حرية المرأة بين “الجاهلية” والإسلام: 1- وضعية المرأة في ما يسمى بـ “الجاهلية” - Marayana - مرايانا
×
×

حرية المرأة بين “الجاهلية” والإسلام: 1- وضعية المرأة في ما يسمى بـ “الجاهلية”

يفترض الخوض في موضوع الإسلام وحرية المرأة نوعا من التدقيق المنهجي: هل نقصد ما آلت إليه أوضاع المرأة العربية “الجاهلية” إيجابا وسلبا بمجيء الإسلام وشرائعه؟ هل نقصد مقارنة وضعية المرأة المسلمة اليوم مع ما حققته نظيرتها الغربية؟ أم هل نقصد دراسة أوضاع المرأة المسلمة بالنظر إلى تمثل حقوقي لما ينبغي أن تكون عليه كإنسان بغض النظر عن الانتماء الديني أو الحضاري؟

 

لعل كل تلك الاحتمالات جديرة بالاهتمام، لكننا سنتوقف عند الشق الأول من هذه التساؤلات لسبب بسيط، هو أنك كلما أثرت الموضوع مع أو أمام بعض المحافظين، إلا أجابوك بأن المرأة كانت في “الجاهلية” مجرد بضاعة بلا قيمة ولا حقوق، فلما جاء الإسلام كرمها ومنحها كل الحقوق المادية والمعنوية.

ونحن نعتقد أن تنسيب جواب من هذا القبيل، يقتضي التوقف عند أمرين معا، هما: وضعية المرأة في مرحلة ما قبل الإسلام التي يحلو للكثيرين نعتها بالجاهلية، من جهة؛ والوضع الذي آلت إليه في الإسلام، من جهة ثانية. هذا الوضع الجديد [الإسلام]، يقتضي أيضا التمييز بين ما جاء به النص بخصوص المرأة، وما أنتجه الخطاب الديني انطلاقا من فهم أو تأويل معين للنص، تأويل مشروط بأوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية ومعرفية.

لم تعرف مرحلة ما قبل الإسلام مجتمعا واحدا متجانسا ومنسجم المعالم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنما كانت التركيبة الاجتماعية ومحددات العلاقات تختلف ما بين اليمن [العربية السعيدة] في أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية، والشام في أقصى شمالها على مشارف البحر الأبيض المتوسط، والحجاز في الوسط. وعلى الرغم من أن المجتمع العربي كان عموما مجتمعا أبويا تمثل فيه المرأة الحلقة الأضعف، باعتبار عجزها عن الدفاع عن نفسها في محيط يطبعه الغزو والسبي، فإن علاقة الرجال بالنساء قد ارتهنت في مختلف هذه المناطق بطبيعة الاقتصاد والسلطة السياسية والتأثيرات الثقافية، فكان تحرر النساء أو تبعيتهن للرجال يختلف حسب وضعهن الاجتماعي.

في الشام، خلد التاريخ اسم الزبَّاء المعروفة عند الرومان بزنوبيا، والتي كان زوجها أُذينة على رأس دويلة تدمر [سوريا] يصانع الرومان ويخدم مصالحهم، فلما مات، استولت الزباء على الحكم، وسعت إلى إقامة دولة حقيقية مستقلة وتصفية الاحتلال الروماني لسوريا، فتحالفت مع القبائل العربية التي كانت قد استوطنت أجزاء واسعة من سوريا. كانت الزباء تتكلم اللغة التدمرية واللهجات السامية، وتتقن اللاتينية والقبطية، وأحاطت نفسها بمستشارين مثقفين من أمثال الفيلسوف الروماني كاسيوس ديونيسوس لونجينوس، والمؤرخ كليكراتس [من صور]، والفيلسوف واللغوي البيروتي لوبوكوس، والمؤرخ نيقوماخس وهو كاتب ومن شراح الفلسفة اليونانية. هكذا، أقامت الزباء دولة راقية ذات مدنية مثقفة، امتدت من الفرات إلى البحر المتوسط ومن صحراء العرب إلى آسيا الصغرى، وصمدت في وجه الرومان لمدة سبعة عشر سنة، [هي مدة ملكها]، إذ لم تقع في قبضتهم إلا سنة 684م، فأخذوها أسيرة إلى روما حيث توفيت ضنكا عاما بعد ذلك.

وقد خلد التاريخ أيضا أمَّ قِرفة [فاطمة بنت ربيعة] التي كان يُضرب بها المثل في العزة والمنعة فيقال: “أعز من أم قرفة“. وقد كانت أم قرفة تحظى باحترام قبيلتها فَزارة والقبائل المجاورة، وهو ما مكنها من حشد قومها ضد جيوش المسلمين، حيث قاومت غزوة زيد بن حارثة الذي لم يتمكن من أسرها وابنتها سلمى المعروفة بأم زُمَّال إلا في غزوة ثانية.

إثر ذلك، قُتلت أم قرفة شر قتلة حسب البخاري. أما ابنتها، فاشتغلت أمةً لدى عائشة، فلما توفي الرسول، طلبت من عائشة الإذن لها بالذهاب إلى قومها لحثهم على اعتناق الإسلام، وهناك جندت جيشا ضد الخليفة أبي بكر، فلم يهزمها خالد بن الوليد، في معركة “زافار” سنة 632، إلا بعد معركة ضارية.

أما الحكيمات والكاهنات فإن عددهن كان كبيرا، وكن يملكن ثقافة كبيرة وشخصية مؤثرة في العوام وكن يجمعن بين وظيفة العراف وحلال المشاكل، وتفاوت فعلهن ما بين الإصلاح والتخريب تبعا للخصال الشخصية للكاهنة، وقد خصصنا في مرايانا ملفا عن بعضهن، تجدون رابطه في نهاية هذا المقال.

من أبرز هؤلاء الكاهنات، الكاهنة طريفة في اليمن التي تنبأت بانهيار سد مأرب، ونصحت القبائل بمغادرة اليمن. هكذا، أسس بعضهم مملكة الغساسنة، وبعضهم الآخر مملكة المناذرة، بينما ذهب رجلان منهم هما أوس وخزرج صحبة أبنائهما إلى يثرب، فترتب عنهما فرعا الأوس والخزرج، اللذان سيخلدهما التاريخ نتيجة احتضانهما للرسول ومن تبعه من المهاجرين.

في هذا الإطار، يمكن أن نذكر أيضا سجاح بنت الحارث في اليمن؛ نبية بني تميم. وتميم – حسب هادي العلوي- قبيلة كبرى توضع في عداد الشعب لا القبيلة، ولها فروع تأثرت بالديانتين الزرادشتية والمزدكية، ومن تميم خرج شعراء متميزون مثل الفرزدق. ولقد أعلنت ساجاه نبوتها بعد وفاة الرسول، وحاربت مسيلمة، نبي بني حنيفة، قبل أن تتحالف معه ضد المسلمين الذين جندت لمحاربتهم ثلاثين ألف رجل، حسب ابن إسحاق. لكن مشروعها لم يصمد، يقول هادي العلوي، أمام المشروع المتكامل الذي تركه الرسول. هكذا، انتهت ساجاه بالتصالح مع عدُويْها: فتزوجت مسيلمة، واعتنقت الإسلام.

أما في ما يتعلق بالحياة الثقافية، فقد برزت في “الجاهلية” شواعر كبيرات مثل جليلة، وحرنق، وكبشة وهي أخت عمرو بن معد يكرب، وقد كانت ناقدة يحضر الشعراء إليها فيُلقون أمامها قصائدهم لتقييمها. ولا تخفى على كثيرين مكانة الخنساء خاتمة الشواعر “الجاهليات” التي قال فيها بشار بن برد: “تلك كانت لها أربع خصي”، اعترافا منه بقوة شاعريتها.

أما في ميدان التجارة، فلن نجد أفضل مثال من خديجة بنت خويلد، سيدة نسوان قريش، بل سيدة قريش التي حققت واحدة من أكبر الثروات بمكة، حيث جمعت، بتعبير خليل عبد الكريم، بين النقد والعروض والعبدان والإماء والعقارات، ونجحت في التجارة نجاحا لم يحققه كثير من الرجال، وتملكت على الدوام نصف القافلة المسافرة إلى الشام أو اليمن، وباقي بطون وأفخاذ قريش الظواهر والبطاح كلها لها النصف الآخر. وهي التي شغَّلت محمدا بن عبد الله أجيرا لمرافقة قوافل تجارتها، قبل أن تخطبه وتتزوجه، على الرغم من فقره وغناها، وعلى الرغم من فارق السن الكبير بينهما. وهي أخيرا التي آمنت برسالة محمد وظلت له سندا إلى حين وفاتها سنة 619م.

ومن بين النساء المكيات اللواتي خلدهن التاريخ، هند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان ـ وأم معاوية مؤسس الدولة الأمويةـ، التي اشتهرت بأنفتها ورجاحة عقلها. شاركت في معركة أحد، ومثلت بحمزة بن عبد المطلب عم الرسول. وعندما أمر أبو سفيان قومه بتحية الرسول بعد فتح مكة، شدته من لحيته وركلته على صدره وهي تقول: “اقتلوا العجوز، فقدْ فقَد عقله”.

وقد كان العرب يصطحبون النساء في معاركهم لأن وجود النساء إلى جانبهم كان يرفع من معنويات المقاتلين، ويمنعهم من الفرار من المعركة الذي كان يشكل عارا مزدوجا: الهزيمة في الحرب وترك المرأة للعدو؛ وليس في ذلك، حسب هادي العلوي، غيرة على المرأة، وإنما هو غيرة على الرجولة، لأن المساس بالمرأة يعني تحديا لرجولة الرجل، وهو ما لخصته زوجة عتبة بن غزوان بالقول: “إن يغلبوكم يولجوا فينا الغلف”. وفي هذا ما يبرر كراهية الأنثى التي كانت سائدة في العصر المسمى جاهليا، حيث كانت بعض القبائل تئد بناتها خوفا من عار السبي، إذ كان من المعتاد أن تؤسر المرأة صغيرة أم كبيرة وتصبح في حكم الجارية لمن أسرها.

وعلى العموم، فإن المرأة كانت تتمتع بالحرية التي كان يتمتع بها الرجل في مجتمع بلا دولة ولا شريعة؛ فلقد كانت سافرة ما عدا غطاء الشعر التقليدي الذي كان يستعمله الرجال أيضا، ولكنها كانت محتشمة على غرار ما كان سائدا في الحضارات الشرقية، وكانت تختلط بالرجال وتسافر وحدها، ولا يمنعها من ذلك إلا شرط الأمان في الطريق. وأكثر من ذلك، كان لها الحق في إقامة علاقة حب مع رجل تختاره وتخلو به للحديث والغزل وفي أقصى الحدود التقبيل، حيث كان “الجاهليون” يقولون: للصديق ما فوق السرة وللزوج ما تحتها. وقد كان من المعتاد أن تكون الخطيبة معروفة لخاطبها، وأن يكون قد رآها وحادثها لأنها غير محجوبة ولا محجبة.

أما الزواج “الجاهلي”، فكان مرتبا حيث كان أمر البنت بيد والدها، فإن مات، فبيد إخوانها أو أعمامها، ومنهم كان الخاطب يخطبها. وقد كان من حق المرأة أن تشترط شروطها عند عقد قرانها، وكانت منهن من تشترط أن تبقى العصمة في يدها حتى تطلق نفسها متى شاءت، وهو حال سلمى الخزرجية التي تزوجها هاشم، سلف الرسول، بيثرب. كما كانت النساء يستفدن من مهر، غالبا ما كانت الأسر الفقيرة تحتفظ به لنفسها، أما الأسر الغنية فتتركه لابنتها، وتزودها بما تحتاج إليه لتجهيز بيتها.

وإذا كان تعدد الزوجات معروفا في “الجاهلية”، وغير خاضع لحد أعلى في عدد الزوجات، فإن بعض النساء من قبائل معينة كن يتزوجن أكثر من رجل وهو ما كان يسميه الجاهليون “نكاح الرهط”؛ حيث يجتمع الرهط، ما بين الثلاثة والعشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يجامعونها عن رضى منها وبتواطؤ بينهم وبينها، فإذا حملت ووضعت أرسلت إليهم، فيجتمعون لديها، ولا يستطيع أحدهم أن يمتنع عن الحضور، فتعين أحدهم وتنسب الوليد (ة) إليه، ولا يستطيع رفض ذلك.

أما سفاح القربى، فيؤكد هادي العلوي على أن “الجاهليين” لم يعرفوه، فلقد كان الزواج عندهم محرما بالقطع من الأخت والأم والبنت، بينما كان سفاح القربى مسموحا به لدى جيرانهم الفرس. وأقصى ما مارسه “الجاهليون” نكاح المقت، وهو استيلاء الابن على زوجة أبيه بعد موت الأب، حيث يأخذها تحت وصايته، يتزوجها إن شاء، أو يزوجها لآخر ويستولي على مهرها. أما تزويج الأطفال مباشرة بعد سن البلوغ، فكان شائعا ومثله أيضا تزويج الصغيرات من رجال مسنين. لكن السائد في الزيجات كان تقارب السن.

وتورد سلوى بالحاج صالح- العايب عن ابن حبيب أن نكاح النساء في “الجاهلية” كان على أربع: امرأة تخطب فتزوّج؛ وامرأة يكون لها خليل يختلف إليها، فإن ولدت قالت: “هو لفلان” فيتزوجها بعد هذا؛ وامرأة ذات راية يُختلف إليها، فإن جاءها اثنان فوافياها في طُهر واحد ألزمت الولد واحدا منهما، فهذه تدعى المُقسّمة؛ وأَمَة قوم يقع عليها رجل، فيبتاع ولدها فيدعيه ويشتريها فيتخذها امرأة. وتنبه الكاتبة إلى أن ممارسة ذوات الرايات [الحمر] قبل الإسلام تعتبر نكاحا مشروعا أو شرعيا ونمطا من أنماط الزواج القديمة عند العرب قبل الإسلام.

وإذا كانت بعض النساء في بعض الأوساط في “الجاهلية” يرثن آباءهن وأزواجهن، فإن المرأة “الجاهلية” كانت عموما محرومة من نصيبها من الإرث. فلقد كان الأب يوزع ممتلكاته على أبنائه الذكور حسب مشيئته ومن غير حصص محددة. أما إن مات الأب عن بنات ولم يكن له وريث من الذكور، فإن ميراثه يذهب إلى من يبادر بالاستيلاء عليه من الإخوة والأعمام وأبناء العم.

هذه بشكل عام نظرة بانورامية مركزة عن أوضاع المرأة في مرحلة ما قبل الإسلام، ويستفاد منها أن المرأة على الرغم من أَبوية المجتمع، كانت لها شخصية ومكانة عموما، بل إن مكانتها كانت وازنة ومؤثرة في الأوساط الميسورة. أما في الأوساط الأقل شأنا، فقد كانت المرأة، على الرغم من حرمانها في الكثير من القبائل من الإرث، تتمتع بمستوى كبير من الحرية والحضور الاجتماعي. فما الذي حافظ عليه الإسلام من هذا الوضع وما الذي غيره؟  ذاك ما سنتطرق إليه في مقال لاحق.

 

من بين المراجع المعتمدة

·       برهان الدين دلّو، جزيرة العرب قبل الإسلام، دار الفارابي، الطبعة الثانية 2007.

·       خليل عبد الكريم، فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، دار المحروسة، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2009.

·       سلوى بلحاج صالح-العايب، قريش، وقائع وأحداث قبل الإسلام، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 2016.

·       هادي العلوي، فصول عن المرأة، دار الكنوز الأدبية، الطبعة الأولى، 1996.

 

مواضيع قد تهمك:

يمكنكم الآن تحميل العدد الأول من منشورات مرايانا، مجانا، على هذا الرابط: منشورات مرايانا: نساء في حكاية مملكة

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *