بداية التصوف في الإسلام: أن تعتكف… دون مناصرة القاتل ولا القتيل! 1 - Marayana - مرايانا
×
×

بداية التصوف في الإسلام: أن تعتكف… دون مناصرة القاتل ولا القتيل! 1\3

من منّا لا يرى شطحات المتصوفة أو يسمع ترانيمهم وحلقات أذكارهم، فيقول: هؤلاء “مجانين”؟ فهل هم “حمقى” فعلاً؟

السّلفيون يقولون: هؤلاء “في ضلال مبين”… فهل هم على ضلال حقًّا؟
محاولة الجواب تُحيلنا على السّؤال الأهمّ: ما التّصوف؟

التّصوّف… يعرّفه الباحث المتخّصص نصر حامد أبو زيد، قائلاً: “والذي لا شك فيه أنّ التصوف يُمثل -بجانبيه العملي والنظري- موقفاً من الحياة يتسم بالتعالي والازدراء والترّفع، ولا شك أنّ هذا الموقف ذاته لا ينفصل عن إطار الواقع الذي يدفع إلى رد فعل، فيسعى الصّوفي للبحث عن حلول متعالية لمشكلات هي في حقيقتها واقعية. إنّ الصوفي يُحاول أن يتجاوز إطار الواقع الحسي العياني المباشر بكل تناقضاته وصراعاته وهمومه، سعياً إلى المطلق الثابت الخالد. إنّه يتجاوز إطار الصّراع والقلق والتّوتر”. [1]

يذهب المتصوفة إلى أنّ الأساس الشرعي للتصوف يقوم على الإحسان، الذي يعدّونه مرتبةً من مراتب الدّين الثلاثة: الإسلام، الإيمان، الإحسان. بالنّسبة لهم، فبلوغ الإحسان يستدعي مغادرة قشور الشّريعة نحو معانقة لبّ الحقيقة.

الفقه الإسلامي اهتمّ بتعاليم شريعة الإسلام، وعلم العقيدة بالإيمان. أمّا التصوف، فقد انصبّ اهتمامه على إقرار الإحسان، وتهذيب التربية والسلوك وتحقيق السعادة عبر التماهي بالذات الإلهية وبلوغ الحبّ الإلهي في النّهاية.

ما يهمّنا هنا، أنّ نبين جذور التّصوف. إذ لا يمكنُ النظر إلى التصوف كحركة دينية صرفة ظهرت من تلقاء ذاتها؛ أو بمعزل عن السّياقات السّياسية والاجتماعيّة المتشنّجة التي ظهر فيها خلال القرن الأوّل الهجري.

نشأة التّصوف

يجمعُ الباحثون على ظهور حركة الزهد كبداية جنينية للتصوف. لكنّ اللافت أنّ أغلبهم يربطها بالتّأثر بالتصوف المسيحي، دون ربطها بالعوامل السياسية والثقافية التي كانت أحد عوامل بروز الزهد.

يقف حسين مروة عند هذه النقطة، مؤكداً أن الزهد، زمنئذٍ، كان من أبرز ظواهر المجتمع الجديد، بحيث اتخذ شكلاً دينيًّا. إلاّ أن جوهره كان اجتماعيًّا سیاسيًّا.

الزهد، بالنسبة لمروة، من حيث الواقع والجوهر، نمط حادّ من أنماط رد الفعل المجمل للأحداث الخطيرة الدامية والصراعات السياسية المتلاحقة منذ مصرع الخليفة عثمان.

إن الطبيعة الخاصة لهذا المسلك الزهدي، يضيف مروة، هي، “بالتحديد، طبيعة الموقف السّياسي المُعارض تجاه هذه الأحداث والصّراعات. غير أن محتوى المعارضة بدأ محتوی سلبيًّا عدميًّا أوّل الأمر. فإن فريقا من الرجال الإسلاميين البارزين وقفوا من الأحداث الدّامية، بعد مقتل عُثمان مباشرة، موقف الرّفض للقتال وللعوامل السّياسية القائمة وراء اختصام الفريقين المتصارعين“.

لكنّهم، يقرّر الكاتب، لم “يُبادروا إلى المُشاركة الإيجابية في المعركة، أي دون إبداء الرّأي الصّريح وتحديد مكان الخطأ أو الباطل ومكان الصواب أو الحق في هذه المعركة، ودون الوقوف إلى جانب الصواب والحق لرد الخطأ ودحض الباطل. بل حملهم الرفض على الوقوف خارج المعركة معتزلين كلا الجانبين، معتكفين في منازلهم زهداً بممارسة الحياة العامة، وإيثاراً للانكماش على النفس في الاعتكاف وعبادة الله وكفى”[2]، دون الاصطفاف لا مع القاتل ولا القتيل.

أمّا الباحث أبو الوفاء التفتازاني، فيذهبُ إلى أنّ الزهد في الإسلام معناه ارتفاع الإنسان بنفسه فوقَ شهواتها، وهذا معناه أن يتحرر تمامًا من كل ما يعوق حريته”. [3]

مما يورده التفتازاني أنه قيل لأحد الزّهاد الأوائل، وهو إبراهیم بن أدهم، إن اللحم قد غلا سعره، فقال: أرخصوه؟ أي لا تشتروه، وأنشد:

إذا غلا شيء عليَّ تركته … فيكون أرخص ما يكون إذا غلا

التصوف… مراحله الجنينية!

لعلّ ما جئنا على ذكره بخصوص بداية التصوف على شكل حركة الزهد خلال القرنين الأول والثاني، هو ما يمكن اعتباره المرحلة الأولى في كرونولوجيا التصوف تاريخيا أو بمثابة شكله الأوليّ.

لكن، علينا أن نسجّل أن البداية العدميّة للزهد لم تبق على حالها، كما يوضح حسين مروة، إذ أخذت ظاهرة الزهد تبرز وتنتشر بشكل آخر في أوساط المثقفين ومن مارسوا أعمالاً سياسية وإدارية.

بمعنى “أنها أخذت تبرز كأنها ظاهرة، مضمونها معارضة الأوضاع الاجتماعية والسّياسية القائمة في ظل الاستبداد الأموي وفي ظروف ازدياد التمايز الاجتماعي الفاحش بين إثراء الحاكمين المفرط وإفقار الفئات الاجتماعية العريضة، ومنها المثقفون والمجاهدون السابقون في سبيل الإسلام“. [4]

يقدّم حسين مروة مثال عبد الله بن عمر نفسه، الذي كان في جملة من اعتزلوا الأحداث اعتزالاً عدميًّا بعد مقتل عثمان، ثم تحوّل، في عهد الحجاج الطاغية، إلى معارض للظلم، ويعلن ذلك قائلا بصراحة: “ما شبعتُ منذ مقتل عثمان”، يقول حسين مروة.

مروة يرى أن عبد الله بن عمر لم يكن “حين أطلق صرخته هذه، يشكو جوعه هو شخصيًّا، لأنه كان في ذلك الحين لا يزال ملتزما سلوك الزاهد الممعن في زهده، وإنما كان يريد بذلك إعلان موقف المعارض للمظالم الاجتماعية السائدة عهد الحجاج، بقدر ما كان سلوكه الزهدي نفسه تعبيرا عن الموقف المعارض”.

بعدها، تأتي المرحلة الثانية، مرحلة القرنين الثالث والرابع الهجريين، حيثُ يرتقي الزهد ليبلغ شكله الأعلى: التصوف.

منذ ذلك الحين، “أخذ الصوفية يتحدثون في مواضيع جديدة كالسّلوك والمقامات والأحوال والمعرفة ومناهجها والتوحيد والفناء. هناك نوعان من التصوف في هذين القرنين، أحدهما: سني يتقيد بالكتاب والسنة ويعتمد عليهما باعتبارهما مصدرين من مصادر التصوف، ويبتعد هذا النوع من التصوف عن الشّطحات الصوفية والكرامات الخارقة؛ والثاني فلسفي يمتزج فيه الذوق بالنظر العقلي، ينطلق هذا النوع من الفناء، إلى مرحلة الاتحاد والحلول، أي حلول الله في الإنسان”. [5]

خلال هذه الحقبة، تجدُ الباحثة عفاف مصباح بلق، أن المتصوفة استفادوا من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء، ما كان له الأثر الأكبر في هذا التّطور الصوفي؛ غير أنهم أخذوا من الفلسفة بحظ وافر، بل كوّنوا فلسفة خاصّة بهم، حتى أصبحنا نرى بينهم رجالاً أشبه بالفلاسفة منهم بالمتصوفة، وأصبحنا نرى بعضهم يدين بمسائل فلسفية لا تتّفق ومبادئ الشّريعة، مما أثار عليهم جُمهور أهل السّنة، وجعلهم يحاربون التّصوف الفلسفي، ويؤيّدون التّصوف الذي يدور حول الزهد والتقشف وتربية النّفس وإصلاحها.

في غضون ذلك، تعرض بعض المتصوفة، على غرار الحلاج، إلى الاضطهاد من قبل الفقهاء والمتشددين “وظهر الخلاف على حقيقته حوالي منتصف القرن الثالث الهجري بين فُقهاء البصرة والكُوفة ومُتصوّفتهما، تم تلته سلسلة من الاضطِهادات في مصر والشام والعراق انتهت بمأساة الحلاج، أي بتعذيبه ومقتله.

في القرن الخامس الهجري، استمر التصوف السني “المعتدل”، ويمثله أبو حامد الغزالي، حيثُ حاول إرجاع التصوف وإلى مسلكٍ مصدره الإسلام السني”. [6]

أما المرحلة الثالثة، التي توردها عفاف مصباح بلبق، أي خلال مرحلة القرنين السادس والسابع الهجريين، فهي ترى أنها تميّزت بظهور التّصوف الفسلفي، نظراً لتأثره بالمؤثرات الخارجية كالفلسفة اليونانية والفارسية والهندية والمسيحية واليهودية؛ ويبدو تأثير الفلسفة اليونانية على التصوف الإسلامي من خلال الأفلاطونية المحدثة وتأثيرها على المذهب الإشراقي. [7]

يعد السُّهرَوَرْدِي مثالاً لهذا المذهب، على الرّغم من اختلاف الأسلوب والتّعبيرات، إذ تلاحظ الباحثة أن “مذهب السُّهرَوَرْدِي لا يخرج عن كونه نسيجة محكمة على منوال مدرسة ابن سينا الإشراقية المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة. تأثيرها يظهر أيضاً واضحاً على محي الدين بن عربي القائل بوحدة الوجود، وبن سبعين ونظريته في الوحدة المطلقة وغيرهما”…

في الجزء الثاني، نرصد كيف تحول التصوف إلى موقف أيديولوجي، خصوصاً حين بلغ مرحلة النظر العقلي: التّصوف النظري الفلسفي.

هوامش:

[1]نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1983، لبنان.

[2]مروة حسين، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، المجلد الثالث، دار الفرابي، الطبعة الثانية 2008.

[3]أبو الوفاء التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة، الطبعة الثالثة.

[4] مروة حسين، المرجع السابق.[4

[5] عفاف مصباح بلق، عن ورقتها البحثية: التصوف الإسلامي: مفهومه، نشأته وتطوره، مصادره.

[6] المرجع نفسه.

[7] غلاب محمد، التصوف المقارن، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، القاهرة.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *