“وأنا أود النوم، كنت أتمنى ألا أستيقظ مجددا”: شهادات مغاربة فكروا في الانتحار - Marayana - مرايانا
×
×

“وأنا أود النوم، كنت أتمنى ألا أستيقظ مجددا”: شهادات مغاربة فكروا في الانتحار

داخل كلّ منًّا، ربما، فكرة انتحارية راودته في لحظة ضعف شديد من مسارات الحياة. لكن، هل تلك الرغبة في الموت حالة طبيعية تحاكي حقيقة الإنسان؟

هناك حالات كثيرة استمرت لديها هذه الرغبة المقيتة بالموت، فبلغت بها حدًّا لم يعد محتملاً. لذلك، قد يساعدنا الدخول إلى هذه الورشة، من خلال شهادات حقيقيّة، في تشخيص مراتب الرغبة في الموت… التي قد تتحوّل إلى انتحار.

طبعا، هؤلاء المغاربة، الذين يتحدثون إلينا، هنا، هم محظوظون، لأنّ رغبتهم في وضع نقطة نهاية للحياة لم تترجم إلى نهاية وجودية كانت مفترضة. لكنهم، بالمقابل، يقدمون صورة سيكولوجية عن أوضاع غير مرئية وغير محسوسة، لكنها تخرّب صورتهم في العالم.

رشيد: لولا الوالدة… لكنتُ ميتًا!

ظلّت فكرة الانتحار تراود رشيد (25 سنة) منذ سنة 2015، وعمّرت معه شهوراً طويلة.

في هذه السّنة، أدرك محدّثنا أنّه كبر، وأنّ الفقر الذي يعيشُه ليست لديه أيّة نهاية قريبة! يقرّبنا أكثر من شعوره: كنت أتحرج أمام أصدقائي، لأنني كنتُ أذهب معهم في فترة الدّراسة إلى منازلهم، لكنّ منزلنا كان قديمًا ورثًّا وصغيراً، ولم أستطع أن أجلب أحدا من أصدقائي لبيتنا. لا أحد منهم ولجه حتى يوم الناس هذا. كنت أفكر، فأجد أنّ بناء منزل يتطلب أموالاً طائلة.

لم يبح حينها رشيد لأيّ أحد بهذه الأشياء، لأنه كان يعتبرُ البوح بخيباته ضُعفا، كما يقول، ثمّ يضيف: كنت أتحسب أنه يمكن أن يعيّرك أحدهم، بما أسرّيته عنده، يوما ما. والدي توفي منذ كنت صغيرا، ووالدتي تحمّلت عناء تربيتنا، وكانت تشتغل منظفة في البيوت وتطبخ في الأعراس.

يفصل رشيد أكثر: يومًا بعد يوم، كانت الحياة تزداد سوداوية في عيني؛ بدأت أفكّر على نحو سلبيّ، أو لنقل عدمي، لا يؤمن بجدوى الغد. لم أعرف كيف المخرج من ذلك الضّجيج والتّفكير المفرط. كنت سأصابُ بالجنون. أصبح المصير مجهولاً، خصوصا حين بدأتُ أفهم أنّ أحلامي لن تتحقق بالمطلق مادامت الوسائل منعدمة.

غادر المتحدّث في النهاية الدراسة خلال الأولى باكالوريا، وذهب يشتغل، لكنه عاد بعد سنتين لينقطع مجددا. يقول عن ذلك: لم أعرف ماذا أفعل. كان كلّ شيء مجرّد فوضى. أردت أن أنتحر مرّة. انتهت قدراتي على تحمّل العيش بألم يوميّ. هذه المرة فكرت في تنفيذ الفكرة التي تراودني منذ شهور. كنتُ سأنتحر غرقا في أحد الأودية الخطيرة بمنطقتنا.

لكن… المفاجأة التي حدثت لرشيد كانت شعوريةً. يتحدث عنها بنفس دراميّ ومأساويّ: كانت ضحكة والدتي في تلك الليلة فقط سببا لأعدل عن الفكرة. بدأت أنظر من بعيد وهي تحضّر العشاء في المطبخ. بدأتُ أفكّر: غدا، حين تصلها الأخبار كيف ستكون؟ والدتي مريضة، هل سأكون أنانيا وأحرق قلبها وأتسبب لها في جلطة؟ كيف ستعيش من بعدي، وأنا الوحيد من أبنائها الذي كان يلازمها يوميا، بحكم كوني الأصغر سنًّا؟

نسلٌ من الأسئلة تغلب عليه المتحدث بالذهاب إلى المسجد، وفق ما يحكيه مردفا: صليت العشاء، وخرجت جلست في محيط فارغ أبكي وحيداً. عرفتُ أنّ الانتحار ليس حلاًّ، هو، طبعًا، حلّ للهرُوب من الآلام، لكنه لن يحلّ فقر والدتي وسيزداد وضعها سوءاً. قاومت حتى الآن، لم تتحقق أحلامي بعد مضي كلّ هذه السنين، بيد أني مستمرّ في هذه الحياة، لسبب وحيد: الوالدة.

إيمان: “كان الفناء أرحم!”

حين عرفت عائلتها “المحافظة جدًّا” بخبر علاقتها الغراميّة مع شاب بسنّها، أمعنت العائلة في عزلها وتهميشها، لدرجة أنه لمدّة من الزمن، لم يكن مرحبا بها على مائدة الطعام.

تقول إيمان (28 سنة) بغصّة: لقد بذلوا جهودا كبيرة لإذلالي وتجريدي من قيمتي داخل العائلة، كأنهم تبرّأوا مني. لشهر تقريبا وأنا معزولة في غرفتي أشاهدُ الأفلام وفي داخلي آلام كبيرة لا أحد يعلم حجمها. كان ممكنا أن يكون العقاب لفترة، لكنه طال كثيرا، وكان عمري 17 سنة وقتها. كنت أبكي بحرقة شديدة، رغم أنّ القلوب كلّها لم ترأف، حتى أحنّ القلوب إليّ، قلب جدّتي. هددوني بأنني سأمنع من الذهاب للمدرسة مجددا.

لا تخفي إيمان أن تفاقم الوضع أدى بها إلى انسداد الأفق وفقدان الرغبة في الاستمرار على وجه الأرض كليًّا.

توضح قائلة: دعني أكون صريحة، لقد تسربت إليّ هذه الفكرة وأنا أشاهد سلسلة أمريكية. بطلة السلسلة كانت تعاني أيضا من ضغط نفسي كبير. فانتحرت. مزّقت شرايينها داخل الحمام، فألهمني ذلك كثيرا. كان ذلك المشهد شيئا يدعو إلى التفكير في ظرفية قاسية أعيشها مع عائلتي، التي بدأت أكره جميع أفرادها بدون استثناء؛ كلّهم تحالفوا ضدّي. وأنا أود النوم، أتمنى ألا أستيقظ مجددا. قررت أن أضرب عن الطعام حتى الموت، احتجاجا، بيد أنّ والدي كان حازما. كان يرغمني بالقوة على الأكل.

تختم المتحدثة: تكونت لديّ قناعة الانتحار في النهاية. قرّرت أن أغادر عالمًا لم يعد فيه شيء يُطاق. أحضرت سكينا في ليلة ما، وكنت سأنفّذ تلك الليلة. لكن، فجأة، تخوفت كثيراً، ولأسباب دينية. خفت أن أغادر جحيما نحو جهنّم مباشرة. أمسكُ السّكين لدقائق وأنا أرتجف. في الأخير توقّفت. خوف شديد استبدّ بي.

فكرتُ في الآلام، قبل أن أموت، هل سأتألّم كثيراً؟ ماذا لو صرخت وأخذوني للمستشفى، سيزداد الوضع سوءا مع عائلتي. أرجعتُ السّكين للمطبخ. بقيت تلك الليلة بكاملها أفكر في التنفيذ، لكنني خفتُ كثيرا. مضى وقت طويل ثمّ بدأت الأمور تتحسّن. الآن، وبعد كلّ هذه السنين أنا حيّة وأنا بخير مع عائلتي، وأحبهم. كانت فترة، لا أريد تذكرها، لكن يمكن أن يمرّ منها شخص آخر، وهي مجرد مرحلة أرجو ألا يستسلم أحدٌ لإغراءاتها الانتحارية الجارفة.

محمود: لم أعرف هل أحيا أو أموت!

يعود محمود (اسم مستعار – 26 سنة) إلى مرحلة تجاوزها، ليتذكرها بقوله: التفكير في وضع نقطة نهاية للحياة ارتبط جدليًّا بفترة صعبة، كنت أعيش فيها تيها نفسيًّا وتعباً روحيًّا. بدأت التجربة مع فترة ركود علمية ومهنية. كانت تجربة شرود وتيه بسبب ضنك العيش، قسوة المحيط وغياب مورد مادي قار، رغم التقدم في السن؛ قِصر يد الأسرة وأشياء كثيرة بدأت تتراكم عليّ، لتنتهي بالطاعة الفكرية لفكرة الفناء القاسيّة.

حين يغفو الجميع، يظلّ محدّثنا مستيقظا يفكّر ويبحثُ عن شيء ما، كان الأرق بالنسبة إليه قاتلاً، وكان برنامج النوم مقلوبا لديه رأسا على عقب. كان يفكّر أكثر مما يغفو، كما يقول.

يضيف محمود ضمن شهادته لمرايانا: كان جزء من محيطي الصّغير يعتقد أنها مجرد استيهامات أو تهيّآت، أو حتى صورا أصبو عبرها إلى استدرار العاطفة وجلب الانتباه، بيد أنّ الأشياء التي كنتُ أبحث عنها لم تكن موجودة، وانتظارها كان موجعا.

لم يستوعب المتحدث أنّه مُعطل بعد خمس سنوات من الدّراسة والجد والعمل الدّقيق؛ يقول: وجدتُ نفسي مضطرا لعيش حياة أكثر سوادا. فقدت لون الحياة، نحرتُ شغفي في البحث والدّراسة وصرتُ بلا مأوى، لأنّ شبح التّشرد يطاردني في كلّ وقت وحين، الجوع بدأ ينخر جسدي ومرض القولون العصبي تكالب عليّ، فخلّفا أزمة نفسيّة خانقة. صاحبُ الغرفة التي كنت أكتريها كانَ يزعجني بضرورة تسديد سومة الكراء. تكاليفُ العيش في مدينة كبيرة، صعوبة التنقل، و…أشياء كثيرة!

في الختام يخلص المتحدث: شيئا فشيئا، أعود لنفسي لأقول أنّ على هاته الأرض ما يستحقّ الحياة: قلب أمي، ابتسامة أبي، تضحية أصدقائي. لكن، صراحة كانت مرحلة التّحول والتّغيير أصعب من مرحلة العدم. كنت أحاول أن أقنع نفسي بضرورة البقاء وعدم الخنوع لوعود الخلاص عبر الموت.

لفترة وجد المتحدث نفسه في مواجهة شبح الحياة والموت في نفس الوقت. يقول: أحبّ الحياة، ولكني لا أحبّ الطّريقة التي أعيش بها مطلقا. قررت أن أعيش دون النّظر إلى المآل. فعلى الرغم من أن الحياة قاسية بشكل مخيف، ومليئة بالشعارات الخاوية وشتى أشكال الخذلان، إلاّ أنني قررت أن أقاوم غرورها وأنتزع منها لذة العيش. الآن، لا تهمّني مسألة النّهاية. سأعيش، فقط، على أمل أن تنصفني الحياة يومًا ما. وسأقاتلُ لذلك…

الرغبة في الموت ليست لعبة!

يقدم لنا الأخصائي النفسي، جواد مبروكي، تمييزا لهذه الرغبة في الموت، مقارنة مع الانتحار. من الملاحظ أنّ ثمة خلطٌ شديد بين الأمرين؛ في حين أنّ الرّغبة في الموت قد تكون فقط بداية الطّريق نحو الانتحار. فالذي يرغبُ في إنهاء حياته يكون ذلك تبعًا لظروف نفسيّة قاسيّة يعيشها، فيجد أن موته سيكون أفضل من استمراره في حياة مرّة تزيده أيامها مرارة كلّ صباح.

وهذه ليست أفكار انتحارية، لكنها أحاسيس، إذا تفاقمتْ على نحو مرضيّ، قد تُؤدي إلى الانتحار. صُعوبات وخيبَات وألم ومعاناة وقسوة، تتحول إلى اكتئاب، لكن في النهاية هذه الرّغبة في الموت لا تتمّ معالجتها سيكولوجيًّا كسلوك انتحاري.

أما بالنسبة للانتحار، يقول مبروكي في تصريح لمرايانا، يمكنُ القول مجملًا بأنه قناعة تصل بالمريض إلى درجة يعتقدُ أنّه لا حلّ فيها سوى الموت، ولا نهاية للعذاب إلاّ بالفناء عبر قتل نفسه. هذه لا يصلها المريض إلا بعد عدة مراحل من التفكير المفرط، وفي حالة الانتحار هذه يجب التمييز بين الانتحار الاندفاعي، والانتحار المبني على منطق وتفكير يقود إلى قناعة.

الانتحار الاندفاعي، يكون وليد اللحظة، بناء على هلع ما. أمّا الانتحار عن قناعة وبمنطق تفكير معين، فهنا لا يفصح المريض عن أفكاره الانتحارية. يخطط في صمت دون أن يدري أحد: يخطط لكيفية التنفيذ والزّمان والمكان، إلخ. قد يفكر في ترك رسالة مثلاً، أو يفكر كيف ينتحر دون أن يترك لعائلته مشاكلاً كيفما كان نوعها، بمعنى أنه انتحار لكنه مدفوع بمنطق وتفكير.

خطة التنفيذ تبقى سرا خاصا للمريض لا يتقاسمه مع أحد. وهذا النوع من الانتحار يكون ناجحا من حيث التنفيذ بنسبة 99%، لأن المريض أخذ ما يكفي من الوقت في عملية التّخطيط، ولا يمكن منع حدوثه. وكل عملية انتحارية أو أفكار انتحارية يمكن أن تطبّق، لذا وجب التعامل معها… بجدية كبيرة.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

  1. محمد الدرقاوي

    حين يدلهم أفق وتنسد الطرقات فلا يبقى غير ليل بهيم يطبق على نفس نخرها ضيق عيش ولايد تمتد بانصاف
    قد يحتمي يائس ببارقة نور من دين أو حنين طاغ لام أو أب أو يصده خوف يسكنه ولا يعرف له مصدرا
    كل هذا وغيره ليس حلا لنفوس ما انصفتها تربية ولا رعاها وطن او تنبهت لها حكومة وهي تهمل كل ضعيف بلاصوت من نفس إنسانية تريد حقها من رقعة أرضية تنهب بالليل والنهار ولا يقف لناهب بمرصاد ..
    عمى الجهل يقود الكل عن حقيقة نفوس لاتطلب أكثر من حقها في حياة بلا متابعة ولاضغط ولا تحكمات …ما تطلب انصافا وعدلا يوقف نهبا قد طال واستطال حتى صار أكبر واعقد من جذور الأرض امتدادا والتفافا ونهب ماء وتراب

  2. أزرو

    عندما فكرت في الانتحار كفكرة للضغط على الظالمين في بيئة عمل سامة بحوش بشرية حاسدة كيدية انقامية على النجاح وعلى التميز،. وقد سميتهم منذ ما يقارب 20 سنة باعداء النجاح واعداء التميز في قصيدة هجاء على سلوكهم الوضيع (الزملاء طبعا) رغم مهنتهم السامية وشواهدتهم العليا، ليصبح هذا التعبير اليوم متداولا والذي يعني “الحساد”، اخرتها من تجربتي واستعملته للتعبير عن الحساد تحاشا لهذا المصطلح كي ارفع المستوى،
    استطيع ان اكتب مقالا في الموضوع للنشر في صفحتكم، كشهادة في الموضوع، تحت عنوان “انتقال او انتحار” وهو شعار رفعته في آخر المطاف في وجوه اعداء النجاح واعداء التميز خلال الاجتماعات، اثر حفظ شكاياتي داخل المؤسسة ومنع اتمام مسارها عبر السلم الإداري الى معالي الوزير ، فكاتبته مباشرة، ثم زرته في وزارته وقابلني بعدما حكيت الأمر إلى مدير ديوانه الذي أخبرته على أنه أصبحت قضية الانتقال مفروضة لانني في منعطف “انتقال او انتحار”.
    فنزلت عندي معالي الوزير في قاعة الانتظار، وتدافع معه لانه هددني وانا في حالة نفسية يرثى لها، فهددته انا الاخرى برسالة من نوع آخر حكيت لها حمولتنا التاريخية، وختمتها ب فأصبح بلدنا يعبث به العابثين، فأمضى لي قرار طلب بالانتقال بالموافقة في أول زيارة لديوان بعد ذاك المدافع وتلك الرسالة، فنسف الانتحار حسب رأيه، لان إيماني كان أقوى من عملية شادة مثل هاته،.
    الشيء الذي استفدته من هذه المرحلة الحرجة التي عشتها وفرضت علي بعيدة عن اهلي…
    وفي الكلام بقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *