هل كان العصر الجاهلي… عصرا جاهليا حقا؟! 1/2
من المواضيع التي لم تحظ باستئثار الباحثين، وكانت ضحية العداء المتأصل في النفس البشرية للمختلف والمخالف، ما يسمى بالحقبة الجاهلية. بعد مجيء الإسلام، وصَم المسلمون العصر الذي كان قبله بعهد الجهل والانحطاط، حتى يتأتى لهم تنفير المدعوين منه والتمهيد لنشر الدين الجديد.
فهل كان العصر الجاهلي عصرا جاهليا حقا؟ وما المعايير المعتمدة لتصنيفه عصرا جاهليا واعتبار غيره عصرا متحضرا؟
لا توجد إيديولوجية تريد فرض مبادئها والوصول لغاياتها السياسية والاجتماعية، إلا وشيطنت باقي الأيديولوجيات أو قللت من شأنها أو خطَّأتها في أحسن الأحوال.
نزعةٌ من التوحش تعكس بعض ماضينا التطوري، لازمت البشرية منذ نشأتها، وكانت سببا في الصراعات والحروب الإقليمية والعالمية طلبا للهيمنة والاستفراد.
إلى يومنا هذا، فأغلب النقاشات الدائرة في المقاهي أو المغطاة بالبرتوكولات الديبلوماسية في أروقة المنظمات الدولية، لازال طابع الإقصاء والشيطنة فيها حاضرا بقوة، رغم ما يحاول الجميع الاتفاق عليه، ابتداءً من عدم احتكار الحقيقة، واعتبار كل الأمور نسبية قابلة للتداول، وخلق بيئة مشتركة للتعايش.
من المواضيع التي لم تحظ باستئثار الباحثين، وكانت ضحية هذا العداء المتأصل في النفس البشرية للمختلف والمخالف، ما يسمى بالحقبة الجاهلية. بعد مجيء الإسلام، وصَم المسلمون العصر الذي كان قبله بعهد الجهل والانحطاط، حتى يتأتى لهم تنفير المدعوين منه والتمهيد لنشر الدين الجديد.
– فهل كان العصر الجاهلي عصرا جاهليا حقا؟
– وما المعايير المعتمدة لتصنيفه عصرا جاهليا واعتبار غيره عصرا متحضرا؟
تعالوا بنا نستعرض بعض ملامح التحضر في المجتمع الذي سبق الإسلام، وتفوقه في إقرار مجموعة من السلوكيات المتحضرة، التي لم يتم إقرارها إلا بعد قرون في المجتمعات الغربية.
■ ︎التعددية الدينية: كانت مكة قبل الإسلام مدينة روحية يقصدها العرب للحج وممارسة طقوسهم الدينية. هذه الطقوس كانت عبارة عن خليط من الوثنية وشعائر الديانة الصابئية، وبقايا الأساطير الإبراهيمية، وتقديس النار الذي أخذه العرب من القبائل المجاورة للفرس كعُمان والبحرين، كما لم تَخْلُ عقائد العرب الدينية من تأثيرات الديانة اليهودية والمسيحية، وبقايا الرموز الدينية للحضارة الفرعونية والبابلية، ذكر ابن قتيبة في حديثه عن أديان العرب في الجاهلية: أن اليهودية كانت في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة وبعض قضاعة. وذكر نفس الأمر ابن حزم الأندلسي الظاهري في جمهرة أنساب العرب، كما تسربت اليهودية للأوس والخزرج بحكم المجاورة، وقد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزول الآية 256 من سورة البقرة، أن بعض الأنصار أراد إرجاع بعض أبنائه المتهودين قسرا إلى الإسلام بعد هجرة الرسول، فنزلت الآية: “لا إكراه في الدين”. وانتشرت المسيحية بشكل أكبر بين قبائل العرب من نصارى نجران باليمن الى المناذرة في الشمال، كما كان للنصارى قبائل وأساقفة في عُمان ذكرهم ياقوت الحموي في معجم البلدان. وذكر “ابن خلكان” أن جميع قبائل العراق اليمانية الأصل قد تنصرّت، بما فيها تيم واللات وكلب والأشعريون وتنوخ.
كانت كل هذه التنوعات الدينية متعايشة مع بعضها البعض، ولم يسجل التاريخ أي حرب دينية بين العرب من أجل فرض دين على دين آخر، فكان الأحناف منعزلين بدينهم عن الأصنام المنصوبة حول الكعبة، والنصارى يمارسون شعائرهم وينسخون ما وقعت عليه أيديهم من الكتب المقدسة، والوثنيون ينحتون ما شاء لهم النحت من تماثيل وأصنام، وكل طائفة تحترم باقي الطوائف، وتسمح لها بإقامة شعائر دينها وتخصيص مقابر لدفن موتاها.
ذكر المقدسي وجود مقبرة أثرية للمسحيين بمكة خارج المدينة نحو طريق بئر عنبسة. وقد اشتهر في مكة من المسيحيين، ورقة بن نوفل خال خديجة زوجة الرسول، وعثمان بن الحويرث، واشتهر من الأحناف زيد بن عمرو بن نفيل، الذي نهى الرسول قبل البعثة عن أكل ما ذُبح على الانصاب. روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو: أن النبي لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي الوحي، فقُدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وللقصة تفصيل آخر يبين فضل زيد بن عمرو بن نفيل وتوجيهاته لرسول الإسلام. روى الحاكم في مستدركه: عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة قال: خرج رسول الله وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور، حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله يسير وهو مردفي في أيام الحر من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقي فيه زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية… فأناخ رسول الله البعير الذي كان تحته، ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيها الشواء، فقال: ما هذه؟ فقلنا: “هذه شاة ذبحناها لنصب كذا وكذا”، فقال: “إني لا آكل ما ذبح لغير الله”، وكان صنما من نحاس يقال له: إِساف ونائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله وطفت معه ….”. أخرجه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. (وهذا الحديث يستميت المرقعون في تضعيفه رغم وجود أصله في البخاري).
■ ︎القيم الأخلاقية: إذا أردنا البحث في القيم الأخلاقية بالمجتمع العربي قبل الإسلام، فسنجده مجتمعا حافلا بالقيم الأخلاقية الرفيعة، التي ينذر وجودها اليوم، حيث كان العربي يلتزم بمنظومة سامية من الأخلاق، دون رادع قانوني غير ما تُمليه عليه نخوته ومروءته، فسادت بينهم فضيلة الكرم وقِرى الضيف، وكانوا يشعلون النار ليلا ليهتدي إليهم ابن السبيل، وقصة الشاعر الحطيئة، الذي لم يجد ما يطعم به ضيوفه فأشار عليه ابنه بذبحه ليتمكن من إطعام زائريه مشهورة معروفة. يقول الحطيئة في مِيميته التي خلدت الحادثة:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ## بِبيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَة ## يرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزائَها ## ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهْما
رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَه ## َلَمّا بَدا ضَيفاً تَسَوَّرَ وَاهتَمّا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَة ## أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طرا ## يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
كما عقد العرب أحلافا محلية لنصرة المظلوم وإحقاق الحق وإرجاع المظالم لأهلها. ذكر ابن هشام في سيرته عن حلف “الفضول”: “تداعت إليه قبائل من قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي لسِنِّه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته”. ويقال في سبب هذا الحلف، أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، وعديا، فلم يكترثوا له، فَعَلا جبل أبي قبيس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مَتْرك؟ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فقاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي بعد ما أبرموا الحلف”. (مختصر سير الرسول، عبد الله النجدي).
وكانوا يأنفون من الكذب والخصال الذميمة، ولو على حساب مصالحهم، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره: “أن هرقلَ أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا في الشام، في المدة التي كان رسول الله مهادنًا فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بتَرجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كذَبني فكذِّبوه، فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عليّ كذبًا لكذبتُ عليه..” (صحيح البخاري). كما لم تدفعهم عداوة الدين الجديد إلى الفجور في الخصومة وانتهاك الحرمات، فهذا أبو جهل (عمرو بن هشام ابو الحكم) لا تسمح له نفسه بأذية بنات محمد أو ترويعهم، قيل له: “كيف تركت محمدا يخرج من بين أيديكم ليلة الهجرة ويلحق بصاحبه؟ لِمَ لم تكسر الباب عليه وتأخذه من سريره؟ فأجاب: وتقول العرب رَوَّع عمرو بن هشام بنات محمد وهتك حرمة بيته!!!
ورغم الحصار الذي فرضته قريش على أتباع محمد في شِعب أبي طالب، لم يمنع ذلك بعض القرشيين من حَمْل المؤونة لهم سرا حتى لا يهلكوا جميعا، فكان حكيم بن حزام تأتيه العير تحملُ الحِنطة من الشام، فيوجه بعضها – تحت ستار الظلام – إلى الشِّعْب، ويضرب أعجازَها، فتدخل الشعب، فيأخذ المحصورون ما عليها من الحنطة. ومثله كان هشام بن عمرو يوقر البعير طعامًا، حتى إذا أقبل به فَمَ الشعب خلَع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه فيدخل الشِّعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بزًّا أو بُرًّا فيفعل به مثل ذلك. (سيرة ابن هشام)
أما عن شجاعة العرب قبل الإسلام وعدم قبولهم الذل ولو في صغائر الأمور، فحدِّث عن البحر ولاحرج، وما حروب داحس والغبراء وحرب البسوس ويوم خزاز ويوم بُعاث، إلا شواهد عن أنفة الإنسان العربي وصونه لكرامته بسيفه ودمائه. وإذا كانت بريطانيا لم تعرف قصص المغامرة والتضحية من أجل الفقراء إلا مع “روبين هود”، فقد عرفها المجتمع، المسمى ظلما بالجاهلي، قبل ذلك بقرون، مع الشعراء الصعاليك، شعراء لهم نظرة خاصة للحياة والبيئة الاجتماعية، تقترب أحيانا من التفلسف العميق والتمرد على كل الأعراف القبلية السائدة، نذروا حياتهم للغارة على قوافل الأغنياء واقتسامها مع الفقراء والمنبوذين، وهذه بعض أشعارهم التي تختصر نظرتهم للحياة، يقول الشنفرى:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ## وفيها لمن خاف القِلى مُتَعَزَّلُ
أُدِيم مطال الجوع حتى أُمِيتُه ## وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل
وأسْتَّفُ تراب الأرض كي لا يُرى له ## علي من الطَّول امرؤ متطولُ
ويقول تأبط شرا واصفا إنفاقه لماله كله على الفقراء:
يقول أهلكت مالاً لو قنعت به ## من ثوب صدق ومن بزٍّ وأعلاقِ
عاذِلتي إن بعض اللوم معنفة ## وهل متاعٌ إن أبقيته باقِ.
لقراءة الجزء الثاني: عن الحياة الثقافية ومكانة المرأة… هل كان عصر جاهلية حقا؟! 2/2
مواضيع قد تهمك:
- هل كان الشعر “الجاهلي” مجرد أكذوبة؟ 1\3
- طه حسين والشعر الجاهلي: حين تجرأ الأديب المصري على “منطقة مقدسة” في الأدب العربي… 2\3
- قداسة الكعبة على ضوء التاريخ الإسلامي: حين قدس العرب 8 كعبات! 1/3
- تاريخ الحج قبل الإسلام: بين القطيعة والاستمرارية 1\3
- تلبية وطواف: أهم أركان الحج عند عرب ما قبل الإسلام 2\3
- من وقوف عرفة الى النحر: المناسك الأشد قدسية عند عرب ما قبل الإسلام 3\3
- في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس
أي أخلاأ ق كانت تسود في الجاهلية عندنما كان العرب يدفنون بناتهم وهم على قيد الحياة .والإننسان بضاعة يباع ويشترى .في سوق النخاسة ،. والناس تعبد الالثماثيل والحجارة . المجتمع الجاهلي كان يعج بالصعاليك وقطاع الطرق رغم وجود حالات من الكرماء الذين استذلت بهم .
كان هذا المقال مفيد جدا بالنسبة لي حيت اعطاني معلومات جديدة لتنمية رصيدي المعرفي و شكرا
شكرا على المعلومة
جهلهم كان جهلا و تجاهلا مقصودا للدين الإسلامي الحنيف الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم و أرادوا قتله مع علمهم بصدق رسالته ، وقد ادوه كثيرا و تحالفوا ضدده و هذا نوع من الجهل الأعمى و الأكثر خظورة لأنه الرسول صلى الله عليه وسلم جاء فقط لينقدهم من براثن الشرك و إتمام مكارم الأخلاق التي كانت سائدة قبلهم و فيهم لكن تجدوا عنها بطغيانهم و تسلطهم على الضعيف و استعبادهم للبشر و شرب الخمر و الزواج الفاسد و غيرها من الفواحش هو مخلصهم منها ففروا منه و هذا جهل العباد الأصنام الجاهلين