة تبقى اللغز الأعقد في سيرة المتنبي، لأنّه إلى اليوم، ليست ثمّة أدلة تاريخية قطعيّة توضّح ما حدث لكي يلبث الشاعر في السجن زهاء سنتين.
بعيداً عن رواية ادعاء النبوة، هناك من يعتبرُ أنّه سجن بسبب الأفكار القرمطيّة التي حملها معه من الكوفة، وهناك من اعتبر أنه سجن لكونه شيعيًّا علويّا له طموحات سياسيّة.
في المقابل، ذكر الثعالبي بأن المتنبي قد ادعى النبوة فعلا، فهو يقول: “… وبلغ من كبر نفسه وبعد همّه أن دعا إلى بيعته قوما من رائشي نبله، على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده. وحين كاد يتم له أمر دعوته، تأدی خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج، فأمر بحبسه وتقييده”.
أمّا ابن خلكان فيرجعُ أصل تسمية المتنبي إلى أنه: “قيل له المتنبي، لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وقيل غير ذلك، وهذا أصح، بأنه أول من تنبأ بالشّعر”. بمعنى أنّه تنبّأ الشعر وليس شيئا آخر.
موقف آخر يوردهُ أبو علي: قيل للمتنبّي على من تنبأت؟ قال على الشعراء، فقيل لكل نبي معجزة فما معجزتك؟ قال هذا البيت:
ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى … عَدُوّاً لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ
ضمن رواية أخرى، يقول ابن جني: “سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنَا تِرْبُ النّدَى وَرَبُّ القَوَافي … وَسِمَامُ العِدَى وغَيظُ الحَسودِ
أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـ … ـهُ غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ
مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ … كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ
وعلى أيٍّ، تظلّ هذه الروايات نسبيّة لكونها متضاربة، والأهمّ أنها تساهم فقط في تقريب الصورة، بينما تعجزُ عن الجزم في حقيقة ادعاء أبو الطيب للنبوة من عدمه.
في الجزء الثاني نرصدُ كيف خوّل له هذا النبوغ أن يكون شاعر سيف الدولة في حلب.
هوامش:
[1] طه حسين، مع المتنبي، الطبعة 2، القاهرة، دار المعارف، 1980.
[2] الثعالبي، يتيمة الدّهر في محاسن أهل العصر، بيروت، دار الكتب العلمية، 1979.
[3] شلوف حسين، عن ورقته البحثية : شعر الحكمة عند المتنبي بين النزعة العقلية والمتطلبات الفنيّة.
[4] طه حسين المرجع السابق.
[5] شوقي ضيف، فصول في الشعر ونقده، القاهرة، دار المعارف، 1976.
[6] شلوف حسين، المرجع السابق.
[7] ابن خلكان، وفايات الأعيان وأنباء أنباء الزمان، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار صادر، 1986.
[8] شلوف حسين، المرجع السابق.
[9] المرجع نفسه.
- الجزء الثاني: المتنبي: المدح والتّرحال… والكَرامة! 2\3
- الجزء الثالث: المتنبي… هل كانت نرجسيّته سبباً في مقتله؟ 3\3