نجاة إخيش لمرايانا: معرضنا انتصار لصرخة الطفولة ضدّ تزويج القاصرات، والنخبة شريحة مهمّة في عمليّة الترافع
“نظراتُ أطفال” هو معرض يضمّ لوحات تشكيليّة لأطفال يعبرون عن موقفهم من تزويج القاصرات. المعرض الذي تمّ افتتاحه يوم الخميس 11 مارس 2022، وانتهت أشغاله يوم الخميس 17 مارس، تمّ بشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للمرأة. انتهى العرضُ، لكنّه… ترك في أذهان من حضروا آثاراً لا تُنسى!
في هذا الحوار مع نجاة إخيش، رئيسة مؤسسة يطو لإيواء وإعادة تأهيل نساء ضحايا العنف، تقرّب الفاعلة الجمعوية قرّاء مرايانا من المعرض والرّهان الكامن وراءه، وتعود بنا، أيضاً، إلى تفاصيل متعلّقة بأجواء الرّسم وخلق اللّوحات وغيرها.
- اشتغلتم، عبر معرض “نظرات أطفال”، على تسليط الضوء على مشكل لازال يواجهه مجتمعنا، وهو تزويج القاصرات. كيف جاءت فكرة المعرض؟
فكرة المعرض مطرُوحة لدينا منذ سنة 2010، لأننا جمعنا لوحات كثيرة منذ سنة 2007 و2008 و2009 في مختلف القوافل الاجتماعية لمؤسسة يطو، التي سهرنا فيها على تحسيس سكان القرى النائية ضد تزويج القاصرات والزواج القسري، وتعزيز حقوق النّساء والفتيات. سنة 2010، تحقّق لدينا فائضٌ من الصّور واللّوحات الغنيّة تعبيريًّا. كانت كلّ قافِلة تسفرُ عن زهاء 30 أو 20 لوحة وفق ديناميّة كلّ ورشة.
قررنا الترافع بجديّة واضحة، بعد أن بدا لنا أن أعداد القاصرات المتزوجات جد مرتفع، خصوصاً في بعض الدواوير التي حطّت فيها قوافلنا، مثل إملشيل وأنفكو وتمالوت وأمنزي، إلخ. عثرنا أيضًا على وقائع مرعبة وصادمة، في إملشيل، لطفلات يبلغن من العمر سبع أو ثمان أو تسع سنوات تمّ تزويجهنّ. وبلغة الأرقام وجدنا أن 450 طفلة تمّ تزويجهن بذات المنطقة في 2010.
حينها، وجدنا أن الرسومات التي يخلقها هؤلاء الأطفال، ذكوراً وإناثاً، مادّة خصبَة للتّرافع، لكي يعرف الجميعُ أنّ هناك صرخة بريئة تخرُج من داخل الدّواوير، وأنه ليس فقط مؤسسة يطو أو مختلف مؤسسات المجتمع المدني أو الحركة النسائيّة أو الهيئات الحقوقيّة، هي التي تتبنى طرح التنديد بجريمة تزويج القاصِرات.
كان رأي الطّفولة هذا يحملُ من القوّة ما يجعله طموحا راوَدنا كي نجمع هذه اللّوحات في معرض، ولو أنّ الحُلم تعثّر لمدّة 12 سنة. طيلة هذه السّنين، لم نجد من يموّل المشروع. إلاّ أنّه سنة2021، قدّمنا بعض هذه اللوحات لهيئة الأمم المتّحدة للمرأة في المغرب، فقرر المسؤولون عنها الاشتغال معنا؛ وهو فريقٌ رائع أودّ الإشادة بكلّ ما يقُوم به من جهُود لدعمِنا لوقفِ هذه الجرائم المرتكَبة في حقّ الطفولة.
كان العمل مع ليلى الرّحيوي، ممثلة هيئة الأمم المتحدة للمرأة في المغرب، غنيا، حيثُ حضرت معنا في القافلة التحسيسيّة لسنة 2021 بسيدي إيفني آيت باعمران، وشاهدَت مآسي حقيقيّة وصيحات طفُولة مغتَصبة.
هكذا، تظافرت الجهود بغية اعتماد هذه اللّوحات في التّرافع لتعديل مدونة الأسرة وحذف الاستثناء من المادّتين 20 و21، بخصوص تزويج الطّفلات والأطفَال. لا أخفي أنّ سعادتي اليوم بالغة لأنّ المعرض تمّ تنظيمه، وقدّم للزّوار حوالي 45 إلى 47 لوحة للتأمل وإعادة التّفكير. هذا مع الإشارة أنه بحوزتنا 88 لوحة من الحجم الكبير، وحوالي 10 من الحجم الصغير. كلّ هذا العدد يصبّ في اتجاه التّعبير، فنيًّا، عن رفض تزويج الطّفلات، والرغبة في التمدرس والنّمو وبناء المستقبل.
- ماذا عن الأجواء التي طبعت إعداد الرّسومات، كيف كانت؟
قبل ذلك، أريدُ أن أوضّح مسألة هامّة، وهي أنّ قافِلتنا السّنوية تشمل مجموعة من الأنشطة التي يشاركُ فيها بين 60 و80 شخصا، تنطلقُ من مجموعة من الأقاليم. هؤلاء المشاركون بعضهم أعضاء بمؤسسة يطو وبعضهم متطوعون ومتعاطِفون معنا. تنطلق القافلة بجملة من الأطقم: الطبي، والمكلّف بتوزيع المَلابس، والسّاهر على التّحسيس والتّوعية. كما أنّ هناك ورشات: قانونيّة وفنيّة.
الورشة المتعلقة بالفنّ تشرف عليها لجنة لإدارة عدة أنشطة من ترفيه وغناء، وكذلك الرّسم. حين تأتي الأم للاستفادة من برامج التوعية، تُحضر معها أطفالها، ويتوزعون على مُختلف الورشَات. يتمّ ذلك وفق برنامج وبشكل منظّم. قد نستقبل، مثلاً، حوالي 20 طفلاً كلّ ساعتين، بمجموع 100 أو 150 طفلا في اليوم. الأطفال الذين يحبّون التّشكيل يلجُون ورشة الرّسم. تُقدم لهم أوراق ويتمّ توجيههم وفق موضوع معيّن ليرسُموا فيه، ويكون متعلّقا بالطّفولة والتّمدرس. حين تنتهي الورشة، يأخذ المؤطّر الرسومات ويعرضُها لهم جميعًا ويطلبُ منهم التّصويت على أفضل رسم. ثم يدعُوهم لحضور إعادة رسم اللوحة الحاصلة على أعلى عدد من الأصوات بطريقة زيتيّة من طرف الطفل بمساعدة بقية الأطفال والمؤطّر. نحاول ضمان توقيع الطفل باسمه وسنّه والدوار الذي ينتمي إليه.
وجدنا أنّ كل لوحَة عُرضَتْ في المعرض، لها قصّة يحكيها الطفل أو الطفلة. بعضهم نقل معاناة والدته التي تزوّجت وهي طفلة، وهناك من شاركته أمّه عمليّة الرسم عبر إلهامه بمعطيات قويّة. ذات مرة مثلاً، قالت إحدى الأمهات: “أتمنى لو ترسموا طفلةً اغتصبتْ ليلاً في الظلام، ولم تنظر إلى وجه مغتصبها إلاّ في الصّباح”.
- يبدو أنّ مجهودات كثيرة بُذلت بالفعل، غير أن المعارض، ربّما، تبقى نخبوية وتزورها في العادة فئات محدّدة. ما هو رهانكم من خلال هذا المعرض إذا كان لن يصل إلى أكبر عدد من شَرائح من المُجتمع؟
هذه نقطة مهمّة، ونحن عمليًّا نقُوم بالتوعيّة والتحسِيس لفائدة عمُوم شرائح المجتمع. بفضل التحسيس، انخفض عدد الطفلات المتزوجات من 450 سنة 2010، إلى 50 طفلة سنة 2018 نواحي إملشيل. لكنّ الرهان على النّخبة ليس ترفًا على الإطلاق. النخبة شريحة مهمّة في عمليّة الترافع، لأنّ كلّ واحد من هذه النخبة سيساهم من زاويته في أن يصل صوتنا وصوت أولئك الأطفال، الذين رسموا موقفهم بإبداع. نريد أن نقرّب أصواتًا قادمة من الهامش المنسي إلى نخبة، من إعلاميين وكتاب وسفراء ومستشارين ومدراء الدواوين وبرلمانيين، تتواجد عمومًا في المركز. تلك اللّوحات تقرّبهم من واقع آخر عالق وحارق. واللّوحات ليست رسومات فقط، بل هي وسيلة لتعبير شريحة مهمّة عن رفضهم ورفضهنّ لتزويج الطفلات واغتصاب طفولتهنّ وحرمانهنّ من التّعليم.
الرّهان على النخبة سيساعدنا في تظافر الجُهود بين مختَلف المجالات التي لها قدرات أخرى قد لا تتوفّر في عمل المجتمع المدنيّ وحده. هنا، أريد أن أستحضر الإعلام كسلطة رابعة وما يمكن أن يلعبه من دور في هذا الجانب. النّخبة هي طريق آمن بالنسبة إلينا نحو المجتمع. نحن في حاجة إلى قوّة ضغط لتدفع السلطات إلى اتخاذ القرار وإعادة النظر في بعض التشريعات الكلاسيكيّة وإنقاذ طفولة يجب أن تكون في المدرسة وليس في مكان آخر. حين تفشل الدولة في ضمان نمو هؤلاء الأطفال والطّفلات وضمان استكمال دراستهم، فالبلد هو الخاسر.
النخبة التي حضرت، خصوصًا المسؤولون السياسيون، سيطرحون تلقائيًّا تساؤلاً طبيعيًّا: “أين نحن من معاناة هذه الشّرائح؟”… مجرّد طرح هذا السؤال هو مكسب بالنسبة إلينا، لأنه سيعبّر عن شيء آخر مستقبلاً. المعرض سيحرّك فيهم الرغبة والإرادة بأن يقفوا في الصفّ الصحيح، وأن يترافعوا لوقفِ الظّلم. نحنُ أسمعناهم صوتًا، ونريدهم أن ينحازوا لطرفه، والمُراد، في الأصل، هو إشراك كلّ الفاعلين والمهتمين داخل المجتمع. تظافر الجهود هو ما يمكن أن يقودنا إلى الانتصار وتغيير بعض مواد مدوّنة الأسرة. أنا على يقين أن الذين حضروا استمعوا لذلك الصوت جيدا، وأنه قد ترك في نفوسهم أثراً بالغاً.
- (مقاطعاً) هناك ترافع مهمّ تقومون به، لكن البعض لا يكاد يستوعبُ الخطورة التي يطرحُها مأزقُ تزويج القاصرات؟
أعرفُ ذلك. لذلك، سأقول إنّ أوّل خطُورة تقعُ عمليًّا على الطفلة القاصرة بدنيًّا ونفسيًّا. المعاناة لا تقتصرُ فقط على ليلة الاغتصاب، وإنما على حياتها كليةً. النّساء كلّهنّ، اللائي تزوجن في سنّ مبكرة، حين تروين حكايتهنّ، يُجمعنَ تقريبًا على كونهنّ لم تستوعبن ما الذي حدث لهنّ في تلك اللّيلة. ويكون لهذه المسألة، في العادة، تداعيّات نفسيّة خطيرة قد تنعكسُ في تعاملها مع أبنائها. كما قد يؤثّر الزواج في سنّ صغيرة على صحتهنّ الجسمانيّة ونموهنّ السّليم، حيثُ يمكن أن يسقطن في الحمل المبكّر، ويمكن أن يصبن بأمراض صحيّة.
المشكلة الأخرى، التي ستصيبُ المُجتمع والبلد في مقتل، هي أنّ السّماح بتزويج القاصرات والقاصرين معناه أننا نساهمُ، حتميًّا، في خلقِ جيوش من الأميّة وأجيال جاهلة بقيمة الإنسان والتنمية والمُواطنة، إلخ. كيف يعقل أنّ المغرب لازال يحصُد مراتِب متأخرة في نسبة التعليم وجودته؟
من خلال زياراتنا الميدانيّة، وجدنا أنّ في كلّ منطقة تفوق فيها نسبة الأمية 80%، تكون الأسباب الطبيعيّة لذلك، أنهم تزوجوا صغاراً ولم يدرسوا. هل هناك خطورة أكثر من هذه ونحن في القرن 21؟ علينا ألا نغفل أنّ الأميّة تنعكسُ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثّقافي والسّياسي للبلد.
الهمّ الأساسيّ بالنّسبة إلينا هو أن نوقِف هذا التوجه نحو الارتطام بالحائط إنسانيًّا وتنمويًّا. كيف سنكون بعد عشر سنوات إن استمرّ الوضع على ما هو عليه ولم يجر تغيير القوانين المساهمة في هذه المأساة؟ علينا أن ندقّ ناقوس الخَطر ونقُول كفى. هُناك طفلات يهربن من “بيت الزوجيّة” وتلتقطهنّ شبكات للدعارة. ثمّة تحايلٌ مريبٌ على القانون. لذلك، لابُد من المنع النهائي لتزويج القاصرات في القانون، وإلغاء المادتين 20 و21 من مدونة الأسرة، وسنّ عقُوبات زجريّة ضدّ كلّ من يُزَوِّج ويَتزوَّج ومن يسمح بهذا الزواج.
اليوم مثلاً تواصلت معي طفلة من إقليم الحوز عمرها 16 سنة تستغيث، ولا من يغيثها هناك. نزعوا منها هاتفها وضغطُوا عليها وهدّدوها من أجل تزويجها برجل يبلغ 32 سنة. لنتخيّل لو نجح تزويجها، فكيف ستكون صحتها النفسيّة بعد سنوات من الآن؟ كيف ستكون تربية أطفالها؟ وكيف سيكون بناء هذه العائلة أصلاً؟ هذا نموذج فقط، وهذا يحدث لعديد من الفتيات يوميًّا في مناطق مختلفة من المغرب. لكنّنا ننسى أننا نخلق كائنات هشّة وضعيفة نفسيًّا، وستكون، لا محالة، غير قادرة على الانخراط في تنمية المجتمع.
عموما، أعتقد أنه لم يبق كثيراً لنكسب الرّهان. رغم أنّ ما يؤرقني هو…إلى أيّ حد يمكن أن نكسب هذا الرهان؟
لا أنكر أني متفائلة.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- “تزويج القاصرات”… دراسة حديثة: الاستثناء المخول للقاضي في مدونة الأسرة أصبح قاعدة! 2/1
- مالاوي: امرأة تناضل لإنهاء التزويج القسري للأطفال… أوقفت 850 حالة وأعادت أزيد من 3 آلاف طفل إلى المدرسة
- أطفال مغرب اليوم… لكل زمن بيئته ولكل بيئة سلوكاتها! 2/1
- عذرية المرأة… حين يصبح “العار” بالزواج شرفا! (الجزء الثاني)
- جريمة الاغتصاب… بين “الحشومة” والعقوبات القانونية التي لا تكبح جماح الجناة! 3/1
- تزويج القاصرات: حين يشرعن القانون الرق… والاتجار بالبشر!
- المرأة “الزوجة” في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام… 3/1