من مصر، أحمد محمد عبده يكتب: كيمياء الدين والتدين… الوسطية، التصوف والتطرف 1/2
العبودية، أي عبودية… دِين، أو دَين في رقبة الإنسان، يَدينُ بها لمن دانت له عاطفته وحواسه وفكره. فالدين بهذا المعنى، سماوي أو أرضي، فطرة نائمة في ضمائر البشر، خُلقت معهم، تصحو وتنام، تخبو وتتوهج، تزيد وتنقص… لكنها لا تنعدم بداخله.
ولا علاقة لاختيار المعتقد بالثقافة والعلم، فقد تجد عالِماً هندياً في علوم الصواريخ والفضاء، وعند المساء لا ينام إلا بعد أن يؤدي الطقوس للبقرة
الجمود الذهني هو عطب يصيب الإنسان بعجز عن تغيير وجهة نظره، ولا يسمح له بوضع نفسه مكان الآخر لفهمهِ وتفهم أفكاره، والمصاب بالجمود الذهني يرتكز على ثوابت ومسلمات لا تقبل النقاش، ويبحث المصاب بذلك الجمود عن آخرين لا يختلفون معه فكرياً، فهو سيجد فيهم الراحة والأنس والمعاونة، وعدم تكدير النفس.
… سيجد فيهم، إرضاء لنرجسيته، فينشأ عنده التعصب وكراهية الآخر. فهذا الآخر في نظره، يمثل خطراً، ليس عليه وحده أو على جماعته، بل على نظام الكون، ويسبب الفوضى والفساد. إن الانطواء والانغلاق على الذات هو انتصار لغريزة الموت.
هؤلاء يحبسون أنفسهم داخل وجهة نظر واحدة، يرتاحون إليها ويأنسون بها. والتعصب حالة نفسية:
تعصب للمقدس الديني، سماوياً أو أرضياً كان، مرتبط بالمشاعر الروحانية، مكانه القلب والوجدان، أو كان … عاطفياً مادياً، كالوقوع في عشق امرأة مثلاً، أو عقلياً، مرتبط بالانتماء: للقبيلة، لزعيم، لنادي كرة قدم …
يتغلب عند المتطرف جانب فقه التشدد على فقه التيسير، ينبهر بفقهاء الغلو والمبالغة والزيادة على ما طلبه الشرع، كما ينبهر بالجانب الحركي في الشريعة، مثل آيات: “حرِّض المؤمنين/ جاهد الكفار/ واغلظ عليهم…
ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا مُعتقد، أي مُعتقد، غيبي أو مادي محسوس. حتى المعتقد المادي المحسوس قد يتخذه وسيلة لمعتقد غيبي، حقيقي: الله. أو وهمي: إله الرياح وإله المطر وإله الحب، كما كان في معتقدات الإغريق والفراعنة مثلاً. فالإنسان عبدٌ، وعابد بطبعه، ولو بلغ غاية التحرر. لديه غريزة عبودية ما، أي عبودية، للخالق أو لمخلوق، شجر أو حجر أو بقر. عبد للجنس أو للمال أو للسلطة أو لكاريزما ما.
العبودية، أي عبودية… دِين، أو دَين في رقبة الإنسان، يَدينُ بها لمن دانت له عاطفته وحواسه وفكره. فالدين بهذا المعنى، سماوي أو أرضي، فطرة نائمة في ضمائر البشر، خُلقت معهم، تصحو وتنام، تخبو وتتوهج، تزيد وتنقص… لكنها لا تنعدم بداخله.
ولا علاقة لاختيار المعتقد بالثقافة والعلم، فقد تجد عالِماً هندياً في علوم الصواريخ والفضاء، وعند المساء لا ينام إلا بعد أن يؤدي الطقوس للبقرة.
اقرأ أيضا: أحمد المهداوي يكتب: السلفية بالمغرب… غربة “اختيارية” خارج الزمن
والدين السماوي، أو دين النبوات، تجده عند الإنسان إما مُفعَّلاً أو خامداً، وهو لا يتفاعل بذاته، يغلي داخل المعمل الكيميائي في الإنسان بفعل “المفهوم”. يتفاعل هذا المفهوم مع العاطفة، فينعكس ذلك على صاحبه في صورة سلوكيات تخرج بشكل ذلك المفهوم. عبادة وسطية، أو تشددا.
أما الدين المادي، فهو نَشط باستمرار متى استقر في صاحبه، ولا وسطية فيه، فالويل كل الويل لمن لا يقف حتى تعبر بقرة عالِم الصواريخ!
يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون: على مر التاريخ، وجدنا جماعات إنسانية ليست لها فلسفات ولا فنون، ولكن لم نجد جماعة منها ليس لها عقيدة تؤمن وتدين بها. فالناس قد يعبدون حيوانات أو أشجاراً أو حجارة أو آلهة مصنوعة من الذهب أو بشراً قديساً، ويمكن أن يقودهم دينهم إلى نوازع الشر والتدمير، أو يقودهم إلى المحبة والبناء، إلى التسلط والسيطرة، أو التسامح والتكافل والتضامن.
****
وهناك كيمياء للدين نفسه، وكيمياء للتدين. تفاعلات الدين يمكن أن تكون نوعاً من المتاجرة أو الرياء، فإذا تطور الدين إلى مرحلة التدين: إما أن تكون:
أولاً ـــ باستنارة ووسطية وممارسة حياة طبيعية.
ثانياً ـــ بالتقوقع والهروب من المجتمع إلى داخل النفس، وهو منهج المتصوفة والدراويش. وهذا تصحبه سلوكيات وممارسات وشكليات أقرب إلى المرض النفسي، ففي منتصف حلقة ذكر صوفية يسقط الدرويش مغشياً عليه! فما الذي كان يتفاعل ويغلي بداخله؟
ثالثاً ـــ بالتشدد والتكفير والتعصب الأعمى والانغلاق، ما يؤدى للخروج على الحياة الطبيعية للناس، وهو ما نسميه التطرف.
ففي حالة الوسطية، تتفاعل خلايا التدين في الإنسان، مع حرصه على أخذ نصيبه من الدنيا، فينتج لنا إنساناً وسطياً مسالماً متصالحاً مع البشر والحجر.
وفى حالة التقوقع، تتفاعل خلايا التدين مع المفهوم، فيخرج المتصوف من دنيا الناس، فيزهد ويتقوقع في شرنقته، وينخرط في نظام معين للعبادة. يحدث له تغير ملحوظ في الشكل والسلوك، وانكماش وتقوقع، فلا لزوم لهذه الدنيا عنده، والموت هاجسه الوحيد… يبدو كأنه ميت يعيش وسط أحياء، يتمثل شيخه ومرجعه لدرجة تقترب من العبودية.
الدين السماوي، أو دين النبوات، تجده عند الإنسان إما مُفعَّلاً أو خامداً، وهو لا يتفاعل بذاته، يغلي داخل المعمل الكيميائي في الإنسان بفعل “المفهوم”. يتفاعل هذا المفهوم مع العاطفة، فينعكس ذلك على صاحبه في صورة سلوكيات تخرج بشكل ذلك المفهوم. عبادة وسطية، أو تشددا.
أما في حالة التطرف، فقد تَكوَّنَ عنده مفهوم معين. فيتغلب عنده جانب فقه التشدد على فقه التيسير، ينبهر بفقهاء الغلو والمبالغة والزيادة على ما طلبه الشرع، كما ينبهر بالجانب الحركي في الشريعة، مثل آيات: “حرِّض المؤمنين/ جاهد الكفار/ واغلظ عليهم/ فضرب الرقاب/ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم …”، وأحاديث مثل: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده/ أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله/ بُعثتُ بالسيف/ وجُعلَ رزقي تحت ظل رمح/ ومن ترك الجهاد مع قدرته…/ جئتكم بالذبح”، سواء كانت صحيحة أو ضعيفة، وغير ذلك من النصوص الحركية.
كما يسيطر عليه الجانب المثالي، للرعيل الأول من الصحابة والتابعين، فيرى الفجوة الواسعة بين حياتهم وحياتنا، حياتهم التي قرأ أو سمع عنها، وراحت كل أعضائه وجوارحه تتمثلهم، فهي اتسقت مع تفاعلاته النفسية، ومزاجه الروحي، وافتتانه بطريقة حياة وسيرة السلف، التي نتجت عن رفضه للواقع الحديث، فتنتفخ فيه تلك “السلفية أو الأصولية“، فيرفض كل مظاهر الحداثة، ويُضِّيق على نفسه وعلى المحيطين به، في نفس الوقت يعيش انفصاما في الشخصية، فتجده يركب المرسيدس ويهاتف بالموبايل، ثم ينخرط في تقليد الأوائل، يتمثلهم في سلوكياته وتصرفاته وكل دقائق حياته، من الجلباب القصير والمسواك والشعر المرسل على قفاه، إلى اللَّحية الطويلة واللغة الفصحى أحياناً، وعمامة لها طرفان مرسلان على ظهره… مع تجهُّم وغلظة، ونوع من الاستعلاء… فهو يتعامل مع “كفار الجاهلية الجديدة“، وهو وجماعته “الأعلون”، ولا ينبغي أن “يهِنوا أو يحزنوا”.
اقرأ أيضا: علي اليوسفي: البعد الشيطاني* للخطاب الديني 1\3
… يعيش في مقارنة مستمرة، بين حياة الأولين وحياتنا التي شكلتها طبيعة ومتطلبات العصر. هو مهووس بالخلافة، فهي في نظره، المقابل المثالي لمظالم الشرق وإباحية الغرب. يشترك مع الصوفي في تقديس الأشخاص. الصوفي يقدس شيخه، والمتشدد يقدس أميره.
يقول الكاتب الكويتي الدكتور محمد العوضي: “العقلية المتعصبة تجعل الأشخاص فوق الأفكار”…
لقراءة الجزء الثاني: كيمياء الدين والتدين… التقرب إلى الله بقتل خلقه 2/2
كل الشكر لموقع مرايانا العظيم المستنير