سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. ردة فعل التيارات الإسلامية من تحول عبد اللـه القصيمي 3/4 - Marayana - مرايانا
×
×

سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. ردة فعل التيارات الإسلامية من تحول عبد اللـه القصيمي 3/4

عبد الله القصيمي كان العالم الفهامة، والبحر العلاّمة، الذي لا يضاهيه إلا ابن تيمية في جزالة لفظه وقوة حجته، والأديب الألمعي صاحب الأسلوب الساحر الساخر، والعالم الذي أدى بدفاعه عن الإسلام مهر الجنان، ثم…
عندما أراد النظر المتحرر إلى دينه، ومراجعة عقيدته، أصبح العالم المنتكس والمنافق المرتكس، والخائن المأفون، والعميل الذي فضل الدنيا على الآخرة، وباع دينه بدنياه. عوض الاهتمام بمنهج الرجل الفكري وتمحصيه، والتدبر فيما دعاه للتخلي عن سلفيته، راحوا يلفقون ويكيلون له التهم جزافا.

حسن الحو
حسن الحو

حاولنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، تفكيك تيمة الشك في الثقافة الإسلامية، وكيف تم ربطها بالإيمان بالغيب كحل لكل الأسئلة التي يمكن أن تطرحها. وفي الحلقة الثانية، اقتفينا أثر عبد الله القصيمي في رحلته مع الشك، ووقفنا عند بداياته كسلفي متعصب، أفحم كبار مشايخ الأزهر، وكبار المفكرين. 

في هذه الحلقة الثالثة، نتابع أبرز ردود فعل التيارات الإسلامية بخصوص تحول القصيمي، وإعلان قطيعته مع ماضيه السلفي.

إن ردة الفعل العنيفة والتشنج المقيت اللذان عبر عنهما خصوم القصيمي، كعادتهم، في منابذة المختلف وإبداء الكراهية والعداء تُذَكِّرُ بقصة طريفة رواها البخاري في صحيحه عن إسلام اليهودي عبد الله بن سلام، عن أنس بن مالك أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء… فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه، قال أخبرني به جبريل آنفا، قال ابن سلام ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد، قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال يا رسول الله إن اليهود قوم بُهت، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم أي رجل عبد الله بن سلام فيكم، قالوا خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. قالوا شرنا وابن شرنا وتَنَقَّصوه قال هذا كنت أخاف يا رسول الله”.

فعبد الله القصيمي كان العالم الفهامة، والبحر العلاَّمة، الذي لا يضاهيه إلا ابن تيمية في جزالة لفظه وقوة حجته، والأديب الألمعي صاحب الأسلوب الساحر الساخر، والعالم الذي أدى بدفاعه عن الإسلام مهر الجنان، ثم… عندما أراد النظر المتحرر إلى دينه، ومراجعة عقيدته، أصبح العالم المنتكس والمنافق المرتكس، والخائن المأفون، والعميل الذي فضل الدنيا على الآخرة، وباع دينه بدنياه. عوض الاهتمام بمنهج الرجل الفكري وتمحصيه، والتدبر فيما دعاه للتخلي عن سلفيته، راحوا يلفقون ويكيلون له التهم جزافا. من بين كثير التهم التي اتهموه بها:

تهمة الغرور والنرجسية: يقول الشيخ ابن يابس: «لقد صدَّر كتابه هذا بقصيدة ركيكة يمدح بها نفسه ويطريها، ولما اطلع على هذا الكتاب شيخنا عبد العزيز بن بشر، أدرك بنور بصيرته وعلمه أن صاحبه منحرف عن الإسلام”. ويكفي لرد هذه التهمة، أن القصيمي ظل بين السلفيين طيب الثناء مهيب الجناب، حتى أظهر ما أظهر فأصبح بين عشية وضحاها أنانيا مغرورا.

تهمة العمالة والخيانة: يقول الشيخ السعدي صاحب التفسير: “وكثير من الناس يظنون به الظنون التي تدل عليها القرائن، وليست بعيدة من الصواب، لظن بعضهم أنه ارتشى من بعض جهات الدعاية الأجنبية اللادينية” ـ تنزيه الدين وحملته ص 425. ويقول الشيخ عبد الله بن يابس: «هذا المخلوق أغراه المستعمر واشتراه ثم أثراه، فذهب يطعن في هذا الدين وحملته وأحكامه في كتابه «هذي هي الأغلال»، فإن قال قائل: كيف قلتم إنهم أغروه واشتروه، ولم تسمعوا الإغراء ولم تحضروا الشراء؟ قلنا:… وقد أدركنا بهذا العقل كما أدرك غيرنا أن أحدًا لن يجترئ على أن يطعن في دينه ووطنه وجنسه، ويمدح أعداء الدين من غير عوض ولا مقابل، فأدركنا أن هناك بيعًا وشراءً. وإلا فماذا؟!» ـ الرد القويم، ص 9.

هذه تهمة متهافتة لا تصمد أمام زهد القصيمي، الذي لو أراد الاتجار بعلمه ودينه، لظل سلفيا في دولة بترولية غنية تغدق العطايا على علماء الهيئات الرسمية. ولآثر حياة القصور على عيشه منفيا بين بيروت والقاهرة وباريس. يقول الشيخ ابن عقيل الظاهري: “ولا أنكر أن القصيمي كان مخلصاً في إلحاده أول الأمر لشُبه عرضت له، وقد لاقى من ذلك مضايقة ومطاردة”. ويقول القصيمي عن نفسه: “كان الغرور الديني قد أفسد عليّ كل شعور بالوجود وبجماله، وكنت مؤمنا بأن من في المجتمع لو كانوا يرون رأيي ويزهدون زهدي لوقفت الأعمال كلها، وكنت لا أخالق إنسانا رغبة فيما يتخالق الآخرون من أجله، وكان شعاري في تلك الفترة قول ذلك المغرور المخدوع مثلي:

إذا صح منك الود فالكل هيِّنٌ ** وكل الذي فوق التراب تراب

فليتك تحلو والحياة مريرة ** وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر** وبيني وبين العالمين خراب

وكان يخيل إليّ وإلى غروري الديني الأعمى أنه لا قوة كقوتي، لأن الله معي واهب القوى، فَلْيَقْوَ العالم كما يشاء، وليجمع من الأسباب ما طاب له فان ذلك كله لا قيمة له ولا خطر بالنسبة إلى من استقوى بقوة الله”.

ـ تهمة الضحالة الفكرية والفراغ الإديولوجي: مغالطة منطقية قديمة لطالما تذرعت بها التيارات الإسلامية لشيطنة المخالف وإسقاطه من أعين الناس؛ لكنها مع عبد الله القصيمي تبدو مكشوفة جدا لأنها مذمة أتت بعد تزكية، وهجاء أتى بعد طول ثناء. يقول عنه ابن عقيل الظاهري: “لقد قرأت كتب القصيمي بتمعن فلم أجد له فكراً متحرراً من بصمات أساطين الكفر والإلحاد، وهو لم يفهم حججهم ولم يحذق مناهجهم، وعبد الله أديب يفهم الفكر بإجمال، وليس فيلسوفا مستوعبا، وليس موهباً فطري التفكير”.

لم يكتف خصوم القصيمي بهذه المغالطة المفضوحة، بل راحوا يجتزِؤون كلام بعض المفكرين ويقتطفونه من سياقه للتدليل على أن القصيمي منبوذ حتى من طرف أقرانه رواد الفكر والحداثة. وسننقل كلام من بتروا كلامهم كاملا لبيان مكانة الرجل الفكرية والأدبية.

يقول الشاعر والمفكر أدونيس في وصف فكر عبد الله القصيمي: “لا تستطيع أن تمسك به، فهو صراخ يقول كل شيء ولا يقول شيئا. يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدا. إنه الوجه والقفا، ثائر ومتلائم، ملتزم وغير ملتزم، بريء وفتاك. وأنت عاجز عن وصفه، فهو بركان يتفجر، والحمم كلمات تحرق، لكن فيما تزرع العشب تهدر وتتآكل وتتفتت، لكن فيما تهدل وتتناسل وتتكاثر، فهو تيار جامح مهيب من المد والجزر، من الانقراض والانبعاث، من الجمود والحركة. مسكون بشحنة الاحتجاج، مسكون بشحنة القبول، بعجز الاحتجاج، متناقض ومنطقي وعقلاني، مُعْتِم وصاف، كأنه الرمل وقطرة المطر… عبد الله القصيمي في الفكر العربي، حدث ومجيء: حدث لأن هذا البدوي الآتي من تحت سماء المدينة ومكة، صوت هائل فريد. ومجيء لأن في هذا الصوت غضب الرؤيا والنبوة” ـ النظام والكلام.

ويقول عنه ميخائيل نعيمة، الذي طالما ردد الإسلاميون انتقاده للقصيمي: “كتاب “العالم ليس عقلاً” لا مثيل له في التفكير العربي قديماً وحديثاً”. وقال واصفا نفس الكتاب في إحدى مقالاته الصحفية: “أردتَّ كتابك نفيا لوجودك وكل وجود، فجاء تثبيتا رائعا لوجودك وكل وجود”.

لو ذهبنا لاستقصاء كل ما كتب عن عبد الله القصيمي وفلسفته ورسائل الماجستير والدكتوراه التي ألفت عنه، سواء من المفكرين العرب أو الأجانب، لما وسعنا هذا المقال. وسنكتفي بمقطع من افتتاحية المفكر عباس محمود العقاد على مجلة الرسالة، بمناسبة صدور كتاب “هذه هي الأغلال”: “والكتاب بحق كما وصفه مؤلفه الفاضل ثورة في فهم العقل والدين والحياة، لأنه يهجم على سلطان غشوم هو سلطان الجهل، ومعقل حصين هو معقل العادة، وجحفل متحجر هو جحفل الغوغاء وأشباه الغوغاء، يرفع السيف والمعول بغير رهبة ولا هوادة، ويعتمد سيفاً واحداً ومعولاً واحداً في هذه الثورة، هما سيف اليقين ومعول البرهان، وهو يشن الغارة الشعواء على من يقدسون البلاهة ويوجبون على الناس الكسل باسم الاتكال على الله، ويحرمون تعليم المرأة وتدريبها على فرائض الأمومة والرعاية الاجتماعية ويوهنون ثقة الإنسان بنفسه، وينكرون العلم الحديث، ويزعمون إن الزمن يتأخر ولا يرجى فيه من أبناء اليوم والغد رجاء يضيفونه إلى تراث السلف ومآثر المتقدمين…”.

إن كل هذه التهم وغيرها من التلفيقات، كالطعن في نسب القصيمي وعقده النفسية، لا تُخفي بواعث التمرد الحقيقية التي قادت عبد الله القصيمي إلى الثورة على الموروث ومساءلة الثوابت والمقدسات، ولا تُلغي ما يحفل به التراث الإسلامي من تناقضات صارخة، ولا تزيل الشك الذي ينبعث في النفوس عند قراءة التاريخ الإسلامي الحافل بالدماء، أو الوقوف على الكم الهائل من الشبهات التي لم تفلح كل الترقيعات في ستر عورتها: شبهة الأخطاء النحوية في القرآن/ شبهة جمع القرآن وتدوينه/ شبهة القضاء والقدر والأسماء والصفات/ شبهة جهاد الطلب والاسترقاق/ شبهة زواج عائشة وتحليل زواج الطفلات/ شبهة زواج صفية وزينب بنت جحش/ شبهة رضاع الكبير/ شبهة الأخطاء العلمية في القرآن والسنة الصحيحة/ شبهة جمع الأحاديث النبوية…

يضاف لهذه الشُبه، المعضلات الفلسفية والوجودية، ليَعلمَ المتهمون أنه إن كان أحد أحق بوصف الضحالة الفكرية وتعطل المدارك، هم من آمنوا وِراثةً دون امتلاك الشجاعة لتبرير معتقداتهم، أو النظر فيها دون تقديس يُعمي أدوات النقد والتحليل.

 

الحلقة الأولى: سلسلة ــ عبد الله القصيمي: من السلفية إلى الشك 1/4

الحلقة الثانية: سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. عبد الله القصيمي، السلفي المتعصب 2/4

الحلقة الرابعة: سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. هكذا تكلم عبد الله القصيمي 4/4

مقالات قد تهمك:

 

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *