المثلية في دار الخلافة الإسلامية: الخليفة الأمين ومعشوقه كوثر - Marayana - مرايانا
×
×

المثلية في دار الخلافة الإسلامية: الخليفة الأمين ومعشوقه كوثر

ذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه الكبير، أنّ كوثر خادم الأمين خرج “لينظر الحرب أيام محاصرة طاهر بن الحسين وهزيمة بن أعين لبغداد، فأصابه سهم غرب فجرحه، فدخل على الأمين وهو يبكي لألم الجراحة، فلم يتمالك الأمين أن جعل يمسح عنه الدم”، ويقول:
“ضَربوا قُرَّةَ عيني/ ومِنَ أجلي ضَرَبُوهُ
أَخَذَ الله لِقَلبي/ مِن أُناسٍ أَحرَقُوه”.

“يا قاتل الرجل البريء وغاصباً عزّ الملوك…

كيف السبيل للثم سالفتيك أو تقبيل فيك

الله يعلم أنني أهوى هواك، وأشتهيك

وأصدّ عنك، حذار أن تقع الظنون عليّ فيك”

ترد هذه الأبيات في كتب التّاريخ، على أنها موجهة للخليفة العباسي محمد الأمين (787-813 هـ.). لكن، لماذا كتب أبو نواس هذه الأبيات مخاطبا الخليفة؟ هل كان الخليفة الأمين مثليًّا؟

تقول كتب التاريخ، إن الخليفة الأمين كان يسبح مع أبي نواس في بركة، بعد أن احتسيا ما تيسّر من الخمر، ويشاع أنّ الأمين اشتد غضبه على النواسي وقرر قتله، فطلب الأخير عطفه توسّلا بهذه الأبيات. غير أنّ طه حسين يعتبر، في كتابه “خصام ونقد”، هذه الحكاية افتراء وتحاملا على أبي نواس.

بالمقابل، لماذا شاع في كتب التاريخ، كثير من الحديث عن مثلية الخليفة الأمين؟ وإذا كان المؤرّخون عرفوا أساسا بمناصرة الخلافة، كيف “تجرّأوا” على تجاوز “قيمة” خليفة المسلمين؟ هل فعلا جرى “التشهير” بالأمين لأن المأمون انتصر في النهاية، وأصبح ضروريا “اغتيال” مكانته الرمزية وقيمته كخليفة للمسلمين؟

عموما، ثمّة إجماع، تقريبا، على أنّ الخليفة الأمين كان لعوبا ومحبًّا شرسا للحياة، رغم صحّة إسلامه وسلامة عقيدته، كما قال الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء”.

فما قصّة هذا الخليفة المثير لكثير من الجدل.

الخليفة الأمين؟

يقول السيوطي في كتابه “تاريخ الخلفاء”، إنّ “الأمين محمد أبو عبد الله بن هارون الرشيد، كان ولي عهد أبيه، فولي الخلافة بعده، وكان من أحسن الشباب صورة، أبيض، طويلًا، جميلًا، ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة معروفة.

يقال: إنه قتل مرة أسدًا بيده، وله فصاحة وبلاغة، وأدب وفضيلة، لكن كان سيئ التدبير؛ كثير التبذير، ضعيف الرأي، أرعن، لا يصلح للإمارة، فأول ما بويع بالخلافة أمر ثاني يوم ببناء ميدان جوار قصر المنصور للعب بالكرة، ثم في سنة أربع وتسعين عزل أخاه القاسم عما كان الرشيد ولاه، ووقعت الوحشة بينه وبين أخيه المأمون”.

السيوطي يضيف كذلك إنّه قيل: إن الفضل بن الربيع علم أن الخلافة إذا أفضت إلى المأمون لم يبقِ عليه، فأغرى الأمين به، وحثه على خلعه، وأن يولي العهد لابنه موسى، ولما بلغ المأمون عزل أخيه القاسم قطع البريد عن الأمين وأسقط اسمه من الطرز والضرب، ثم إن الأمين أرسل إليه يطلب منه أن يقدم موسى على نفسه، ويذكر أنه قد سماه الناطق بالحق، فرد المأمون ذلك وأباه، وخامر الرسول معه، وبايعه بالخلافة سرًّا، ثم كان يكتب إليه بالأخبار ويناصحه من العراق.

ولما رجع وأخبر الأمين بامتناع المأمون، أسقط اسمه من ولاية العهد، وطلب الكتاب الذي كتبه الرشيد وجعله بالكعبة، فأحضروه ومزقه، وقويت الوحشة، ونصح الأمين أولو الرأي، وقال له خزيمة بن خازم: يا أمير المؤمنين، لن ينصحك من كذبك، ولن يغشك من صدقك، لا تجرئ القوّاد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا بيعتك وعهدك، فإن الغادر مغلول والناكث مخذول، فلم ينتصح، وأخذ يستميل القواد بالعطاء، وبايع العهد لابنه موسى، ولقبه الناطق بالحق، وهو إذ ذاك طفل رضيع، فقال بعض الشعراء في ذلك:

أضاع الخلافة غش الوزير … وفسق الأمير وجهل المشير

لواط الخليفة أعجوبة … وأعجب منه حلاق الوزير

تداول الكثير من المؤرخين مثلية الخليفة الأمين، حتى أنها اعتبرت حقيقة تاريخية متداولة، فنجد عند الطبري وابن الأثير ما مفاده أنّ الخليفة الأمين فضل الغلمان على النساء.

يقول الطبري: “لما ملك الأمين وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سماهم الجرادية، وفرضاً من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء، حتى رمى بهن”.

من الردود المعاصرة، التي دافعت عن الخليفة أنّ “هذه الرواية ليس فيها تصريح بالفاحشة؛ فغاية ما فيها أنه اكتفى بهم في خدمته دون النساء، ثم إن هذه الرواية لا تتوافق، بل تعارض سائر الأخبار عن سيرته أثناء ملكه، حيث كان ذا زوجة وولد، وكانت تظهر الجواري في خدمته ولهوه، ولما ماتت جاريته أم ولده حزن عليها حزنا شديدا، وكذا ما روي من إنكاره على أبي نواس الشاعر”.

اشتهر الأمين باللّهو واللعب وحبّ الحياة، فتخبرنا مصادر التاريخ أنّ الخليفة الأمين شغف بلعبة الشطرنج شغفاً شديدًا، وكان، حينئذ، مولعاً بها غاية الولع. خضر موسى محمد حمود، يقول في كتابه الشطرنج والنرد في الأدب العربي، إنّ هذا الخليفة “حشد في بلاطه النابغين والمتميزين من مختلف أرجاء إمبراطوريته مترامية الأطراف، غمرهم بالعطاء، وقد عَدّ أجمل ساعات حياته تلك التي كان يقضي في متابعة معارك الشطرنج ومزاولة الشطرنج بنفسه”.

يرد في ذات الكتاب، أنه حينما حاصرته جيوش أخيه المأمون وهو بقصره في بغداد وكانت المعارك العنيفة دائرة الرّحى في ضواحي المدينة وعلى أسوارها، جاءه من ينذره بالخطر المحدق به، وكان الرسول مأخوذًا بالرهبة والخوف من هول تلك الحرب، ولكن الدهشة عقدت لسانه عندما رأى الخليفة غارقاً في التفكير أمام رقعة شطرنج! وصرخ الرجل: (يا أمير المؤمنين أتوسل اليك أن تسرع ليس هذا وقت اللعب) ولكن الخليفة الأمين كان مستغرقاً في التفكير بمعضلات الشطرنج فقال- دون أن يرفع عينيه عن الرقعة: (صبرًا صبرًا فإني أتوقع الفوز بعد بضع نقلات).

كوثر… دين الأمين ودنياه!

عرف الأمين بحبّه وولعه بغلامه الذي يسمّى كوثر. وتشير كتب التاريخ أنه كان وسيمًا، وسكن فؤاد الخليفة، الذي استبدّ به حبّه وشوقه له.

تقول معظم المصادر التي تحدثت عن علاقة الأمين بكوثر، إنه كان غلامه المدلل الذي تصله طلباته “قبل أن يرتدّ إليه طرفه”. فنجد عند الأصفهاني في الأغاني أنّ شاعراً اسمه علويه، كان من خدم الأمين، غير أنّ أنباءً وصلت بتقرّب “علويه” من المأمون، العدو اللذوذ لشقيقه الأمين. حين عرف أمر “علويه”، “أمر به فضرب خمسين سوطاً وجر برجله وجفاه مدة حتى ألقى نفسه على كوثر فترضاه له ورُدّ إلى خدمته وأمر له بخمسة آلاف دينار”. هذه الرواية، تكفي لنعرف كيف كان قول كوثر خلاصا معبّراً لـ”علويه”.

هكذا، شاعت “مثلية” الخليفة الأمين، حتى أن الأشعار التي كتبت عن عشقه للغلمان تداولت بكثرة حتى بلغته. بيد أنّ ما يثير في الروايات، أنّ الخليفة لم ينكر، ولم يفند الأنباء الرائجة، بل كل ما قام به أن أكّد عشقه لكوثر في أبيات شعريّة:

“ما يُريدُ النّاسُ مِن صَبـ/ بٍ بمَن يهوى كَئِيبِ

كَوثرٌ دِيني ودُنيا/ يَ وسُقمِي وطَبيبي

أعجَزُ النّاسِ الذي يلـ/ حى مُحِبّاً في حبيبِ”.

يحكى أنّ والدة الأمين، زبيدة الهاشمية، كانت منزعجة من الأخبار “الصحيحة” التي بات الجميع يعرفها عن نجلها خليفة المسلمين وميوله المثلية، فسلكت طريقا مختلفا، حيث جلبت له “غلاميات”، وهن نساء عملت أم الخليفة على قصّ أشعرهنّ وجعلت شكلهنّ يبدو كغلمان ليُثرنَ الأمين، لكنّه لم يكترث بهن… وعاد إلى كوثر، “حبّه” الخالص. يقال عن هؤلاء الغلاميات إن الشاعر أبا نواس بصر إحداهنّ، فأنشد في الحين: “غُلامِيَّةٌ في زِيِّها بِرمَكِيَّةٌ / مُزَوَّقَةُ الأَصداغِ مَطمومَةُ الشَعرِ”.

لم تدم علاقة الأمين بكوثر طويلاً، فحين بدأت الحرب واقعيًّا، واقترب المأمون من غزو بغداد، عاصمة الخلافة وقتها، لم يجلس الأمين في قصره، بل خرج ليقاتل شقيقه. في أرض المعركة الدائرة بين الجيشين، خرج كوثر من خيمة يقال إنها تجمعه بالخليفة المأمون، ليعاين الأمور ببصره عن كثب.

وذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه الكبير، أنّ كوثر خادم الأمين خرج “لينظر الحرب أيام محاصرة طاهر بن الحسين وهزيمة بن أعين لبغداد، فأصابه سهم غرب فجرحه، فدخل على الأمين وهو يبكي لألم الجراحة، فلم يتمالك الأمين أن جعل يمسح عنه الدم”، ويقول:

“ضَربوا قُرَّةَ عيني/ ومِنَ أجلي ضَرَبُوهُ

أَخَذَ الله لِقَلبي/ مِن أُناسٍ أَحرَقُوه”.

ثم ارتج عليه، فاستدعى الفضل بن الربيع، وأمره بإحضار شاعر يجيز البيتين، فاستدعى لذلك عبد الله بن محمد بن أيوب التيمي، وأنشدهما له فقال:

“ما لمن أهوى شبيه/ فبه الدنيا تتيه

وصله حلوٌ ولكن/ هجره مرٌّ كريه

من رأى الناس له/ فضلاً عليهم حسدوه

مثل ما حسد القا/ ئم بالملك أخوه”.

فقال الأمين: أحسنت والله.

قتل الأمين، وقيل إنه جرى التمثيل بجثّته بأمر من طاهر بن الحسين، وهو المصير ذاته الذي لحق بغلامه كوثر…

هكذا، عاش الأمين وكوثر، في الحياة الدنيا بمتاعها ولذاتها، وهكذا كان مصيرهما المشترك… مأساويًّا.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *