نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: النبي المؤسس: سيرة لم تكتب 3/4
انتقد عدد من علماء الجرح والتعديل سيرة ابن إسحاق، واعتبره الكثيرون مدلسا وكاذبا، ومن أبرزهم الإمام مالك بن أنس، الذي قال عنه: “دجال من الدجاجلة نحن نفيناه من المدينة”، فيما قال عنه هشام بن عروة “إنه كذاب ونفى أن يكون سمع من زوجته فاطمة بنت المنذر”، كما اتهم بأنه من القدرية، وخلص عدد من علماء الجرح والتعديل إلى أن ابن إسحاق كان مدلسا كابن سيد الناس في كتاب عيون الأثر والذهبي في الميزان، والحافظ ابن حجر في التقريب.
توقفنا في الجزء الثاني من هذا الملف، عند أزمة الكتابة التاريخية في التاريخ الإسلامي.
هذا الجزء الثالث، نخصصه لسيرة النبي التي لم تكتب، وكيف تفاعل معها المؤرخون والمسلمون.
النبي الملهم
يروى أن رجلا يتيم الأبوين، متوسط الحال، كان يرعى الغنم في صحراء ممتدة بشبه الجزيرة العربية، تسكنها قبائل رحل وغزاة وتجار، جاءه الوحي يوما في شعب من شعاب مكة. أعلن هذا الرجل نبوته، نبذه قومه، آذوه، لفظه الكبار وآمن به المستضعفون. هاجر من مكة إلى يثرب. كبرت الجماعة التي آمنت به. قاتلت لنصرته. أعلت رايته. نشرت شعاع دينه.
جمع النبي كلمة قبائل كانت دوما متفرقة، وجاء خلفاؤه ليكونوا إمبراطورية حكمت الجزء الأكبر من العالم المعروف آنذاك، ازدهرت في عهدها الحضارة البشرية، واستمرت قرونا تقدم للبشرية أعظم الإنجازات، بفضل اعتناقها لدين محمد الذي كان النبراس الذي يقودها.
صورة تشكلت في وجدان المسلمين على مدار أربعة عشر قرنا إلى الآن. ألهبت مشاعرهم. حفزت كل المنتمين للفرق والجماعات المسلحة المرتدية للبوس إسلامي، بدء من انتفاضة الخوارج ضد علي وثوراتهم على معاوية، وحروب جماعة الأزارقة مرورا بحشاشي العصور الوسطى، وصولا إلى فظاعات داعش في الشرق الأوسط.
على مدار التاريخ الإسلامي، كان المرجع واحدا، والملهم واحدا: إنه “النبي محمد”، البطل الأسطوري المكتسب لقداسة تحرك وجدان ملايين المسلمين. يكفي رسمه بشكل كاريكاتوري من طرف مجلة ساخرة، أو كتابة مقال “ينتقص” من قداسته ليجعل المسلمين يهبون ذودا عنه، كما حدث مع شارلي إيبدو وحوادث كثيرة غيرها.
عمل ابن إسحاق، تعرض للنقد الشديد من الأوساط الإسلامية، إذ انتقد عدد من علماء الجرح والتعديل في سيرة ابن إسحاق، واعتبره الكثيرون مدلسا وكاذبا، ومن أبرزهم الإمام مالك بن أنس، الذي قال عنه: “دجال من الدجاجلة نحن نفيناه من المدينة”، فيما قال عنه هشام بن عروة “إنه كذاب ونفى أن يكون سمع من زوجته فاطمة بنت المنذر”
فترة مقدسة… ولكن؟
تحولت هذه الفترة إذن إلى النموذج الأعلى للمجتمعات الإسلامية، باعتبارها الفترة التأسيسية “للمشروع الإسلامي”؛ لدرجة تم إعلاء هذه المرحلة إلى درجة القداسة -عند السنة بالخصوص- واعتبار أي مساءلة أو نقد لها، طعنا في الإسلام ومحاولة لهدم أركان الدين. في نفس الوقت، اتجهت اجتهادات للبحث عن أسس هذا المشروع وإسقاطه على الحاضر، ومن ثم المستقبل الذي أصبح تمثلا لهذا الماضي.
بيد أن الحقيقة التي يتم السكوت عنها، هي أن تاريخ هذه الفترة لم يكتب إلا بعد أكثر من قرن من الزمان.
لقد كانت الثقافة الإسلامية شفوية في بدايتها، فالفقهاء لم يكونوا يحبون الأخذ من الكتب دون إجازة من الشيوخ، بل كانوا يفضلون طريقة التلقي والسماع، وقد عرف عنهم قولهم “لا نأخذ العلم من صحفي ولا مصحفي”، أي من يأخذ العلم والرواية من المكتوب دون السماع عن الشيوخ. كما عرف عن الإمام الأوزاعي (88هـ – 157 هـ) قوله: “كان هذا العلم شيئا شريفا إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله”.
لا ينفي هذا الأمر وجود محاولات لكتابة أجزاء من تاريخ النبي، لكنها اتجهت أساسا إلى تدوين نسبه أو مغازيه. هكذا، كان عبد الله بن عباس يملي على بعض تلاميذه نسب الرسول ومغازيه وهم يدونون للحفظ.
كما أن عمر بن عبد العزيز أمر بتدوين الحديث، بيد أنه توقف عندما عرف أن عمر بن الخطاب نهى عن تدوين سيرة الرسول. كما ألف الصحابي عروة بن الزبير بن العوام (ت 93هـ) كتابا في المغازي، وفي نفس الاتجاه ألف أبان بن عثمان بن عفان (ت 105 هـ)؛ فيما أول محاولة لتدوين سيرة النبي كاملة، كانت من خلال كتاب سيرة “ابن اسحاق” الذي دونه محمد ابن إسحاق بعد أكثر من قرن من الزمان على وفاة النبي (حيث توفي ابن إسحاق حوالي 151 هـ وتوفي الرسول في 11 هـ).
هكذا، نقف على الحقيقة الصادمة، وهي أن سيرة النبي المؤسس، لم تكتب بشكل رسمي إلا بعد أكثر من قرنين من الزمان على وفاته، وأن من كتبوا هذه السيرة، لا يمكن الاطمئنان إلى روايتهم، وتكتنفها محطات غامضة.
المثير هنا أن عمل ابن إسحاق، تعرض للنقد الشديد من الأوساط الإسلامية، إذ انتقد عدد من علماء الجرح والتعديل في سيرة ابن إسحاق، واعتبره الكثيرون مدلسا وكاذبا، ومن أبرزهم الإمام مالك بن أنس، الذي قال عنه: “دجال من الدجاجلة نحن نفيناه من المدينة”، فيما قال عنه هشام بن عروة “إنه كذاب ونفى أن يكون سمع من زوجته فاطمة بنت المنذر”، كما اتهم بأنه من القدرية، وخلص عدد من علماء الجرح والتعديل إلى أن ابن إسحاق كان مدلسا كابن سيد الناس في كتاب عيون الأثر والذهبي في الميزان، والحافظ ابن حجر في التقريب.
هذا الكتاب –أي سيرة ابن اسحاق- ضاع ولم يعثر له على أثر، حتى جاء ابن هشام (توفي سنة 228 هـ) بعده بقرن من الزمان، ليكتب لنا مختصرا لسيرة ابن إسحاق، بناء على ما نقله سماعا من البكائي تلميذ ابن اسحاق.
وعلى غرار ابن إسحاق، فقد ضعف عدد من علماء الجرح والتعديل البكائي، واتهموه إما بالتدليس أو الكذب أو ضعف الرواية، فقد قال عنه ابن معين: “لا بأس به في المغازي، وأما في غيرها فلا”. وقال ابن المديني: “ضعيف، كتبت عنه وتركته”، وقال أبو حاتم: “لا يحتج به”، وقال عنه النسائي “ضعيف”، وقال ابن سعد: “كان عندهم ضعيفا، وقد رووا عنه”.
هكذا، نقف على الحقيقة الصادمة، وهي أن سيرة النبي المؤسس، لم تكتب بشكل رسمي إلا بعد أكثر من قرنين من الزمان على وفاته، وأن من كتبوا هذه السيرة، لا يمكن الاطمئنان إلى روايتهم، وتكتنفها محطات غامضة.
في الجزء القادم والأخير، نسلط الضوء على واحد من أزمات الوعي التاريخي الإسلامي وما طال سيرة النبي المؤسس من تدخلات.
لقراءة الجزء الأول: نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: الوعي التاريخي الإسلامي الشقي والمزيف 1/4
لقراءة الجزء الثاني: نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: التاريخ بين الرواية والايديولوجية 2/4
لقراءة الجزء الرابع: نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: سيرة النبي مشذبة أم متخيلة؟ 4/4
مقالات قد تهمك
عمر بن أعمارة يكتب: لا تاريخانية الخطاب الديني … الوهم والمغالطة
قداسة الكعبة على ضوء التاريخ الإسلامي: بين القداسة والتخريب 2/3