علي اليوسفي: كيف نشأ وتطور مفهوم اللائكية 2- الأسس الفلسفية للائكية
السلطة العمومية لا يمكنها أن تعامل المؤمنين معاملة أفضل من معاملتها للملحدين، أو العكس.
هذه المساواة تفترض أن المال العام لا يمكن أن يخصص أو ينفق في نشر ديانة معينة، كما لا يمكن أن يوظف في نشر الإلحاد. يجب أن يخصص لما هو مشترك بين الجميع. بذلك، تصبح الدولة خارج الانتماءات العقدية.
يغامر البعض بنعت من يخوضون في موضوع اللائكية بـ”دعاة العلمانية” أو”دعاة اللائكية”. وهذا ينم عن خلط خطير بين حقلين معرفين متميزين: حقل الإيمان وحقل المعرفة. ذلك أن كل الأمور التي تُعتقد دون أن تحتاج إلى برهان عقلي، تنتمي إلى الحقل الأول، وبالتالي يُدعى إليها؛ وقد كانت مهمة جميع الرسل الدعوة إلى الرسائل التي أُنيط بهم تبليغها، اعتمادا على مبدأي الترغيب (الجنة) والترهيب (جهنم). كما أن المساجد والكنائس والقساوسة والفقهاء لا يكفون عن دعوة الناس إلى ما يعتبره كل داعية الطريق المستقيم. وفي القرآن آيات كثيرة تؤكد هذا، نذكر منها الآيتين 41 و42 من سورة غافر “ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة، وتدعونني إلى النار، تدعونني لأكفر بالله واُشرك بما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار”.
أما الحقل الثاني، حقل المعرفة فيقوم على الفحص والتمحيص والبرهان العقلي، والقبول أو الرفض اعتمادا على مبررات عقلية. والفلسفة تنتمي إلى هذا الحقل الثاني، فهي فن اعتناء الإنسان بأفكاره، أي محاولة معرفة منبع الأفكار التي تسير العقل. والفلسفة ترفض الأفكار الجاهزة والأحكام المسبقة، لذلك، كانت إحدى مسلمات أرسطو: ” لا أعرف إلا أمرا واحدا هو أنني لا أعرف أيَّ شيء”.
لا يتعلق الأمر هنا إطلاقا بالمفاضلة بين الحقلين، وإنما فقط بالتمييز بين مسارين مختلفين، لكل منهما آلياته وأدواته. وما دامت فكرة اللائكية نتاجا لمسار تاريخي معقد من الصراع، وثمرة جهد فلسفي فكري صرف لإيجاد نقطة تعايش بين الأشخاص، فهي لا تنتمي بحال من الأحوال إلى حقل العقائد، ولا تعتمد آليات تبليغ العقائد. بالتالي، فإنه لا يكفي أن ينادي بها شخص أو مئات الأشخاص ليعتنقها البشر، وإنما يقتضي تبني اللائكية مجهودا فكريا وتحليليا وحسا نقديا دقيقا، ونأيا بالنفس عن المصالح الشخصية البحتة؛ وهذا مستوى لا تدركه الشعوب إلا في مستويات متقدمة من النضج الفكري والمعرفي ودرجات عليا من التجرد.
ما نريد التأكيد عليه هنا هو أن تحويل الأفكار إلى عقائد يقود لا محالة إلى التوقف عن التفكير، وبالتالي إلى الجمود الفكري والتحجر. أما اعتبار العقائد أفكارا وحقائق مطلقة، فإنما يقود إلى التطرف الذي يقود بدوره إلى قتل المختلف. وما الحروب الدينية والأحداث الإرهابية التي يزخر بها التاريخ إلا دليل على أفظع ما يمكن أن يلحق الإنسانية عندما تعتبر العقائد أفكارا ومعتقدات.
لمحاربة الوقوع في منزلق التطرف، كانت مسألة إكراه الوعي الإنساني من المسائل التي أُخضعَت للمساءلة مبكرا، حيث اعتبر مختلف الفلاسفة أن الوعي يجب أن يكون حرا، فدافعوا بذلك عن حرية المعتقد وناهضوا التطرف عبر العصور. وما دامت مسألة اللائكية، كما حددنا دلالتها في المقال السالف، متأتية من مسار تاريخي معقد، وساعية إلى إيجاد حل يسمح للجميع بالتعايش بغض النظر عن الاختلاف في اللون والعرق والجنس والمعتقد، فإنه ليس غريبا أن يكون الفلاسفة والكتاب هم من نظروا لها ودافعوا عنها في وجه مختلف المصالح السياسية والدينية مميزين باستمرار بين حقليْ الإيمان والمعرفة le croire et le savoir، دون أن يقصدوا بحال من الأحوال اقتلاع المعتقدات، وإنما كانوا يلحون على أننا “عندما نؤمن، نؤمن وعندما نفكر، نفكر”.
وإذا كانت حرية المعتقد تضرب بجذورها في الفكر اليوناني، فإن فلاسفة الأنوار في أوربا جعلوا منها أساس بناء المجتمعات الحديثة. ولعل من أوائل من عالجوا هذا الموضوع الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت (1596-1650) René Descartes الذي اعتبر في خطاب المنهج الشهير أن قاعدته الأولى هي: “عدم قبول أي شيء على أنه حقيقة دون أن أعرف بكل تأكيد أنه كذلك”، أي دون إخضاعه لاختبار العقل. ويكفي التذكير أن كلمة منهج متأتية من الأصل اليوناني متودوس Methodus التي تعني الطريق الذي يسلكه العقل عندما يفكر. وهذه القاعدة في المنهج هي التي ستحدد المسار الفلسفي لعصر الأنوار الذي سيعتبر العقل محورا ومنطلقا يواجه به الغُلاة والمتطرفين الدينيين.
أما الفيلسوف الإنجليزي جون لوك John Locke (1632-1704) الذي عايش مرحلة نهاية الحروب الدينية، وبدايات التوجه العقلاني في محاربة الاستبداد، فسينكب مباشرة على دراسة مفهوم الحكومة المدنية وسيشرح أن الدولة ليست لها حمولة روحية، وبالتالي فليس لها أن تُنتج معايير أو ضوابط في المجال الديني، وبشكل أعم في مجال القناعات الفلسفية -الشخصية للأفراد. وهكذا فإنه لا يمكن للدولة ادعاء القدرة على فرض أو تفضيل نوع من الصورة العقدية الروحية؛ أي أنها لا يمكن أن تفرض أو تفضل دينا على آخر.
وفي ما يتعلق بالفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا BARUCH Spinoza (1632-1677)، فقد جعل من حرية المعتقد وحرية التفكير، ورفْض اعتبار نص مقدس ضابطا مرجعيا مطلقا، جعل من كل ذلك محورا لفلسفته. لقد تحمل سبينوزا حتى النهاية مسألة بحثه عن الحرية؛ فلقد كان يهوديا، وبما هو كذلك، كان مشكوكا في نواياه من قبل البروتستانت والكاثوليك على السواء، والذين كانوا في ذاك الوقت يروجون موضوعة “الشعب الذي قتل الإله” والذين يمكن اعتبارهم مسؤولين إلى حد بعيد عن معاداة السامية في الغرب.
أما داخل المجتمع اليهودي في أمستردام، فقد كان سبينوزا مناصرا لحرية تامة للمعتقد، فقد كان يرفض مجموعة من المعتقدات اليهودية الصارمة، إلى حد أنه طُرد من أحضان هذا المجتمع اليهودي، ورُمي بأقذع النعوت. أكثر من ذلك، لقد ذهب حاخامات أمستردام إلى تنظيم مسيرة نحو المسؤولين البلديين لمطالبتهم بطرد سبينوزا من المدينة. ولعل في ذلك حرصا من المجتمع اليهودي على معاقبة سبينوزا جسديا وجغرافيا، وليس فقط نفسيا وفكريا. لقد نادى سبينوزا في صفحات مشرقة من بحثه اللاهوتي السياسي بالفصل بين السلطتين السياسية والدينية، حيث قال: “إنه لأمر سيء جدا في دولة أن يكون لوزراء العبادة أي حق كان في تقرير أمور مشتركة لكل أبناء المجتمع”. وفي هذا ما يعتبر استباقا لأطروحة الفصل بين الدولة والكنيسة. ومن ثمة، يعتبر كل من سبينوزا وديكارت ملهميْ فلسفة الأنوار بامتياز.
أما فولتير Voltaire (1694-1778)، فقد قاد معركته الشهيرة في رد الاعتبار لجون كالاس الذي ذهب ضحية للتطرف الديني حيث كتب واحدا من أروع نصوصه في السماح[1]. وهو لم يطالب في هذا النص بسماح مؤسسي (وهو الذي رأينا حدوده في مقالنا السابق: كيف نشأ وتطور مفهوم اللائكية ــ 1 دماء على جدران القصور والكنائس)، وإنما يطالب بسماح -أو هنا تسامح- ضمن المجتمع المدني، بحيث يمكن للفرد أن يكون مختلفا مع الغير، ولكنه لا يلجأ إلى العنف بسبب هذا الاختلاف.
إن التسامح بهذا المعنى لا يعني إجراءً سياسيا مؤسسيا، وإنما هو ميزة أخلاقية تسمح بالحوار بين أشخاص ذوي قناعات مختلفة. فأن تكون سمحا، معناه أن تتقبل موقف الآخر، وإن كان يثير حفيظتك، دون اللجوء إلى العنف. وللتذكير، فإن فولتير هو من قال بهذا الصدد: “لست متفقا مع ما تقوله، ولكنني سأقاتل حتى الموت من أجل أن تتمكن من التعبير عن موقفك”[2]. وهذه قمة السماح التي جعلت من هذا المبحث الذي كتبه فولتير آلة حرب ضد التطرف.
أما جون جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712-1778)، فقد كان واضحا في الفصل بين الخاص والعام، موضحا أن السلطة العمومية لا حق لها في التدخل في الفضاء الخاص، محددا الفضاء الخاص بالشكل الأكثر بساطة: إنه الفضاء الذي يمارس فيه الشخص أمورا لا تخص غيره. بالتالي، فإنه ليس من حق السلطة العمومية أن تضع ضوابط للفضاء الخاص. لا يمكنها أن تضع ضوابط إلا للفضاء العام. وهذه الأطروحة هي التي يفصلها ويدافع عنها جون جاك روسو في الفصل الرابع من الكتاب الثاني من العقد الاجتماعي، وهو الفصل المعنون بـ “حدود السلطة السيادية”.
لقد سار فلاسفة الأنوار إذن على درب العقلانية الكبرى لكل من ديكارت وسبينوزا، حيث كانوا يضعون الأسس النظرية والفكرية التي ستسمح للفلسفة بإعادة الأخذ بزمام أمور التاريخ، ومحاولة تصحيح انحرافاته. هذه الفلسفة هي بطبيعة الحال فلسفة القانون الطبيعي الذي يعود إلى العصور القديمة الرواقية[3]. باسم القانون الطبيعي الذي انتشر خلال القرن الثامن عشر، سنرى الفلاسفة يشرعون في وضع عدد من المبادئ التي سنجدها في إعلان حقوق الإنسان والمواطن ليوم 26 غشت 1789، والتي سنجدها أيضا في The berles of Wright anglosaxon.
ينبني مفهوم القانون الطبيعي أساسا على فكرة جوهرية مفادها أن الإنسان يتوفر على حقوق طبيعية، بمعنى أنه ما أن يولد حتى يكون موضوعا للحقوق، فهو حامل لحقوق. وقد كانت تلك الفكرة ثورية آنذاك باعتبار أن المجتمعات القديمة كانت تنتظم حول قانونين: قانون الكنيسة الذي لا يعترف للبشر بشكل عام بالشيء الكثير، لأن الإنسان أخطأ فلحقته لعنة الرب. من جهة أخرى، كان هنالك قانون تمييزي يعترف للنبلاء بخصائص لا يعترف بها للفلاحين. وهو قانون موضوع على المقاس لمجتمع يقسم الناس وفق علاقة التبعية. بمعنى أن فئة عريضة من المجتمع لم تكن توجد بنفسها ولنفسها، وإنما كانت توجد بغيرها ولغيرها. لذلك، تتمثل الثورة الكبرى للقانون الطبيعي في القول بأن الإنسان؛ كل إنسان، له حقوق بشكل طبيعي.
إنه اعتراف بأن طبيعة الإنسان، كيفما كان جنسه ولون بشرته، تخول له أن يُعترَف له بنفس الحقوق. بهذا الصدد، يصرح البند الأول من إعلان 26 غشت 1789 بالقول: “إن الناس يولدون أحرارا، ومتساوين في الحقوق، ويظلون كذلك”. بمعنى أن الحرية والمساواة ملازمان للإنسان. هنا، يبدو لنا كيف أن تعريف اللائكية يمكن أن ينبني على إعلان 26 غشت 1789. الناس يولدون أحرارا، والواقع أن شكلا أساسيا من الحرية يتمثل في حرية المعتقد، أي الحق في أن يكون للشخص دين، أو ألا يكون له، أو أن يكون ملحدا، أو لا أدريا، ولا يمكن أن يطارد أو يُضطهد شخص اليوم بسبب اختياره الروحي، علما أن الاختيار الروحي لا ينحصر فقط في الدين.
انطلاقا من هذه اللحظة، سيتعين إعادة صياغة القانون اعتمادا على القانون الطبيعي الذي سيحدد بشكل حاسم أن الناس أحرار في معتقدهم. لذلك، لا غرابة أن تشكل حرية المعتقد المبدأ الأول من مبادئ اللائكية، وهو مبدأ متحرر تماما من غموض السماح. ولهذا يعلن ميرابو Mirabeau [4] (1749- 1885): “لا أريد سماحا، لأن من يقول بالسماح يفترض سلطة تسمح. والسلطة التي تسمح اليوم يمكنها ألا تسمح غدا”.
أما المبدأ الثاني للائكية، فهو مبدأ المساواة، بمعنى أن السلطة العمومية لا يمكنها أن تعامل المؤمنين معاملة أفضل من معاملتها للملحدين، أو العكس. هذه المساواة تفترض أن المال العام لا يمكن أن يخصص أو ينفق في نشر ديانة معينة، كما لا يمكن أن يوظف في نشر الإلحاد. يجب أن يخصص لما هو مشترك بين الجميع. بذلك، تصبح الدولة خارج الانتماءات العقدية.
من بين المراجع المعتمدة
- Henri Pena-Ruiz, Qu’est-ce que la laïcité ? Gallimard, 2003.
- Jean-Jacques Rousseau, Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes, ED. Flammarion, 2008.
- Voltaire, Traité sur la tolérance, Ed. Vivre ensemble 2015.
هوامش
[1] Tolérance : التي تعني السماح، وليس التسامح كما تعودنا عليه في ترجمات تقريبية لا تراعي دلالة الأوزان في اللغة العربية، وقد بينا ذلك في المقال السابق.
[2] « Je ne suis pas d’accord avec ce que vous dites, mais je me battrai jusqu’à la mort pour que vous aillez le droit de le dire »
[3] Le Stoïcisme (الرواقية، مذهب فلسفي يقول بوحدة الوجود) : philo. Qui suit la doctrine de Zénon. La maxime stoïcienne : « supporte et abstiens-toi ».
[4] كاتب ودبلوماسي وصحافي ورجل سياسة فرنسي، أحد وجوه الثورة الفرنسية.
مقالات قد تهمك:
- سلسلة ــ عبد الله القصيمي: من السلفية إلى الشك 1/4
- سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. عبد الله القصيمي، السلفي المتعصب 2/4
- سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. ردة فعل التيارات الإسلامية من تحول عبد اللـه القصيمي 3/4
- سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. هكذا تكلم عبد الله القصيمي 4/4
- ما هي العلمانية؟ وكيف ظهرت في التاريخ؟ 1\3
- من اليمن، حسين الوادعي يكتب: من “صحيح الدين” إلى “صحيح الدنيا”… لحظة العلمانية العربية
- المجتمع بين المحافظة والحداثة: لماذا فشلت محاولات التنوير وصمدت الإيدلوجيا الدينية؟!