أمل دنقل: أيها الواقفون على حافة المذبحة… أشهروا الأسلحة!
… “معلق أنا على مشانق الصياح/ وجبهتي بالموت محنية/ لأنني لم أحنها حية”
تلك… بعض من حكاية أحد “صعاليك الشعر الحديث”.
ذلك، أول الحكي في سيرة كبير اسمه أمل دنقل، نتابع بعض أثرها هنا، من خلال سردية الرجل الذي… “قال لا في وجه من قالوا نعم…وظل روحا أبدية الألم”.
“لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد
وخلف كل ثائر يموت، أحزان بلا جدوى
ودمعة سدى”
… “معلق أنا على مشانق الصياح/ وجبهتي بالموت محنية/ لأنني لم أحنها حية”
تلك… بعض من حكاية أحد “صعاليك الشعر الحديث”.
ذلك، أول الحكي في سيرة كبير اسمه أمل دنقل، نتابع بعض أثرها هنا، من خلال سردية الرجل الذي… “قال لا في وجه من قالوا نعم…وظل روحا أبدية الألم”.
حين حصل الشيخ فهيم دنقل على شهادة العالِمية من الأزهر عام 1940، صادف الحدثُ أن ازدان فراشه بمولود ذكر.
من فرط فرحته بـ”أعلى مؤهل ديني أزهري“، أطلق تيمّنا على ابنه “أمل[1]” وكان في مصر، وغيرها من دول المنطقة العربية، اسما شائعا للإناث.
لما ألحقت إسرائيل الهزيمة بالعرب في يونيو 1967، تأججت الصرخة في وجدانه وكانت قصيدته التراجيدية: “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة“. قصيدة كشفت زيف “النظام العربي” الذي يسوق رعاياه، جوعى، مقهورين، من هزيمة إلى هزيمة ومن كارثة إلى أخرى.
وُلد أمل بقرية القلعة في جنوب الصعيد… أبصر النور وسط نفائس أبيه من كتب التراث العربي فنشأ يحب القراءة حد الولع…
ثمّ، بعد عشر سنوات، مات الشيخ فهيم وقد أورث ابنه بعضا من أشياء لا تُشترى، مثل موهبة الشِّعر.
مات “نازفا“، وقبله الأخت “ذات الربيعين“، فتورط “الجنوبيّ” باكرا في مواجهة ضد الموت…
مع مسحة حزن، وصعيدٍ ينحتُ ملامح الكبرياء على وجهه، كان على أمل أن يمضي قُدمه في الحياة وأن يعتليّ مكانة أبيه في البيت.
… الشعرُ في ذلك كان مُتنفّسه. عرضَ ذات يوم على أستاذه بعض أشعاره الأولى، فأجابه: “خيرٌ لك أن تترك الشعر فلن تكون شاعرا أبدا!“.
كان الأستاذ “قاسيا”، وكان أمل ابن الصعيد… أخبروه أن العرب تقول إنّ من حفظ ألف بيت صار شاعرا، ففعل…
بعد عام، عرض على أستاذه قصيدة أخرى، فأبدى دهشة بالغة حيال تقدمه…
تلك كانت سيرة أمل دنقل!
حين أنهى دراسته الثانوية، رحل إلى القاهرة حيث التحق بكلية الآداب… لكن الصعيديّ تسكّع في ليل العاصمة منبهرا حد أن رسب في دراسته.
ثمّ عاد إلى محافظة قنا؛ قريبا من مسقط رأسه، وهناك عمل موظفا في المحكمة يقف على تنفيذ قراراتها…
لكنّ الفقراء لاحقوا أمل باللعنات كلما قررت المحكمة الحجز على بيت أحدهم، حتى تمّكن شعور بالعار من نفسه فاستقال.
اشتغل بعدها في إدارة الجمارك بالسويس، ثم سافر إلى الإسكندرية حيث كتب ديوانه الأول “مقتل القمر“، ليعود عام 1966 إلى القاهرة وهذه المرة… حتى مثواه الأخير.
شاهداً على مجتمع مختلّ، طوّحت القاهرة بأمل في دروب السياسة… كان قد هجر الشعر لفترة، فلم يكن له سوى أن يستلّه، ثانيةً، كصرخة جريئة في وجه القهر.
كان أمل دنقل سيلَ غضبٍ عارم يرسم بشعره أبعاد حياة “الإنسان العربي”، يحضّ كرامته المشروخة على الثورة. غضبٌ قوبل بآخر مضاد من الرئيس أنور السادات، فمنعه من الظهور وحظَرَ بث أي من قصائده لمدة عشر سنوات.
ثمّ لما ألحقت إسرائيل الهزيمة بالعرب في يونيو 1967، تأججت الصرخة في وجدانه وكانت قصيدته التراجيدية: “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة“.
يقول النقاد إن القصيدة هذه كشفت زيف “النظام العربي” الذي يسوق رعاياه، جوعى، مقهورين، من هزيمة إلى هزيمة ومن كارثة إلى أخرى.
… ومنذ ذاك، راح أمل سيلَ غضبٍ عارم يرسم بشعره أبعاد حياة “الإنسان العربي”، يحضّ كرامته المشروخة على الثورة.
غضبٌ قوبل بآخر مضاد من الرئيس أنور السادات، فمنعه من الظهور وحظَرَ بث أي من قصائده لمدة عشر سنوات.
حُرِم أمل أيضا من عضويته في الاتحاد الاشتراكي العربي[2]… لكنّه اعتبرَ القرار تكريما لشعره؛ دليلا على أنه بلغ من النضج والقوة والتأثير ما يجعله مُزعجا.
ثم بعد سنوات، وبعيني زرقاء اليمامة، استحضر أمل حرب البسوس، وكتب قصيدة صارت كالوصية الخالدة: “لا تصالح“…
لكن، وبينما حارب الزير سالم قبيلة بكر أربعين عاما حتى داهمه خريف العمر لأن أخاه كليبا بن ربيعة أوصاه “لا تصالح”، كان أن صالح السادات إسرائيل… وقبِلَ بـ”الأشياء التي لا تشترى“.
خلافا لما ساد في زمنه من مدارس شعرية تأثرت بالميثولوجيا اليونانية، استوحى أمل معظم قصائده من التراث العربي.
… قصائده التي كانت قوية، متمردة، طافحة بالرفض، لم تعكس يوما جسده الضامر أو صوته الهزيل الذي كان يتخفّى وراء نبرة حادة.
أصدر أمل ستّة دواوين، آخرها كان عام 1983 بعنوان “أوراق الغرفة 8“… الغرفة التي قضى بها نحو أربع سنوات في المعهد القومي للأورام بالقاهرة.
هناك حيث وجد “الجنوبيّ” نفسه هذه المرة ضد الموت وجها لوجه؛ يحارب السرطان…
صراع كان بين متكافئين؛ الموت والشعر[3]، فلم تنطوِ أي من قصائده وقتها على صورة من صور التضرع[4].
فاز الموت بأمل وفاز أمل بالخلود…
رحل “الجنوبيّ[5]” في الـ21 من ماي 1983، وووري الثرى في مسقط رأسه تماما كما ترك في وصيته:
“لا حزن ولا بكاء فقد حزنت وبكيت في حياتي ما يكفي… أوصيكم بأن تكتبوا على قبري هذا قبر فلان بن فلان بن فلان وكل من عليها فان“.
… ورُبّ حياة قصيرة تُخلّف حكاية لا تفنى؛ حكاية شاعر كلّما هبت رياح الثورة في مصر، رَسمت على الجدران: “لا تصالح“، فـ”خلف كل قيصر يموت… قيصر جديد“.
[1] محمد أمل في الأوراق الثبوتية.
[2] تنظيم سياسي مصري منحل.
[3] للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي.
[4] قال الكاتب جابر عصفور الذي رافق أمل في لحظاته الأخيرة.
[5] عنوان آخر قصائده.
Thanks.