محمد عبد الوهاب رفيقي يكتب: هل الإسلام حقا دين التنوع؟ - Marayana - مرايانا
×
×

محمد عبد الوهاب رفيقي يكتب: هل الإسلام حقا دين التنوع؟

هل يقبل الإسلام التنوع الفكري؟ هل يقدر الإسلام على الاستمرار في مجتمع الاختلاف المعاصر؟ كيف نفهم قوانين الردة والتكفير إذن؟ كيف نأول مفاهيم التبديع والتضليل والتفسيق؟ كيف نعالج نصوص قتال الآخر ومحاربته واستئصاله؟
هذه الأسئلة الحارقة مسؤولة بشكل أو بآخر عن صناعة الواقع اليوم كما صنعته بالأمس. رغم كل ما قيل فيها، فلا زالت تعاني اضطرابا شديدا ناتج عن الاضطراب الأساسي في فهم الفقيه والفاعل الديني لواقع اليوم، وطريقة استيعابه لتراث الأمس أيضا، والضحية هي هذه المجتمعات التي لم يحن لها بعد أن تغادر مقعد التخلف نحو أقسام المتفوقين.

هل الإسلام دين التنوع؟ هل يحترم الإسلام حق الاختلاف؟

يقع المراجع لتاريخ الإسلام والمسلمين في حيرة لمعرفة الجواب عن هذه الأسئلة، بين نصوص ناطقة بضرورة احترام هذا الحق ورعايته، وتاريخ لا تخلو صفحاته من قمع المخالف ومحاربته ومحاولات استئصاله، فأيها يمثل الإسلام؟

لقد مر الإسلام بمرحلتين: مرحلة العقيدة قبل الإيديولوجيا، لم يكن المسلمون فيها يتحرجون من إبداء آرائهم واجتهاداتهم بمطلق الحرية الممكنة، دون تدخل سافر من السلطة؛ لتأتي بعدها مرحلة العقيدة-الأيديولوجيا، حيث ظهرت معالم الفرق، وبدأت تحد حدودا صارمة للحقيقة الدينية مفصلة وفق آراء منتجي هذه الأفكار، مع استحداث أحكام قاسية للحد من قدرات المذاهب الأخرى في التأثير على الناس، لتظهر أحكام التبديع والتفسيق، ويسوء الوضع الفكري ببطء شديد كلما ازداد تغول المدارس والفرق الكلامية والفقهية.

المسلمون اليوم يستلهمون النموذج من مرحلة “العقيدة-الأيديولوجيا”، يعتقدون أن الحقيقة الصالحة لعالمنا اليوم تكمن في النموذج التاريخي المثقل بإكراهاته السياسية في المقام الأول.

ظهر الخوارج في وقت مبكر جدا، اعتبرهم علي بن أبي طالب إخوانا له (إخوان لنا بغوا علينا)، ومنع الاعتداء عليهم ما كفوا أذاهم عن الأغلبية، ولم يسع لإبادتهم والتحجير عليهم رغم أنه كان معتقدا لضلالهم الفكري، بل وأرسل ابن عباس لمحاورتهم قبل أي أعمال عسكرية مسلحة، في دلالة خاصة متعلقة بتقديم السلم والحوار على القتال.

كما شكل تلاميذ الصحابة وكبار التابعين مذاهب وتيارات فكرية كثيرة، تخالف في جملة منها أفكار أساتذتهم: تلاميذ عبد الله بن مسعود أسسوا بالعراق مدرسة الرأي، وتلاميذ ابن عمر بالمدينة أسسوا لمدرسة النقل والأثر، وتلاميذ ابن عباس نشروا مذهبه وفتاواه المخالفة للجمهور بمكة.

لم يكن انقسام ذلك الجيل فقهيا فقط، بل تفرقوا في العقائد أيضا. عكرمة مولى ابن عباس كان خارجيا، وقتادة بن دعامة السدوسي كان قدريا، وواصل بن عطاء كان معتزليا، وغيرهم كثير ممن اختلفت مذاهبهم وتصوراتهم.

لم يكن صدر المسلمين ضيقا لهذا الحد بتلك الاختلافات الفكرية العميقة التي بدأت تظهر بفعل ظهور قضايا فكرية مستجدة، شأن حضارة الإسلام في ذلك كأي حضارة ناشئة تظهر فيها أسئلة فكرية كبيرة مرتبطة بسياق التطور الحضاري والفكري. الحضارة التي تصنع الأسئلة هي الحضارة الغالبة في أغلب الأحوال.

في مرحلة لاحقة من تاريخ الإسلام، بعد ظهور العقائد كإطار سياسي وأدوات منتجة للسلطة الرمزية، أصبح من مقتضيات الحفاظ على الدين التضييق على الخوارج – وسائر الفرق الأخرى- ومنعهم، وسجنهم إذا أمكن، كما تدل على ذلك نصوص فقهاء أهل السنة من الحنابلة والأشاعرة معا بخصوص المخالفين، للأسف، فحتى المعتزلة رواد مدرسة العقل والحرية لم يسلموا من ذلك أيضا.

لقد كان للأحداث السياسية دخل كبير في هذا التغير، فمع توالي الحروب الشرسة بين الخوارج والدولة الأموية ثم العباسية، ومع تورط المعتزلة في فتنة خلق القرآن وتعذيب أهل الحديث، ثم تورط الحنابلة في قمع المعتزلة والأشاعرة لاحقا مع الخليفة القادر ومن جاء بعده، وكذلك مع ظهور الحركات الشيعية المغالية واعتداءاتها المسلحة على مناطق أهل السنة، أصبح الفكر الديني يميل شيئا فشيئا نحو التضييق الفكري وخنق أفكار الآخرين والممارسات العدائية.

يتحدث ابن تيمية بإعجاب كبير عن خالد القسري والي بني أمية الذي ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى بحجة أنه لم يكن على مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات. هل كانت هذه المأساة انتصارا للحق والدين كما يدعي المروجون لذلك؟ لقد كان خالد القسري ناصبيا يعادي أهل البيت كالكثير من الولاة الأمويين. لم يكن في عملية الذبح سوى استغلال سياسي للدين لكسب تأييد الأغلبية السنية في المواجهات العسكرية مع المعارضين السياسيين التي كانت مشتعلة بقوة آنذاك، وتحت غطاء ديني بارز جدا.

سيبدو الأمر أكثر وضوحا في كتاب غياث الأمم للجويني، الذي كان شديد الحدة والعدائية تجاه الفرق المخالفة، الشيعية منها على الخصوص، بسبب الواقع السياسي المضطرب، وكثرة الاعتداءات المسلحة بين فرق الشيعة والسنة.

لقد قام نظام الملك بالتصدي لمهمة قتال طوائف القرامطة والإسماعيلية وغيرهم من الفرق الباطنية التي كانت تنشط عسكريا وسياسيا على أطراف خراسان، ووجد في الجويني ثم تلميذه الغزالي سندا فكريا قويا يرافق حملته السياسية. حينها فقط، بدأ الفقهاء الشافعية –تبعا لاجتهاد الجويني- يجيزون تعدد الحكام بعد قرون طويلة من تحريم اجتماع إمامين في وقت واحد. لا تخفى علاقة هذا الاجتهاد بضغط الواقع وشكل الحكم الذي كان يؤسسه نظام الملك وعلاقته بالسلطة المركزية العباسية.

في مقابل ذلك، كان الماوردي أكثر هدوءا وتسامحا مع المخالفين الفكريين والسياسيين في كتابه المعروف (نصيحة الملوك). نجد الجواب واضحا حين نعلم أن الماوردي كان رجل دولة في الامبراطورية العباسية، وسفيرا للخليفة العباسي عند الدولة البويهية الشيعية التي كانت تربطها علاقات جيدة إجمالا مع العباسيين، مع توازن نسبي في التعاطي مع الملف الطائفي.

كان الأشاعرة في أول الأمر يتخفون تحت عباءة الحنابلة لما كان مذهبهم في طور التشكل، فلما قوي مذهبهم أظهروا عداوتهم للمنهج الحنبلي في التعاطي مع قضايا الاعتقاد.

ليس من الجيد إذن تسويق هذه الانتاجات التراثية على أنها تحمل التصور الإسلامي النهائي. هي لا تحمل إلا تصوراتها لواقعها المحدود في الزمان والمكان، وهذا هو عين ما قامت به حركات الإسلام السياسي بالضبط في فترة السبعينات وما بعدها، الأمر الذي أدى إلى تصور مغلوط عن الإسلام، وتسويق إسلام غير متصالح مع بيئته، متخاصم مع البنيات الفكرية الأخرى اعتمادا على استدعاء تراثي لا يمثل إلا نفسه وسياقه.

نتساءل الآن جميعا: هل يقبل الإسلام التنوع الفكري؟ هل يقدر الإسلام على الاستمرار في مجتمع الاختلاف المعاصر؟ كيف نفهم قوانين الردة والتكفير إذن؟ كيف نأول مفاهيم التبديع والتضليل والتفسيق؟ كيف نعالج نصوص قتال الآخر ومحاربته واستئصاله؟

أعتقد أن هذه الأسئلة الحارقة مسؤولة بشكل أو بآخر عن صناعة الواقع اليوم كما صنعته بالأمس. رغم كل ما قيل فيها، فلا زالت تعاني اضطرابا شديدا ناتج عن الاضطراب الأساسي في فهم الفقيه والفاعل الديني لواقع اليوم، وطريقة استيعابه لتراث الأمس أيضا، والضحية هي هذه المجتمعات التي لم يحن لها بعد أن تغادر مقعد التخلف نحو أقسام المتفوقين.

 

مواضيع قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *