أحمد مطر: فيلرمِ السّلطةَ… من كان بيتُه من شِعر!
لم يكن الشعر عند أحمد مطر نظاما عربيا يسقط بسقوط الحاكم. ولا بديلا عن الفعل. إنه قرين له. نوع من الفنون مهمته الكشف والتحريض… يسبق الفعل، يضيء طريقه ويحرسه ثمّ يمجده.
…من منفى إلى منفى، استقرّ أحمد مطر في لندن ببريطانيا مع رفيق دربه “ناجي العلي” عام 1986. وليتهم تركوهما هناك وشأنهما، فقد اغتالوا ناجي العلي، وتركوا شاعرنا نصف إنسان. نصف جثة.
“أنا في بريطانيا، دولة مستقلة… لستُ سعيداً لأنني بعيد عن صدى آهات المعذبين، لأني أحمل آهاتهم في دمي، فالوطن الذي أخرجني منه لم يستطع أن يخرج مني، ولا أحب أن أخرجه، ولن أخرجه”.
هكذا تحدث الشاعر أحمد مطر في آخر ظهور إعلامي قبل أن ينغمس في عزلة امتدت لسنوات طويلة.
يكره وسائل الإعلام، أو بتعبيره، “وسائل الإعدام”، حتى إنّ شائعات وفاته أكثر من أن تُحصى، ولا أحد يعرفُ عنه شيئا… كأنّما اختار الرحيل قبل الرحيل.
سيرحل حتما… ذاك قدر الإنسان! فهل يكون القدر نفسه قدرَ سوط القافية؟ كثيرا ما يرحل الشاعر، وتخلد القصيدة…
ولد أحمد مطر، عام 1954م، في قرية التنّومة ضواحي البصرة في العراق.
أخذ يكتب الشعر منذ صباه، وكأي صبي، كتبه في الغزل. ظهرت موهبته في الصف الثالث، عندما كتب قصيدة يقول في مطلعها:
مرقت كالسهم لا تلوي خطاها … ليت شعري ما الذي اليوم دهاها
كانت تنمّ عن موهبة شعرية فريدة قيد الولادة.
… موهبةٌ تُخفي وراءها سنا أكبر من عُمر صبي في الرابعة عشر، وهذا لمن قرأ تلك الأبيات حينها، لا يتهيّأ فنا ورصيداً لصبي ما زال مخزونه اللغوي والفني في طور التشكيل.
كانت لافتات أحمد مطر ساخرة حدّ الألم. ينتظرها الناس ويترقبون موعد صدور الصحيفة لقراءتها، حتى صار سؤالهم اليومي: “هل قرأت لافتة اليوم؟”. لكن عباس/الأنظمة “العربية” صقلت سيفها في الأصل… لتستله أمام أمثال أحمد مطر.
مع ما قد يفصح عنه شعر الغزل من عيش بحبوحة، إلا أن أحمد مطر عاش في الواقع طفولة قاسية.
ألجأته قسوة الحياة إلى الكتب، وكان ذلك… سرّ رصيده اللغوي.
لكنّ الكتب لم تكن لتداري حياة القسوة تلك، فكان أن انتقل إلى بغداد ليعيش في كنف أخيه الأكبر علي.
تعثّر أحمد مطر في دراسته، وكان وطنه يعيش على وقع أحداث مريرة… أحداثٌ طوت صفحة الغزل في شعره إلى الأبد، وفتحت أخرى تشتعل بالتغيير وحض النّاس على اجتثاث الواقع المرير.
يقول: “ألقيتُ بنفسي مبكرا في دائرة النار، عندما تكشّفت لي خفايا الصراع بين السلطة والشعب، ولم تطاوعني نفسي على الصمت أولا، وعلى ارتداء ثياب العرس في المآتم ثانيا، جذبتُ عنان جوادي ناحية ميدان الغضب”.
سرعان ما ذاع صيتُ قصائد أحمد مطر بين الناس. لتلوي السلطة ذراعه، طلبت منه أن يُلقي قصيدة في مناسبة احتفال بثورة تموز (انقلاب 1968). رفض. فكان عقابه السجن.
كابد في فترة سجنه مرارة التنكيل بأسرته. مات أخوه الأصغر في حادث سير قيل إنه مُفتعل، ثمّ وُجد أخ آخر يتدلى من حبل مشنقة وقيل… أُعدم شنقا.
ولما نال حريته، ترك الجمل بما لم يحمل… وهاجر إلى الكويت.
اشتغل لفترة في صحيفة الخليج العربي، ثم التحق بصحيفة القبس محررا ثقافيا. كان عندها في منتصف عشرينيات عمره.
جاء أحمد مطر إلى صحيفة القبس ليكتب عن الشعر… لا أن يكتب الشعر. لكنّ قصائده أوجدت لنفسها طريق النشر أمام مسؤولي الصحيفة.
كانت القبس موعده مع انطلاقة شعره إلى آفاق أرحب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ودول أخرى كثيرة.
في القبس تعرّف على فنان آخر يظهر أنّهما توافقا في التمرد على الواقع. مثّلت الصحيفة يومها حالة خاصة. تُفتتح بلافتة أحمد مطر وتُختتم برسمة ناجي العلي.
كان أحمد مطر أول من ابتكر في الأدب العربي نمط كتابة يُدعى اللافتات. كانت هذه اللافتات تطفح بالنقد والتمرد على الديكتاتورية.
نشر أوّل لافتة له في غشت 1980. كتب عليها:
عباس وراءَ المتراس… يقظٌ منتبهٌ حساس
منذ سنين الفتح يلمّع سيفه، ويلمّع شاربه أيضا، منتظرا محتضنا دفه
بلع السارق ضفة
قلّب عباس القرطاس
ضرب الأخماس بأسداس
بقيت ضفة…
لملم عباس ذخيرته والمتراس، ومضى يصقل سيفه
عبر اللص إليه، وحل ببيته، أصبح ضيفه
قدّم عباس له القهوة، ومضى يصقل سيفه
صرخت زوجة عباس: ضيفك يراودني، عباس، قم أنقذني يا عباس، أبناؤك قتلى، عباس…
عباس، اليقظ الحساس، منتبه لم يسمع شيئا، زوجته تغتاب الناس
صرخت زوجته: عباس، الضيف يسرق نعجتنا
قلب عباس القرطاس، ضرب الأخماس بأسداس، أرسل برقية تهديد…
فلمن تصقل سيفك يا عباس؟
لوقت الشدة…
إذن اصقل سيفك يا عباس.
كانت لافتات أحمد مطر ساخرة حدّ الألم. ينتظرها الناس ويترقبون موعد صدور الصحيفة لقراءتها، حتى صار سؤالهم اليومي: “هل قرأت لافتة اليوم؟”.
لكن عباس/الأنظمة “العربية” صقلت سيفها في الأصل لتستله أمام أمثال أحمد مطر.
بعدما ضاقت من كلماته الحادة، وذيوع لافتاته على نحو يُفيق عموم الناس، نفته الكويت بصحبة ناجي العلي.
من منفى إلى منفى، استقرّ أحمد مطر في لندن ببريطانيا مع رفيق دربه عام 1986. وليتهم تركوهما هناك وشأنهما، فقد اغتالوا ناجي العلي، وتركوا شاعرنا نصف إنسان. نصف جثة.
ظلّ أحمد مطر مع ذلك يرسل لافتاته إلى القبس، قبل أن يصاب بالخيبة، أو كما يقول في حيثيات استقالته:
أيتها الصحيفة
الصدق عندي ثورة
وكذبتي
إذا كذبت مرة
ليست سوى قذيفة…
… ولا حياةُ بريطانيا رست بنفسه على مستقر: “أنا في بريطانيا، دولة مستقلة، نمشي على قدمين، نشتاق إلى أوجاع احتلالها ونهفو إلى المعركة من جديد، لست سعيدا…”.
لتلوي السلطة ذراعه، طلبت منه أن يُلقي قصيدة في مناسبة احتفال بثورة تموز (انقلاب 1968). رفض. فكان عقابه السجن. كابد في فترة سجنه مرارة التنكيل بأسرته. مات أخوه الأصغر في حادث سير قيل إنه مُفتعل، ثمّ وُجد أخ آخر يتدلى من حبل مشنقة وقيل… أُعدم شنقا.
كيف يسعد وهو يرى وطنه على التلفاز يلعب دور البطولة في تراجيديا الشرق الأوسط!
لم يكن الشعر عند أحمد مطر نظاما عربيا يسقط بسقوط الحاكم. ولا بديلا عن الفعل. إنه قرين له. نوع من الفنون مهمته الكشف والتحريض… يسبق الفعل، يضيء طريقه ويحرسه ثمّ يمجده.
أعلم أن القافية
لا تستطع وحدها
إسقاط عرش الطاغية
لكنّني أدبغ جلده بها
دبغ جلود الماشية!
حتى إذا ما حانت الساعة
وانقضت عليه القاضية
واستلمته من يدي
أيدي الجموع الحافية
يكون جلدا جاهزا
تصنع منه الأحذية!
كان هذا شاعرَ بلاد النهرين… دواوينه كثيرة تُفصح من عناوينها عن الفحوى: “ورثة إبليس”، “السلطان الرجيم”، “مقاوم بالثرثرة”، “كلب الوالي”…
… رغم أنّه لم يهادن السلطة قط، لا يتردد البعض في وصفه بـ”ملك الشعراء”!