علي اليوسفي العلوي: الملابسات السياسية لهجرة الرسول - Marayana - مرايانا
×
×

علي اليوسفي العلوي: الملابسات السياسية لهجرة الرسول

مباشرة بعد عقد التحالف مع أهل يثرب، أخذ مسلمو مكة يهاجرون في مجموعات صغيرة؛ ويبدو أن المكيين لم يعترضوا على ذلك. وقد امتد النزوح على حوالي ثلاثة أشهر ما بين شهر يوليوز وشهر شتنبر ليشمل حوالي سبعين مهاجرا، ويبدو أن بعض مسلمي قريش لم يستجيبوا لأمر الهجرة فانسحبوا من المجموعة (ارتدوا). أما محمد، فقد بقي في مكة حتى يحفز أتباعه على الهجرة، وقد كان آخر من هاجر صحبة أبي بكر، ليعيش الإسلام في مكة ولادة جديدة ستحدد مسار الدين والسياسة.
فبماذا يمكن تفسير هذه القفزة النوعية في تلقي الرسالة وحاملها، من إعراض القرشيين التام طوال عشر سنين إلى ترحاب أهل يثرب بهذه السرعة الفائقة؟

لا يختلف اثنان على أن هجرة الرسول من مكة إلى يثرب شكلت لحظة فارقة في تاريخ الإسلام. لذلك، يعتبر فهم ملابسات هذه الهجرة مفتاحا لتبين ما سيترتب عنها من أحداث سياسية لا تزال عواقبها قائمة إلى اليوم.

فما الذي دفع الرسول حقا إلى هذه الهجرة؟ وما هو نصيب التدبير الشخصي للرسول لهذا الحدث؟

من يطلع على كتب التراث، يثيره هول أنواع الإيذاء الذي تعرض له الرسول وأتباعه، والخطر الذي كان محدقا بحياته. إلا أن الكثير من الدراسات الرصينة، ومن بينها مونتغمري وات وجوسلين الشابي، تستبعد أن تكون حياة الرسول قد عرضت للخطر؛ بدليل أن القرآن لم يشر إلى تدبير القرشيين مؤامرات لاغتياله.

الواقع التاريخي يؤكد هذا الطرح، لأن الرسول كان من أسرة شريفة ذات صيت وتربطها تحالفات مع مكونات الأرستقراطية المكية. كما أن دعوته لم تنتشر على نطاق واسع، خلال العشر سنوات التي قضاها بمكة، بالشكل الذي يمكن أن يهدد التوازنات ومصالح النخبة الثرية. ومادام محمد لا يشكل خطرا عليها، فلماذا المغامرة بقتله وإدخال مكة في حرب داخلية/أهلية وهي التي تعلمت منذ قصي كيف تضع مصالحها “الإستراتيجية” فوق كل اعتبار؟

في نهاية شهر يونيو من سنة 622 التقى الرسول، في ما يُعرف بالعقبة الثانية، 75 يثربيا من بينهم امرأتان. وإذا كانت البيعة الأولى بسيطة لا تتجاوز طلب الحماية ومراعاة بعض الأخلاق بمسحة دينية، فإن البيعة الثانية اتخذت شكل تحالف عسكري. لذلك، سميت بيعة الحرب. فلقد تجاوز النقاش هذه المرة المسائل الدينية واستجارة الرسول بأهل يثرب، ليأخذ بعين الاعتبار ما سيترتب عن هذا التحالف الجديد من فك لروابط سابقة، ومن عداوات…

فما هي الأسباب الموضوعية التي قادت محمدا إلى البحث عن إمكانيات أخرى لنشر دعوته؟          إذا علمنا أن رسالة محمد ظلت تراوح مكانها على امتداد عقد كامل، بحيث لم تستقطب خلال هذه المدة غير بضع عشرات من الأتباع، سنفهم لماذا بدأ الرسول في التفكير مبكرا في إيجاد وجهة أخرى له ولرسالته خارج مكة.

يرجع السبب الموضوعي في ذلك إلى أن الأرستقراطية القرشية قد رسخت مكانتها، بفعل نجاحاتها التجارية وإيلافاتها وأحلافها وما يُدرُّه عليها الحج الوثني والأسواق التي توازيه من جاه وأرباح. لم يكن، إذن، من مصلحتها بالمرة الاستجابة لدعوة توحيدية قد تهد الأساس المادي والقيمي الذي تأسست عليه. لذلك، اكتفت بإرعاب أو إيذاء من تجرأ على اتِّباع محمد من البسطاء؛ مما أجبره، بعد خمس سنوات من الترقب، على دعوة الستة عشرة ممن آمنوا به إلى الهجرة إلى الحبشة لتأمين حياتهم. فلماذا الحبشة؟

يكمن الجواب الموضوعي في الإيلاف الذي كان هاشم  ثم إخوانه قد عقدوه مع الجهات التجارية الأربعة: الروم والحبشة واليمن والعراق وفارس. لذلك، فإن سمعة بني هاشم كانت راسخة عند ملوك الحبشة، مما يضمن حسن استقبال المجموعة المهاجرة، خصوصا وأن محمدا بعث على رأسها ابن عمه جعفر بن أبي طالب.

يكمن السبب الثاني في أن الحبشة كانت على دين المسيحية، مما يعني أنه، على الرغم من احتمال توجسها من دين توحيدي جديد قد ينافسها، فهي تتوفر على أرضية للتلقي: أي الإيمان بوجود الله، وإمكانية بعث رسل؛ عكس وثنيي قريش المعترضين عن أية فكرة تمس بآلهتهم.

وقد تبين أن الرسول أحسن التقدير، إذ إن النجاشي أحسن استقبال المهاجرين الذين منهم من ظل بالحبشة حتى التحق بالرسول بيثرب، ومنهم من لم يلتحق بيثرب إلا في حدود السنة السابعة للهجرة.

بعد ذلك بقليل، اغتنم الرسول فرصة مجيء بعض الأوسيين من يثرب إلى مكة لطلب مساعدة قريش لهم في حرب “بُعاث” التي كانوا يواجهون فيها الخزرج، فعرض عليهم دينه وطلب حمايتهم. لكن الجواب كان حتما بالرفض، لسببين:

–        الأول: أن الأوس جاؤوا يلتمسون نُصرة قريش، فكيف يتحالفون مع من كانت تعتبره عدوا يهدد وحدتها ومصالحها؟

–        الثاني: أنهم كانوا مرتبطين بتحالفات قديمة مع يهود بني النضير وبني قريظة، فكيف يتحالفون مع من يبشر بديانة توحيدية قد تزاحم أو تهدد الديانة اليهودية؟

ظل محمد يخرج في مواسم الحج إلى أسواق مكة يعرض دينه على قبائل العرب، ويلتمس تحالفها. لكن القبائل كانت تصده لأنها، من جهة، متمسكة بوثنيتها، ومن جهة أخرى حتى لاتؤلب عليها قريشا، خاصة وأن معظمها كانت ترتبط بها إما من خلال ما سنه هاشم من إيلاف، أو من خلال الأحلاف.

عندما توفي أبو طالب سنة 619، عوضه أبو لهب على رأس بني هاشم، فوعد محمدا بحمايته التزاما بالأعراف القبلية. لكن إصرار محمد على أن عمه أبا طالب وجده عبد المطلب سيذهبان إلى جهنم، دفع أبا لهب إلى إسقاط الحماية عنه. هنا، أخذ المكيون يسخرون منه، كما ظهرت بعض الردات في صفوف القلة التي آمنت به.

أدرك محمد أنه لم يعد له مكان بين المكيين، وأن عليه أن يهاجر برسالته وأهله إلى وجهة أخرى. هكذا، قصد الطائف جنوبا، وظل بها عشرة أيام يحاول إيجاد قبيلة تِأويه ورسالته. لكنه لم يجد منهم إلا السخرية والإيذاء. ما من غرابة في ذلك، فالطائف إضافة إلى وثنيتها مرتبطة بحلف مع قريش ولهما مصالح مشتركة.

اغتنم محمد فرصة الحج ليجرب حظه مرة أخرى مع نفر من الخزرج هذه المرة، وقد كانوا ستة، من بينهم رجلان من بني النجار؛ فعرض عليهم دينه، وطلب منهم الحماية؛ وهو الطلب الذي حمله هؤلاء معهم إلى قومهم بيثرب. في العام الموالي (621)، التقاهم محمد من جديد وكانوا هذه المرة اثني عشر رجلا، أوسيان وعشرة من الخزرج؛ من بينهم ثلاثة من بني النجار، وهو ما سهل القبول بعرضه.

عُرف هذا اللقاء بالعقبة الأولى، ولم يطلب فيه الرسول من مبايعيه غير الامتناع عن الشرك بالله، وعن السرقة والزنا وقتل الأبناء، وعدم الإتيان ببهتان يفترونه بأيديهم وأرجلهم وطاعة الرسول في المعروف، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأولادهم؛ ووعدهم مقابل ذلك بالجنة تاركا أمر من لم يف بوعده إلى الله إن شاء غفر وإن شاء عذب. الملاحظ أنه، ما عدا الإيمان بالله وطاعة رسوله في المعروف مقابل الوعد بالجنة، فإن باقي النقط التي طلبها تدخل في سياق أخلاق النبل والشهامة والمروءة التي كان يتمسك بها أشراف الجاهليين.

ظل محمد يخرج في مواسم الحج إلى أسواق مكة يعرض دينه على قبائل العرب، ويلتمس تحالفها. لكن القبائل كانت تصده لأنها، من جهة، متمسكة بوثنيتها، ومن جهة أخرى حتى لاتؤلب عليها قريشا، خاصة وأن معظمها كانت ترتبط بها إما من خلال ما سنه هاشم من إيلاف، أو من خلال الأحلاف.

حتى لا يترك الرسول الفرصة تضيع، فيتراخى من تحالف معهم، أو يرتدوا عن وعدهم، من جهة؛ وحتى يهيئ الظروف الملائمة لاستقباله بيثرب، بعث مع الرجال المبايعين مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأمره أن يقرأهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين.

في نهاية شهر يونيو من سنة 622 التقى الرسول، في ما يُعرف بالعقبة الثانية، 75 يثربيا من بينهم امرأتان. وإذا كانت البيعة الأولى بسيطة لا تتجاوز طلب الحماية ومراعاة بعض الأخلاق بمسحة دينية، فإن البيعة الثانية اتخذت شكل تحالف عسكري. لذلك، سميت بيعة الحرب. فلقد تجاوز النقاش هذه المرة المسائل الدينية واستجارة الرسول بأهل يثرب، ليأخذ بعين الاعتبار ما سيترتب عن هذا التحالف الجديد من فك لروابط سابقة، ومن عداوات، إن بين الأنصار واليهود أو بينهم وبين قريش، ونزاعات يمكن أن تنشب داخل يثرب نفسها بين الخزرج وبعض الأوس الذين عقدوا الحلف مع الرسول واستقدموه من جهة، وكثير من الأوس الذين لم يبدوا حماسا لهذه الصفقة لأنها ستفقدهم تحالف اليهود الذي مكنهم من كسب حرب “بُعاث”، ثم المخاطر المحتملة إن غادر الرسول يثرب بعد أن يحقق أغراضه.

حتى يسهل التنسيق بين الرسول ومبايعيه، فقد توجت البيعة بتعيين اثني عشر نقيبا من وجهاء الأوس والخزرج.

مباشرة بعد عقد التحالف، أخذ مسلمو مكة يهاجرون في مجموعات صغيرة؛ ويبدو أن المكيين لم يعترضوا على ذلك. وقد امتد النزوح على حوالي ثلاثة أشهر ما بين شهر يوليوز وشهر شتنبر ليشمل حوالي سبعين مهاجرا، ويبدو أن بعض مسلمي قريش لم يستجيبوا لأمر الهجرة فانسحبوا من المجموعة (ارتدوا). أما محمد، فقد بقي في مكة حتى يحفز أتباعه على الهجرة، وقد كان آخر من هاجر صحبة أبي بكر، ليعيش الإسلام في المدينة ولادة جديدة ستحدد مسار الدين والسياسة.

فبماذا يمكن تفسير هذه القفزة النوعية في تلقي الرسالة وحاملها، من إعراض القرشيين التام طوال عشر سنين إلى ترحاب أهل يثرب بهذه السرعة الفائقة؟

أولا: العلاقة الدموية بين محمد وبني عبد النجار، إذ لا ننسى أن أم عبد المطلب، جد محمد، كانت خزرجية من بني النجار، وأنها أنجبت ابنها بين أهلها بيثرب بعدما توفي زوجها هاشم بغزة. كما أن عبد المطلب نشأ بين أخواله بيثرب، ولم يصطحبه عمه إلى مكة إلا عندما بلغ السابعة من عمره. وضافة إلى ذلك، فإن عبد الله والد محمد نفسه، قد دفن لدى أخواله من بني النجار بيثرب حيث توفي وهو عائد من تجارته، ثم إن أم محمد قد اصطحبت طفلها إلى المدينة لزيارة عائلته/ها، فتوفيت في طريق العودة.

ثانيا: القبيلتان اليثربيتان الرئيستان، الأوس والخزرج، كانت قد أنهكتما الحروب الطاحنة فيما بينهما، والتي دامت لمدة 140 سنة، وكانتا قد خرجتا للتو من حرب بُعاث (617)، التي انتصر فيها الأوس بدعم من اليهود، وفي ذلك ما يفسر جزئيا تلقف الستة الأوائل، لعرض محمد دينه ووساطته، عساه يحد من تطاحن القبيلتين.

ثالثا: يثرب معقل لليهودية، إذ بدأ نزوح اليهود إليها منذ القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، وهو ما يعني أن الديانة التوحيدية لم تكن تشكل نشازا بالنسبة لليثربيين سواء اعتنقوها أم لا، وإن كانت تشكل حتما منافسا مزعجا لليهود.

 

—————-

 

بعض من المراجـــع المعتمدة:

1-      محمد بن عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، دار الحديث، القاهرة،1995.

2-      د. علي جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الرابع، دار العلم للملايين – مكتبة النهضة بغداد، 1970.

3-      MAXIME RODINSON, Mahomet, Editions du Seuil, (1968), mai 1994

4-      ALFRED-LOUIS DE PREMARE, LES FONDATIONS DE L’ISLAM, entre écriture et histoire, Editions du Seuil, mars 2002

 

مواضيع قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *