سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. عبد الله القصيمي، السلفي المتعصب 2/4
أثنى مشايخ الإسلام من كل التيارات الفكرية على عبد الله القصيمي، وامتدحوا نبوغه الفكري والأدبي ورشاقة قلمه وغيرته على الإسلام، ولم يدَّخِروا كلمة طيبة في حق الرجل إلا أهدوها إياه.
يقول في حقه الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهر: “إن صحراء المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية أنجبت مفكراً مليح الأسلوب، أشهد أنه يتفنن في عرض دعاوى الفلاسفة والعلماء الماديين من أمثال بخنر وسارتر… القصيمي يتقن رسم الصور ويسرف في الخيال ويغني وينوح. إنه فنان متمزق. إنه أديب ساخر ساحر”.
حاولنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، تفكيك تيمة الشك في الثقافة الإسلامية، وكيف تم ربطها بالإيمان بالغيب كحل لكل الأسئلة التي يمكن أن تطرحها.
في هذه الحلقة الثانية، نقتفي أثر عبد الله القصيمي في رحلته مع الشك، ونقف عند بداياته كسلفي متعصب، أفحم كبار مشايخ الأزهر، وكبار المفكرين.
لم يكن غريبا على من نشأ في بادية الحجاز أوائل القرن العشرين أن يكون وهابيا جلدا وسلفيا متشددا، لانتشار المذهب الوهابي وتبنيه من طرف الدولة السعودية الوليدة، والعمل على نشره بقوة السلاح والمال. في هذه البيئة المتشبعة بأصولية متطرفة، ولد عبد الله القصيمي في بادية نجد، معقل الدعوة الوهابية، سنة 1907.
تلقى هناك تعليمه الأول قبل أن ينتقل إلى الرياض تحت تأثير العوز والفاقة، باحثا عن أفق أرحب… في الرياض، تتلمذ على يد الشيخ “سعيد بن عتيق” ثم انتقل ليكمل تعليمه في كل من العراق وسوريا والهند، محافظا في كل مراحل تعليمه على اقتفاء المذهب الوهابي عقيدة وسلوكا.
انتهى مسار طلب العلم بالقصيمي إلى حط رحاله بجامع الأزهر كطالب ألمعي يَتَّقِدُ ذكاءً وفطنة، ويلتهب حماسة في الدفاع عن العقيدة السلفية، لتحدث أول مواجهة له مع شيخ الأزهر، يوسف الدجوي، الذي كان لا يرى بأسا من زيارة المشاهد والأضرحة، وأصدر فتاوى تبيح التوسل بالصالحين والأولياء؛ فانبرى له القصيمي وألف كتابه «البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية»، للرد على شيخ الأزهر ومن ورائه كل من يعتقد عقيدته ويدين بمذهبه بعبارات لاذعة، وتنقيصٍ وتشهير دفع القائمين على الأزهر إلى اتخاذ قرار فصل عبد الله القصيمي من الدراسة، وإصدار بيان للدفاع عن شيوخ الأزهر وتوضيح سبب الفصل، جاء فيه: (صدر كتاب ينسب إلى طالب من نجد في جامعة الأزهر، ويوجد في الكتاب شتائم وإهانات موجهة إلى أستاذ من هيئة كبار العلماء. وعلى أثر ذلك، كلفت هيئة المدرسين أحد الأساتذة بإجراء تحقيق ضد الطالب فيما تضمنه الكتاب من افتراءات وشتائم، وقام الأستاذ بتقديم نتائج تحقيقه إلى مجلس إدارة الأزهر والتي قررت في جلستها المنعقدة في 13/9/1932م قرارًا بفصل الطالب من انتسابه إلى الأزهر).
لكن ذلك لم يَفُتَّ في عضد القصيمي ولا أضعف حماسته، بل توالت الردود على كل من انتقد الوهابية وتشددها، فأردف كتابه السابق بكتابين آخرين: “شيوخ الأزهر والزيارة في الإسلام”، و“الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم”.
كما رد على كتاب الكاتب والصحافي والسياسي الشهير، محمد حسين هيكل، “حياة محمد”، وحاول تفنيد كل مزاعمه في إنكار المعجزات؛ وبلغ ذروة المجد وهو يؤلف كتابه “الصراع بين الإسلام والوثنية”. هذا الكتاب الذي أثنى عليه كبار المشايخ وعدُّوه باكورة ما كُتِب في الدفاع عن الإسلام والدعوة الوهابية، فأنشد فيه إمام الحرمين وخطيبه ومدير دار الحديث بمكة:
ألا في الله ما خط اليراع …. لنصر الدين واحتدم الصراع
صراع لا يماثله صراع …. تميد به الأباطح والتلاع
صراع بين إسلام وكفر …. يقوم به القصيمي الشجاع
خبير بالبطولة عبقري …. له في العلم والبرهان باع
يقول الحق لا يخشى ملاماً …. وذلك عنده نعم المتاع
يريك صراعه أسداً هصوراً …. له في خصمه أمر مطاع
كأن بيانه سيل أتيّ …. تفيض به المسالك والبقاع
لقد أحسنت في رد عليهم …. وجئتهم بما لا يُستطاع.
ذكر صلاح المنجد أن بعض مشايخ الوهابية قالوا للملك عبد العزيز: “لقد دفع القصيمي مهر الجنة بكتابه هذا، ولا نجد رأسا يطاوِل رأسه إلا ابنُ تيمية“. المصدر: دراسة عن القصيمي، ص 25
بعد فصله والتضييق عليه، حاول الشيخ السلفي “رشيد رضا” التخفيف من وطأة النبذ والإقصاء، فقام بطبع كتبه، بل قال: “إن القصيمي اكتسح في الحقيقة هؤلاء العلماء بمعرفته الواسعة وأخجلهم” ـ كتاب: دراسة عن القصيمي، ص23
. أقوال العلماء في القصيمي قبل رحلة الشك
أثنى مشايخ الإسلام من كل التيارات الفكرية على عبد الله القصيمي، وامتدحوا نبوغه الفكري والأدبي ورشاقة قلمه وغيرته على الإسلام، ولم يدَّخِروا كلمة طيبة في حق الرجل إلا أهدوها إياه. يقول في حقه الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهر: “إن صحراء المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية أنجبت مفكراً مليح الأسلوب، أشهد أنه يتفنن في عرض دعاوى الفلاسفة والعلماء الماديين من أمثال بخنر وسارتر… القصيمي يتقن رسم الصور ويسرف في الخيال ويغني وينوح. إنه فنان متمزق. إنه أديب ساخر ساحر”.
وكتب الشيخ حسن القاياني في مجلة المقتطف -العدد 10 فبراير1947، واصفا القصيمي: “معسكر الإصلاح في الشرق، قلبه هو السيد القصيمي نزيل القاهرة اليوم، نجدي في جبته وقبائه، وصمادته وعقاله، إذا اكتحلت به عيناك لأول التماحته قلت: زعيم من زعماء العشائر النجدية، تخلَّفَ عن عشيرته لبعض طيته، حتى إذا جلست إليه فأصغيت إلى حديثه الطيب، أصغيت إلى عالم بحر يفقه بعلم ديني واجتماعي. تعرفت إلى العالم النجدي القصيمي فجلست إليه مرة ومرة، فناهيك منه داعية إصلاح.. لم أقض العجب حين شهدت القصيمي من عربي في شمائله.. حيا الله السيد القصيمي، ما أصدق نظرته إلى الحياة وأبعد مرماه في الهداية”.
ويقول عنه أحد مشايخ الوهابية، آل عبد المحسن: “كان هذا الرجل من أهالي خَبِّ (منطقة زراعية) من خُبوب القصيم، ثم إنه نشأ في مصر واكتسب من العلوم حتى كان ينافح عن دين الله، وله ردود على أهل الضلال الذين نابذوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وضادوها حتى هتك أستارهم”. ـ تذكرة أولي النهى والعرفان.
. التحول من السلفية إلى الشك
أغلب الذين كتبوا عن التحولات الكبرى في فكر القصيمي، لاحظوا الطفرة السريعة والنقلة الفجائية بين الإيمان العميق والتنكر لكل معتقداته السالفة التي لم يأل جهدا في الدفاع المستميت عنها سابقا.
لكن عبد الله القصيمي، وإن كان يُظهر دماثة علمية ويقينا متعصبا للعقيدة السلفية، لم يكن سليم الصدر من اختلاجات النفوس وريبة الشكوك، شأنه في ذلك شأن كل المؤمنين من كافة الديانات. يقول ابن تيمية: “والمؤمن يُبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره… كما قالت الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: ذاك صريح الإيمان وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به، قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان… ولابد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا أو منافقا، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنا، وإما أن يصير منافقا”.
القصيمي عبَّر عن هذه الهواجس والشكوك أثناء شهرته كسلفي منافح عن العقيدة الوهابية، يقول عبد الله بن يابس: «كان القصيمي منذ أكثر من خمسة عشر عامًا تقريبًا يجادل في البَدَهيات الدينية، حتى اشتهر بكثرة جدله في الأمور الضرورية، وحتى كان يجادل بعض جلسائه في وجود نفسه. وحدثني صديق حميم من العلماء الأفاضل قال: كان ذلك المخلوق القصيمي يأتي إليّ منذ خمس عشرة سنة تقريبًا، ويصرح لي بأنه تعتريه شكوك إذا جن الليل، فيسخن جسمه، ويطير النوم من أجفانه، قال: وكان يجادلني في الله، وفي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قلبي يمتلئ بغضًا له واحتقارًا. قال: وكنت أجيء لزيارتكم فأجده يقرأ في صحيح مسلم مع بعض الإخوان. فترجع نفسي قائلة لعلها وساوس وليست عقائد” ـ الرد القويم ص 11.
لقد ساير القصيمي شكوكه حتى أوصلته لقناعة الانسلاخ من عقائده السابقة، واعتبارها ماضيا مأسوفا عليه حال بينه وبين النظر إلى الحياة نظرةً متجردة من كل نوازع النفس وإرث المعتقدات، يقول في إحدى خواطره: “إن ذكرى تفيض بالمرارة والحسرة تعاودني كلما مر بخاطري عصر مشؤوم قضيته مسحورا بهذه الآراء – يقصد الدين – وكنت أفر من الحياة ومما يعلي من قيمة الحياة، فقد كنت لا أجد ما يحملني على أن أرفع قدمي لو علمت أني إذا رفعهتما تكشف ما تحتها عن أعز ما يتقاتل عليه الأحياء”.
فلم يكن تحول القصيمي وانقلابه على عقيدته السلفية الوهابية نتيجة عقد نفسية، ولا عمالة لجهة أجنبية، ولا غرورا متأصلا في النفس، ولا مسايرة لموضة التيارات الفكرية في عصره كما يُشَنِّعُ عليه خصومه من الإسلاميين؛ لكنه كان تحولا كتحول الفيلسوف سبينوزا عن اليهودية إلى التحرر من كل الأفكار الدينية… تحولٌ جاء نتيجة قراءته للتراث الإسلامي قراءة فاحصة متبصرة، ألهمته في نهاية المطاف كتابة سِفره الأول: “هذه هي الأغلال”، الذي أعلن فيه عن فكره الجديد دون إخفاء أو مواربة، ثم تلته مجموعة من الكتب كـ: “الإنسان يعصي، لهذا يصنع الحضارات”، “فرعون يكتب سفر التاريخ”، “هذا الكون ما ضميره؟”، “أيها العار إن المجد لك”، “كبرياء التاريخ في مأزق”، “لئلا يعود هارون الرشيد مرة أخرى”… وغيرها من الكتب التي ناقش فيها الإلهيات والنبوات والفقه والعروبة والقضايا الوجودية الكبرى بعبارة متحررة من كل القيود.
وكما كان عند تديُّنِه قاسيا في انتقاد خصومه، كان صريحا عند تحرره في مخاطبة المقدسات، ونقاش الثوابت، وامتلك شجاعة قل نظيرها في عصره للشك ومساءلة كل القضايا الكبرى.
… في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة نتابع، ردة فعل التيارات الإسلامية من تحول القصيمي…
الحلقة الأولى: سلسلة ــ عبد الله القصيمي: من السلفية إلى الشك 1/4
الحلقة الثالثة: سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. ردة فعل التيارات الإسلامية من تحول عبد اللـه القصيمي 3/4
الحلقة الرابعة: سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. هكذا تكلم عبد الله القصيمي 4/4
مقالات قد تهمك:
- صادق جلال العظم: أبرز العلمانيين “العرب”! 1\2
- صادق جلال العظم: المفكّر الذي هدّ يقينيّات الفكر الديني! 2\2
- من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟
- إخَوان الصّفا… هذه حكايةُ رواد الفكر التنويري في التراث الإسلامي! 1\4
- إخوان الصفا… رفع الطّلاق بين الشّريعة والفلسفة! 2\4
- ابن السيد البطليوسي ومحاولتهُ التوفيق بين الفلسفة والدين
- جورج طرابيشي… أن تنذر حياتكَ لإيقاظ العقل العربي
- أبو حيان التوحيدي: كتب بجرأة كبيرة وانتهى إلى حرق معظم كتبه