محمد عبد الوهاب رفيقي: الإسلام والنقاش العمومي…
لماذا تم تغييب الأدوار الكبرى التي قام بها رواد الحركة السلفية الوطنية في بناء هوية مغربية منفتحة؟ لماذا تراجع دورهم الريادي لصالح حركات سياسية تمثل نقاط توتر في المغرب المعاصر؟
هل كل ما في الإسلام نصوص مقدسة، هل كل ما هو دين وحي متعال في مبادئه الكبرى عن الزمان والمكان؟
نعم، قيم الخير والعدالة والتعاون على البر ونبذ الظلم لا ترتبط بزمان ولا تنحصر في مكان. لكن، بالإسلام أيضا نصوص جزئية متفاعلة مع الواقع… الواقع المحدود في صياغته المكانية، وأبعاده الزمانية أيضا، والذي يتطور مع تطور وقائع الناس وينفتح على قراءات متعددة طبقا لحاجة الناس.
كان التأويل الإسلامي أيام الاستعمار شديد العداء لكل ما هو قادم من الغرب. ثم، مع انحسار المد الاستعماري وتراجع حدة المواجهة، عاد التأويل إلى منطقة وسطى في التعامل مع الانتاجات الغربية والانفتاح عليها. ولهذا الأمر نظائر كثيرة في التاريخ، ليس هذا مجال البرهنة عليها.
اليوم، نحن مطالبون بإنتاج خطاب أكثر إيجابية في التعاطي مع الواقع المغربي المعاصر. ينبغي الحذر من التفاعل مع الواقع المغربي بخطاب إسلامي منبثق عن التفكير والبيئة النجدية التي لا تمثل كل الإسلام، ولا تمثل بالضرورة المطابقة التامة بين الخطاب وقصد الشارع!
لقد أنتج السياق الفقهي النجدي واقعا اجتماعيا متأزما للغاية، فلا هو متصالح مع أسس الإسلام الأولى، ولا هو منفتح على التسارع الرهيب لعالم اليوم. لا أعرف كيف يمكن لخطاب كان يعاني إلى وقت قريب جدا من أزمة فكرية ضخمة مع قضية بديهية كسياقة المرأة للسيارة، أن يدعي صلة مباشرة بأسس الإسلام الصحيحة، ولا أن يبرهن على مواكبة فعالة لعالم الفكر السياسي والثقافي المعاصر؟
كيف يمكن لبيئة مبنية على قمع الحريات، ولا تعرف من الحكم إلا نظاما أبويا متسلطا ليس للمؤسسات فيه دور، أن يناقش مشاكل الديموقراطية التي لا يعرفها أصلا؟
كيف يمكن لسياق ثقافي فقير أن يحتفل بقيم التنوع وهو غير محتك بها ولا هو معتاد عليها؟
أتصور أن الحل لكل هذه الظواهر الاجتماعية التي لا تبشر بالخير، لا يكمن إلا في ترسيخ إسلام عقلاني، إسلام يكرس تعليما ناقدا للأجيال، يقدر ماضيه ولا يقع ضحية لتصوراته، إسلام غير متخاصم مع الواقع اليوم.
في هذا الإطار، أتساءل: تُرى، لماذا تم تغييب الأدوار الكبرى التي قام بها رواد الحركة السلفية الوطنية في بناء هوية مغربية منفتحة؟ لماذا تراجع دورهم الريادي لصالح حركات سياسية تمثل نقاط توتر في المغرب المعاصر؟
إن إعادة الاحتفاء بالفقهاء المستنيرين ورواد حركة النهضة المعاصرة، وكذلك رواد الحركة السلفية الوطنية، سبيل نحو ترسيخ معالم تفكير إسلامي حقيقي، غير مصاب بمرض أسلمة السياسة، ومنتج للقيم الفاضلة في بيئة تسع الجميع، وتقبل الجميع، وتنشر نور القيم الكونية دون اصطناع عداوة غير موجودة أصلا إلا في بعض الأذهان الماضوية.
لقد كان زمن الإمام محمد عبده ورشيد رضا والمكي الناصري ومالك بن نبي وخير الدين التونسي ومحمد بلعربي العلوي وعلال الفاسي زمنا ذهبيا، شكل فيه التفكير الإسلامي نقطة مضيئة في التاريخ الإسلامي المعاصر.
مارس هؤلاء اجتهادات حقيقية، وساهموا بشكل فعال في تطوير أوطانهم نحو أشكال حديثة، من خلال المطالبة بالإصلاح الديني كما نادى به محمد عبده ومحمد الحجوي الثعالبي وغيرهما، ومن خلال التمكين للمرأة في المجتمع من خلال اجتهادات هؤلاء الأعلام، وأيضا من خلال الحث على الاستفادة من التجارب الغربية في تحديث أطر الدولة والمجتمع.
ينبغي إحياء آثار هؤلاء الفقهاء الكبار، وتدريسها للنشء في المدارس لتكون أساسا يمكن أن نبني عليه المزيد من الاجتهادات الفقهية التي تكرس وجها مشرقا للإسلام. ذلك الإسلام الذي يتفاعل مع العلم والواقع بمنطقية في التحليل، وسعة أفق في الفهم، وإنسانية في الاحتواء.
النقاش العمومي اليوم يطرح قضايا عديدة مرتبطة بالدين وقراءاته وتأويلاته: الحريات الفردية، تزويج القاصرات، نظام الميراث، إثبات النسب، الكفالة…. وغيرها من القضايا التي يطرح فيها الدين كطرف أساسي في المعادلة، بل غالبا ما يكون دوره معيقا لأي تقدم أو تطوير للقوانين المرتبطة بهذه الإشكالات، فيتهم الدين بتكريس التخلف والظلم واللامساواة.
لا أخفي القول بأن النسخة الحالية المروجة للدين تسمح بمثل هذه الاتهامات، في ظل رفضها لكل محاولات التجديد، ووأدها لكل حركات الإصلاح، ومعارضتها لكل الاجتهادات والمجتهدين.
لا غنى أيضا عن الاعتناء بنشر القيم الإنسانية والتركيز عليها. يعاني موضوع القيم الكونية من فقر شديد في الخطاب السلفي والإسلامي الوعظي عموما. التأكيد المستمر على تاريخ الحروب في الإسلام، والاستحضار الكثيف للقصص الحربية التراثية -كلما أراد أحد أن يتحدث عن الأمجاد- خلل فكري محض، وتغذية غير سليمة للمخيال بصور الحروب والقتال والدماء، وتصويرها كرموز للشجاعة والقوة والتفوق.
خلاصة الموضوع: الحل هو مفهوم جديد للدين، وموقعه في النقاش العمومي، ودوره في القوانين، والموازنة بين كونه دينا رسميا للدولة واختيارا فرديا للأشخاص، وفتح الباب للاجتهاد والإبداع لتلبية حاجيات العصر. أي أمر سوى ذلك، فالناس سيخرجون من الدين أفواجا كما دخلوا إليه ذات يوم أفواجا.
مواضيع قد تهمك:
- أحمد إبن عرضون… الفقيه المالكي الذي أعاد للمرأة حقها!
- محمد عبد الوهاب رفيقي: الحرية بين دعاوى الإسلاميين وحاجيات الدولة الحديثة
- Marayana TV: علي اليوسفي، الحلقة 9: أبو بكر، حادثة الإفك، حروب الردة ومشروعية السيف
- من اليمن، حسين الوادعي يكتب: من يمثل الإسلام؟
- المجتمع بين المحافظة والحداثة: لماذا فشلت محاولات التنوير وصمدت الإيدلوجيا الدينية؟!
- من مصر، فاطمة ناعوت تكتب: لماذا يكرهون هذا الرجل؟