“الأصولية” في الإسلام: هل فاجأ الغرب المجتمعات الإسلامية بالحداثة وأخطأ تقديره للوقت الذي تحتاجه؟ (الجزء الخامس والأخير) - Marayana - مرايانا
×
×

“الأصولية” في الإسلام: هل فاجأ الغرب المجتمعات الإسلامية بالحداثة وأخطأ تقديره للوقت الذي تحتاجه؟ (الجزء الخامس والأخير)

إذا كان على أوروبا أن تدخل عالم الحداثة تدريجيا خلال أزيد من 3 قرون، فإن محمد علي باشا، الذي عرف فيما بعد بمؤسس مصر الحديثة، حاول إخراج بلاده من التخلف والعزلة التي عاشتها ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وإجراء هذا التحول إلى الحداثة، على تعقيده الشديد، فيما لا يزيد عن 40 سنة؛ فكان بذلك كمن أشهر ورقة الحرب في وجه المجتمع.

كان اليهود عام 1492 (التفاصيل في الجزء الثالث)، أوائل ضحايا النظام الجديد الذي كان يولد ببطء في الغرب، لدى المسيحيين على الخصوص (التفاصيل في الجزء الرابع)، أما الضحايا الآخرون، فقد كانوا المسلمين الذين فقدوا آخر موقع لهم في أوروبا. ومع ذلك فقد كان الإسلام بعد في عنفوانه، ولا يزال أعظم قوة عالمية خلال القرن الـ16.

نتابع إذن هذا الملف في جزئه الخامس والأخير، مع الأصولية كما تطورت في الإسلام، دائما، بالاعتماد على كتاب الباحثة البريطانية في علم الأديان المقارن، كارين أرمسترونغ، “معارك في سبيل الإله”.

على الرغم من سبيل التحديث الذي ذهبت فيه المجتمعات الإسلامية خلال القرن الـ16، فإنها لم تقدم على أي تغيير جذري، ولم تشارك في الفكر الثوري الذي بات السمة المميزة للثقافة الغربية.

في الواقع، كانت الدولة العثمانية تعبيرا سياسيا عن الروح المحافظة، واتسمت بإعادة تأكيد القيم الإسلامية كإشارة اعتزاز وافتخار إلى أن التاريخ الإسلامي قد عاد إلى طريقه الأصلي.

اقرأ أيضا: علي اليوسفي: الحجاب والإسلام – الجزء الأول

بحلول القرن الـ18، أخذ عقد الدولة العثمانية ينفرط، فأدركت أنها لم تعد قادرة على مواجهة الدول الأوروبية، لا لأنها ضعفت سياسيا وحسب، وإنما لأن المجتمع الذي كان يتشكل في أوروبا كان فريدا وغير مسبوق.

ومع أن المذهب السني، الذي يتبعه معظم المسلمين، كان الدين الرسمي للإمبراطورية العثمانية، وكان يسمح للفقهاء حينذاك بالاجتهاد، إلا أنه في مطلع العصر الحديث، سعى كثير من أهل السنة إلى الحفاظ على تقاليدهم.

استقر رأي هؤلاء على أنه لم تعد ثمة حاجة إلى مزيد من الأفكار المستقلة؛ فالإجابات قائمة، والشريعة الإسلامية نهج ثابت للمجتمع، والاجتهاد لم يعد ضروريا ولا مستحبا.

الحقيقة أن المسلمين لم يروا أن القانون الإلهي يمثل قيدا على حريتهم، بل إنهم في العبادة والشعائر، كانوا يرونه بمثابة تحقيق لمنطق الروح الأصيل والفطري الذي يقيم الصلة بينهم وبين القداسة.

لكن، بحلول القرن الـ18، أخذ عقد الدولة العثمانية ينفرط، فأدركت أنها لم تعد قادرة على مواجهة الدول الأوروبية، لا لأنها ضعفت سياسيا وحسب، وإنما لأن المجتمع الذي كان يتشكل في أوروبا كان فريدا وغير مسبوق.

اقرأ أيضا: علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟

كان المسلمون يرون الحداثة كقوة أجنبية غازية ترتبط ارتباطا وثيقا بالاستعمار والسيطرة الأجنبية. هكذا، عندما غزا نابليون بونابارت مصر عام 1798، كان يبدأ بذلك مرحلة جديدة من العلاقات بين الشرق والغرب.

حيثيات ظهور الأصولية في مصر كنموذج

حاول بونابارت أن يهادن المصريين بأنه ما جاء ليمس الدين، وكان يعرف ما يعنيه ذلك على خلفية عمل كبير قام به المستشرقون، لكن الفقهاء لم يصدقوه واعتبروا ذلك خداعا ومخاتلة.

الواقع أن هؤلاء لم يفهموا أصلا أفكار التنوير التي جاء بها، إنما قض مضجعهم احتمال خضوعهم لحكم “الكفار”.

محمد علي باشا

وإذا كان على أوروبا أن تدخل عالم الحداثة تدريجيا خلال أزيد من 3 قرون، فإن محمد علي باشا، الذي عرف فيما بعد بمؤسس مصر الحديثة، حاول إخراج بلاده من التخلف والعزلة التي عاشتها ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وإجراء هذا التحول إلى الحداثة، على تعقيده الشديد، فيما لا يزيد عن 40 سنة؛ فكان بذلك كمن أشهر ورقة الحرب في وجه المجتمع!

لكن الراية التي كانت مرفوعة في أوروبا هي التجديد والابتكار، بينما معظم المصريين ما يزالون في قبضة الروح المحافظة. هكذا، لم يكن سبيل محمد علي إلى تحويل مصر إلى دولة حديثة هو التجديد، إنما كان محاكاة الغرب. كان ذلك بكل تأكيد، مناقضا لروح الحداثة.

الحقيقة أن أوروبا الحديثة كانت تعتبر مصدر إلهام مثير في مصر سبعينيات القرن الـ19، فكان يُنظر إليها باعتبارها موائمة للروح الإسلامية.

اقرأ أيضا: هذه حكايات 9 من أشهر الاغتيالات السياسية في صدر الإسلام.. (الجزء الأول)

هذا الحماس تجلى بوضوح مثلا في كتابات رفاعة الطهطاوي، الذي كان من كبار معجبي محمد علي، ومن أوائل الطلاب الذين أرسلهم الأخير عام 1826 للدراسة في باريس.

الطهطاوي بهرته أفكار التنوير الأوروبية، ومع أنه سجل بعض التحفظات، إلا أنه وآخرون، حاولوا نشر هذه الأفكار في مصر.

جمال الدين الأفغاني

على الجانب الآخر، ظهر رجل في القاهرة اسمه جمال الدين الأفغاني، عزم على تعليم العالم الإسلامي كيف يوحد صفوفه تحت راية الإسلام، وكيف يستعين بالدين في درء خطر الإمبريالية.

كان مثله مثل غيره من المفكرين الدينيين بعده، كمحمد عبده الذي صار مفتي الديار المصرية، يحاول أن يثبت أن إيمانه كان عقلانيا وعلميا.

لكن مواقفه بدت غير متسقة؛ حسب القراءة التي تقدمها الباحثة البريطانية في علم الأديان المقارن، كارين أرمسترونغ، في كتابها “معارك في سبيل الإله”؛ شأنه في ذلك شأن أي مصلح، حيث حاول أن يجعل منطق الروح الذي يستند إليه الدين يبدو في صورة منطق العقل، فواجه مخاطرة تتمثل في تقديم خطاب ديني ناقص وخطاب علمي غير صحيح.

اقرأ أيضا: حسين الوادعي يكتب: التأليف الإسلامي حول العلمانية

بعد ذلك، أدى الاحتلال البريطاني إلى إيجاد صدوع جديدة داخل المجتمع المصري؛ حيث بدأت مظاهر التحديث تنجلي من تعويض للتعليم الديني بالتعليم الغربي، والمحاكم الشرعية بالمحاكم المدنية، وغير ذلك من الإجراءات، حتى برزت طبقة جديدة من الموظفين والمثقفين.

الراية التي كانت مرفوعة في أوروبا هي التجديد والابتكار، في حين كان معظم المصريين ما يزالون في قبضة الروح المحافظة. هكذا، لم يكن سبيل محمد علي باشا إلى تحويل مصر إلى دولة حديثة هو التجديد، إنما كان محاكاة الغرب. كان ذلك بكل تأكيد، مناقضا لروح الحداثة.

حينها، بدا أن المصريين يشعرون بالاغتراب عن بعضهم البعض، حيث إن الذين اكتسبوا النمط الغربي منهم، اعتبروا من طرف البعض الآخر كمغتربين عن ثقافتهم الأصيلة.

إلى هذا الوقت، لم تكن قد تطورت أي حركة أصولية بعد في مصر، ثم حدث ذات يوم أن جاء مدرس شاب بأفكار جديدة نشرها بين الأفراد العاديين، وحول تلك الأفكار إلى حركة جماهيرية. هذا المدرس هو حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين في مصر.

حسن البنا

كان حسن البنا يرى أن الإسلام ليس مجرد قائمة تعليمات، بل هو أسلوب كلي للحياة، إذا عاشها الإنسان بإخلاص، فإنها ستعود عليه بالدينامية التي امتلكها المسلمون لمدة طويلة قبل أن يستعمرهم الأجانب.

الحقيقة أن البنا، رغم أنه كان في العشرينات من عمره، إلا أن تأثيره كان كبيرا، وكان ينظم مع أصدقائه خطبا دينية، يقول فيها إن فقدان توازنهم يرجع إلى تأثير الغرب والتغييرات السياسية الحديثة.

ثم ذات مساء من عام 1928، جاء إلى البنا ستة عمال وأخبروه أن عليهم التحول من الأقوال إلى الأفعال… في تلك الليلة، ولدت جمعية “الإخوان المسلمين“، وأقسم البنا مع هؤلاء أن يكونوا “جندا في سبيل رسالة الإسلام”.

اقرأ أيضا: بعض من كلام: المساواة في تونس… إنهم يغتالون الإسلام!

من هذه البداية التي قد تكون صغيرة، نمت الحركة وانتشرت… على أن البنا لم يقصد، ربما، أن تتوجه جماعته نحو العنف أو الراديكالية، لكن الحركة ذهبت بعد تأسيسها في اتجاه كان فارقا في تاريخ مصر الحديث، وفي دول أخرى من دول المنطقة.

توجه عنيف ودموي تطرقنا له في مرايانا من خلال ملف من 11 جزءا عن حركة الإخوان المسلمين منذ النشأة حتى مختلف التحولات التي عرفتها. يمكن مطالعة الملف انطلاقا من جزئه الأول على هذا الرابط: التنظيم السري للإخوان المسلمين: مرايانا، مع ثلاث باحثين جامعيين من تونس، ينبش في أسرار وخبايا التنظيم.

لقراءة الجزء الأول: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)

لقراءة الجزء الثاني: “الأصولية” في الديانات الثلاث: ما بين المنطق الروحي والمنطق العقلاني… (الجزء الثاني)

لقراءة الجزء الثالث: “الأصولية” في اليهودية: بين لعنة المنفى وغواية الأرض (الجزء الثالث)

لقراءة الجزء الرابع: “الأصولية” في المسيحية: حين تنتصب الديمقراطية عائقا! (الجزء الرابع)

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *