أحمد الخمسي يكتب. حزن الظن: جدل الجينوم والدبلوم
كانت لهذا المقال مسببات متقاربة في المدة الأخيرة. كتبت دلال في الميسنجر: بابا، أنت تشبه سلفادور دالي في الكتابة بالفرنسية. ضحكت وتذكرت حكمة “كل فتاة بأبيها معجبة” ولو بتفكه وسخرية. …
كانت لهذا المقال مسببات متقاربة في المدة الأخيرة. كتبت دلال في الميسنجر: بابا، أنت تشبه سلفادور دالي في الكتابة بالفرنسية. ضحكت وتذكرت حكمة “كل فتاة بأبيها معجبة” ولو بتفكه وسخرية. بادلتها الحديث المقتضب وبعثت إليها حامل رواية دالي المعنونة: “القلوب الخبيئة أو موت الحب”، ثم فجأة ظهرت صورة دالي مع الجزء الثاني من مقال كريم الهاني حول “ما العبقرية؟”. غِنَى المقال أرجعني إلى عنوان لخص عندي العلاقة بين الطبيعة والثقافة، سبق لي الإعلان عنه لتوأم العقل، حميد البجوقي: جدل الجينوم والدبلوم. واقتران العبقرية بالجنون عبر المقاربة قوّى لديّ الحدس بالجنون الذي يصيبني بالتقسيط بين الفينة والفينة من فرط ما يجري عندنا في الشأن العام.
وما يغرقني أكثر في حصص الجنون، ما يصيبني بالغيرة من الكتابة الذكية المغرضة في الانعطافات المفاجئة (هشام روزاق) ومن القول السريع الموغل في جميل العبارة ببديهة استثنائية (سناء العاجي التي ستترصد لها الفيلة للانتقام منها كونها أخذت منها أنصع وأغلى ما لديها)، ومن تلك الكتابة التي تغتني بالإحالات العلمية على موقع مرايانا، لتؤكد أن بين هذا الشعب وفي المنطقة من يكذب الإحصائيات التي تقطر خزيا حول انعدام القراءة بيننا.
حراكاتنا الاجتماعية دليل على أن أسفل المجتمع يعكس أفضل مما ينتظره مستقبلنا منا. قادة بلا تشحم ايديولوجي ولا عبادة أصنام ولا قوالب جاهزة ولا رموز ذات شرعية فردية ماضوية.
لذلك، تركت سوسن لتركز ذهنها حول مراجع مقالتها حول الصقالبة المخصيين في الأندلس، وأمهلت لقاء تسنيم كي يمر اختبارها في السوسيولوجيا بسلام. ولم أنس توصية حكيمة لما تبقى من “بعصيص” أمل حول مراجع دكتوراهُ ضمن منشورات المجلس الاقتصادي الاجتماعي والبيئي، ريثما ينهي لحظة الشفوي بصدد تسجيله في جامعة محمد الخامس… وانهمكت بالتالي في مقاربة الجينوم البيولوجي الطبيعي من زاوية ترتيب الدبلوم كاستحقاق علمي ثقافي. لأتساءل عمَّ تضيفه الثقافة والمعرفة لشخصية الفرد الاجتماعية؟
إقرأ لنفس الكاتب: حزن الظن: باب الجياف… باب اليهود!
أوقفني حسين الوادعي عند عنوان مقاله: “عندما يخاف العلم من نجاحاته…التعديل الجيني للبشر”، خصوصا لما ذكّر حسين بلحظتي مشروع القنبلة النووية خلال أربعينات القرن الماضي، ساعتها تنفست الصعداء: بيننا من لم يغفل ما دار بين البابا بينيديكت ويورغن هابرماس، بصدد الأخطاء الجسيمة للغرب سواء من مسؤولية المسيحية أو من حيث مسؤولية الرأسمالية، وقد تبادر إلى ذهني لحظتها ما فرح به ماكس ويبر في السابق حول “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”، وما سجله من فروق ما بين “العلم والسياسة بوصفهما حرفة”. ومن عالم العلم رجعت لأتأمل هذه الحفيدة الذكية الطيبة القلب “شمس” الألمانية الجنسية والجذر البيولوجي من كيريل ودلال…تأملت هذا التوالد المعولم ما بين مغربية وألماني أوكراني اشكنازي، ليفرزا آخر ضمة ضمتني شمس بحنان الحفيدة قبل أن تطير إلى برلين آخر مرة. عندما تتكامل عناصر الحضن الاجتماعي العام ليحتضن الجينوم بلا عنصرية ولا اشتراط للعرق ولا لنوعية الدبلوم.
حراكاتنا الاجتماعية دليل على أن أسفل المجتمع يعكس أفضل مما ينتظره مستقبلنا منا. قادة يعكسون الرد على هضم الكرامة وسجن الحرية في الكهوف المحسوبة على الدين وعدالة اجتماعية ضربتها الرأسمالية بعرض الريع.
من جملة الكتب حول الجينوم ما ألفه البريطاني ماط ريدلي سنة 1999: “الجينوم، السيرة الذاتية للنوع البشري”. ها هو حدسي حول العلاقة بين الجينوم والدبلوم يجد طريقه إلى شكل بدائي من التحقق المسبق. ألسنا ملزمين بإثبات قائمة الدبلومات التي حصلنا عليها ونحن نسجل موجز السيرة (CV)؟ طبعا. ألم يحكِ أحدهم عن العلاقة بين السابقين واللاحقين في الشعر والرواية وغيرهما من الإبداع كونها علاقة سرقة قبل أن تكون اقتباساً على مستوى اللاوعي إن لم يكن على مستوى الوعي؟ ولو أن بول فاليري قال ذات يوم: “إن الضمان الوحيد للمعرفة هو المقدرة: المقدرة على الفعل أو المقدرة على التنبؤ، وكل ما تبقى مجرد أدبيات”. هذه الحكمة نفسها وضعها الكاتب هاني خليل رزق في الصفحة الأولى من كتابه القيم تحت عنوان: “الجينوم البشري وأخلاقياته”. فمن المفترض أن يحسن الدبلوم أخلاقيات الجينوم، لكن ميشيل فوكو سبق وحفر في المعارف التي تشكل جينيالوجيا الدبلوم في عهد نابليون وألف كتاب: “يجب الدفاع عن المجتمع”. وما زال المجتمع الفرنسي يدافع عن نفسه كي لا يفسد النظام السياسي ما يوجد من الود بين الدبلوم والجينوم الفرنسي، عبر السترات الصفر.
إقرأ أيضا: الوجه الآخر لصلاح الدين الأيوبي… انتصار الإيديولوجيا! 5/5
جدل الجينوم والدبلوم لم يكن ليوجد جملة إسمية كما هو ها هنا قبل جيل من الآن. حتى لو أن كلمة الجينوم تدوولت بين علماء البيولوجيا خلال القرن العشرين، مما جعل الرئيس بيل كلنتون يضع ميزانية مالية سنة 1995، قصد الكشف العلمي عن هندسة الجينوم بيولوجيا، إلا أن النتيجة أصبحت ضمن الحقائق العلمية كأول كشف علمي تاريخي في قرننا هذا (2003). وبالتالي أصبح في المتداول بيننا أن نقرأ تفاصيل الموروث البيولوجي للأفراد وتفسير الملامح والطاقة الدماغية وتفاعل الإدراك مع الذاكرة والخيال، لحظات ثلاث (الحاضر، الماضي، المستقبل) في عمل الدماغ وفي بنية العقل.
لكن نظرية الذكاءات السبع: الذاتي، الحركي، البصري ، اللغوي، المنطقي، الموسيقي، الاجتماعي، هي التي تنتقل بنا من الجينوم إلى الدبلوم. فالاجتماعي تربة موضوعية أولا (الأسرة، المدرسة، المهنة، مجالات فن العيش) تنعكس مراياها الاسترجاعية عبر الذات في مستوياتها الثلاثة: النفسي والذهني والعقلي.
لم يخسر المجتمع خسرانا تراجعيا تاما، فلا يغرّن الحاكمين برمجتهم عبر التضليل الإعلامي الذي يشغل الناس كل شهر بملف متقادم لينسى الناس أبطال قضاياهم الطازجة في السجن.
والاجتماعي نظام عام وهندسة طبقية ومراتب خفية في الموروثات تدعم أو تدمر ما يتوفر عليه الجينوم في حد ذاته. وهو ما يميز المجتمعات المتقدمة عن المتخلفة على مستوى نخبها وسلوكياتها وكذا على مستوى الفرد في المتوسط العام.
حراكاتنا الاجتماعية دليل على أن أسفل المجتمع يعكس أفضل مما ينتظره مستقبلنا منا. قادة بلا تشحم ايديولوجي ولا عبادة أصنام ولا قوالب جاهزة ولا رموز ذات شرعية فردية ماضوية. قادة يعكسون الرد على هضم الكرامة وسجن الحرية في الكهوف المحسوبة على الدين وعدالة اجتماعية ضربتها الرأسمالية بعرض الريع.
نساء تظاهرن في الريف ميدانيا للمطالبة بالقاتل (3000 امرأة يوم 8 مارس 2017 بالحسيمة). وتلاميذ نجباء نظيفو الملبس والمظهر ومنشرحو الطبع يصرخون “الشعب يريد إطلاق المعتقل” في مدينة جبلية أطلسية (خنيفرة) مباشرة بعد إلقاء القبض على تلميذ بينهم من طرف القوات المساعدة خلال الاحتجاجات الأخيرة ضد “الساعة” العثمانية.
إقرأ أيضا: الساعة لله… وللحكومة!
ولأن التعلم المباشر عبر المواقع الاجتماعية عوّض المدرسة العمومية وعمّم التطبيقات التقنية لتركيب الفيديو والصور وما يرافقها من مصطلحات وقواميس جديد، لم يخسر المجتمع خسرانا تراجعيا تاما، فلا يغرّن الحاكمين برمجتهم عبر التضليل الإعلامي الذي يشغل الناس كل شهر بملف متقادم لينسى الناس أبطال قضاياهم الطازجة في السجن.
فحسب السلطات نفسها تنمو الاحتجاجات الصغرى والكبرى بلا توقف؛ إذ كانت 700 احتجاج سنة 2005 بمعدل احتجاجين في اليوم، لتنتقل بعد خمس سنوات إلى 8600 احتجاجا سنة 2010، بمعدل 23 احتجاجا في اليوم، ليصبح العدد 18 ألف الاحتجاج سنة 2016، أي 50 احتجاجا في اليوم.
سحنة المغرب والمغاربة تتبدل نحو الأفضل. وهو المحتوى التاريخي الذي لا يتراجع نحو الوراء. فكما يقول إدغار موران: دائما يمتزج التقدم بالأزمة (كتاب “إلى أين يسير العالم”). بمعنى أن الجينوم في تحسن متواتر، في مقابله، وباستثناء الدبلومات التي يحصل عليها في المؤسسات الأجنبية، ترعى النخب الرسمية انحدارا وخواءً غير مسبوق في سلوكيات وأساليب التهيؤ والحصول على الدبلومات العليا في البلاد. إلا من رحم الضمير العلمي.
فالحضن الدافئ الذي أصبح يرعى نمو الجينوم المغربي أصبح بعيدا إن لم يصدح بتبرئه من المؤسسات الرسمية التي تتلخص في كثير من اللحظات فيما تمنحه المؤسسات الرسمية من دبلومات “صنع في المغرب”.
لكن التفاعل ما بين الدبلوم والجينوم إيجابيا يضمنه ميكانيزم تجديد المناعة المجتمعية عبر ما يصطلح عليه بالنضال، كما نشهد كل يوم تحت أنظارنا لفائدة المجتمع والدولة معا.