النقد “الإسلامي” للإسلام السياسي: الندوي ينسف حاكمية المودودي وسيد قطب - Marayana - مرايانا
×
×

النقد “الإسلامي” للإسلام السياسي: الندوي ينسف حاكمية المودودي وسيد قطب

بدأت الحكاية منذُ أصدر أبو الأعلى المودودي كتابه “المصطلحات الأربعة في القرآن”، الذي فسر فيه، من وجهة نظره، تلك المصطلحات القرآنية الأربعة التي يدور عليها الإسلام، والتي تقوم عليها تعاليمه ودعوته: الإله والرب والدين والعبادة.

لكن بداية المشكلة ارتبطت، جدليًّا، بتنظير المودودي لفكرة “إقامة الحكم الإسلامي” أو “إقامة الدين” على نحو جديد، وهو تنظير يقدم تفسيراً خاصا يتميز بالطابع السياسي ويدور حول “حاكمية الله” وسلطان الرب… بعده، جاء سيد قطب مع كتابه “معالم في الطريق”، ليكمل هذا المشوار.

أفرز ذلك فهما “محدودا” و”سطحيًّا”، دفع أبو الحسن الندوي، المفكر والداعية الإسلامي الهندي، للرد عليه، أو لنقل الردّ على شبهة “إسلاموية” توسّلت بآليات الدين الإسلامي نفسه، من خلال كتابه الصادر سنة 1978 بعنوان: “التفسير السياسي للإسلام” .

اختزالٌ لله في… حكم وسلطة؟  

من أوجه النّقد التي تمّ توجيهها للمودودي، الاقتصار على حاكمية الإله أو الربّ، وجعلها محور المصطلحات القرآنية الأربعة الأساسية وفكرتها المركزية الأساسية. أما “الدين” و”العبادة”، فهما، فيما يراه المودودي، مجرد طرق تؤدي إلى إقرار حاكمية الله. وهنا يحدث اختزال فكرة الله في حكم وسلطة.

يقول المودودي في هذا الشّأن: “أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة. سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكمٌ مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها؛ وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان، وهذا هو تصور السلطة الذي يجعله القرآن أساسا لما يأتي به من البراهين والحجج عن إنكار ألوهية غير الله وإثبات الألوهية لله تعالى وحده”.

يعلّق مؤلّف كتاب “التفسير السياسي للإسلام”، نسفا لهذه التّصورات باعتبارها مجرد مقولات محدودة تصرّح بأن حقيقة الرب هي السّلطة العليا، وأن العبادة أو العبودية عبارة عن طاعة هذه السلطة والامتثال لأمرها والإذعان التام لها. بهذا، يكون النبي هو النّائب والممثل عن هذا السلطان الأعلى، ويجب أن يطيعه الناس بوصفه هذا وحده!

لكن الندوي يعود ليؤكد أنّ سيد قطب انبهر بمضامين المودودي التي عبّر عنها في كتابه “المصطلحات الأربعة في القرآن”، بل ووافقه كل الموافقة في الآراء والأفكار التي يتضمنها، وقد جعل سيد قطب، أيضاً، “الحاكمية” أخص خصائص الألوهية.

حتى أنّ قطب اعتبر “الجاهليّة” التي سبقت البداية الجنينيّة للإسلام، مجرد صورة ساذجة، بمعنى أن عبادة الأصنام، التي قال الإسلام إنه جاء ليحاربها، لا تطرح لسيد قطب مشكلاً، بل المعضلة، وفق تصوره، أنّ الناس بدأوا يضعون قوانين ويحلون محلّ الله في هذا. إنه، ببساطة، بالنسبة لسيد قطب، تفسير سياسيّ… أكثر منه دينيّ.

يقول في كتابه معالم في الطريق: “هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية… وهي الحاكمية. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التّصورات والقيم، والشّرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله، وفيما لم يأذن به الله”.

بلغ “التطرّف” السياسيّ مع سيد قطب مداه، حسب الكاتب، حين اعتبر الأخذ بالقوانين الوضعية والخضوع لحكم البشر “عبادة” لغير الله.

يقول سيد قطب: “فالناس في كل نظام غير النظام الإسلامي يعبد بعضهم بعضا – في صورة من الصور- وفي المنهج الإسلامي وحده يتحرر الناس جميعا من عبادة بعضهم لبعض، بعبادة الله وحده، والتلقي من الله وحده، والخضوع لله وحده”.

هذا التفسير السياسي الخالص، الذي يجعل “الحاكمية” أهم عناصر “الألوهية” وفكرتها المركزية، يعتبرالتحاكم إلى قانون من القوانين البشرية، في أي شأن من شؤون الحياة، مخالفةً للدين، وإشراكا في الحاكمية… وهو إشراك يرادف عند المودودي وقطب إشراكاً في الألوهية أو الربوبية!

الردّ على قطب والمودودي...

يرى الندوي أنّه ظهرت في مصر فئة تأثرت بهذه الكتابات وتطرّفت في التمسّك بهذه الفكرة وهذه المغالاة، وفهموا الدين بهذا المنظور السياسي الضّيق، ما أدى إلى إفراغ عمليّة التدين من محتواها الروحي وأصبح الإسلام مجرد دعوة سياسية، لأغراض دنيوية أكثر من أن تكون دينيّة.

يستشهد الندوي بحسن الهضيبي، الذي شغل منصب المرشد العام الثاني لجماعة “الإخوان المسلمون”، قبل أن يدخل في مراجعة كان عنوانها كتابه “دعاة لا قضاة”، وسعى فيه إلى نقد هذه النفحة السياسية الطاغية، والساعية إلى تطويع الإسلام بنوع من المغالاة، وسعى على نحو حثيث للحدّ من خطورتها على تماسك المجتمع في تلك الفترة.

يقول الهضيبي ردا على من يختزل الألوهية في الحاكمية: “وقد توهم البعض أن قائل تلك المقالة يرى استحالة أن يأذن الله تعالى للناس أن يضعوا لأنفسهم بعض التنظيمات أو التشريعات التي تنظم جانبا من شؤون حياتهم”.

في محاولته لدحض القول الذي قال بعدم مشروعية ولا شرعية أن يضع البشر قوانين، يرى الهضيبي أن “الله عز وجل قد ترك لنا كثيراً من أمور دنيانا، ننظمها حسبما تهدينا إليه عقولنا في إطار مقاصد عامة وغايات حددها لنا سبحانه وتعالى وأمرنا بتحقيقها، وبشرط أن لا نحل حراما أو نحرم حلالاً، ذلك أن الأفعال في الشريعة إما فرض أو حرام أو مباح”.

حسن الهضيبي، الذي يستشهد به الندوي، يفند أيضا، ما ذهب إليه المودودي وسيد قطب، بخصوص وضع تشريعات من قبل البشر. يضرب لهم المثل بقوانين السّير، ويعتبرُ أنه لو تركنا أمر السير في الطرقات العامة بالمركبات والسيارات والدراجات، وغيرها من وسائل النقل، من غير تنظيم وقواعد يلتزم بها الكل، بذريعة أن ذلك ليس من عند الله، فإن في ذلك تعريض لحياة الناس للخطر وممتلكاتهم للهدر.

ويقول أيضا، باعتماد ردود دينية إسلامية على مقولات دينية “إسلاموية”: “لا يجوز لأحد أن يزعم أن تشريعات تنظيم المرور في هذه الحالة من تشريع الله تعالى عز وجل، إنما هي من تشريعنا واجتهادنا تنفيذا لقصد عام أمرنا الله به، وهي تشريعات وقوانين تتبدل وتتغير حسبما تقتضيه الحاجة بتغير وسائل المواصلات”.

الحاكمية… عبادة؟  

يقول الندوي إن العناية الفائقة التي أولاها المودودي وسيد قطب للحاكمية، ورفعها لدرجة العبادة، جعلتهما يظهران وكأنهما في محل استخفاف بالعبادات الأخرى المشروعة في الدين، كالصلاة والزكاة والصيام والحج والذكر.

المودودي يقول، مثلاً، وهو يتحدّث عن عناصر العبادة: الولاء للسّيد، والطاعة له، وتعظيمه… ويقرر أن هذه الأمور الثلاثة هي التي عبر عنها الله سبحانه بكلمة “العبادة” الجامعة. وكأن العبادة تحولت من الاتجاه نحو الله إلى التضرع للسيد.

من أخطاء التفسير السياسي الذي تزعمه المودودي وقطب، أنه تتملكهما نفسيًّا هذه “الفكرة المركزية”، وتستولي عليهما استيلاء يجعل جميع العبادات الإسلامية، وخصوصا ما يعتبر منها من أركان الإسلام: الصلاة والصيام والزكاة والحج، تبدو وكأنها مجرد وسائل وذرائع إلى تلك الغاية، وتدريبا لها، وتمرينا لها، وتمرينا عليها، كما يقول الندوي.

المودودي صرح بذلك كثيرا في كتاباته. هنا يقول، مثلاً: هذه هي الغاية التي من أجلها فرض الإسلام عبادات الصلاة والصوم والزكاة والحج، والتعبير عنها بالعبادة لا يعني أنها هي العبادة ليس غير، بل معنى ذلك أنها تعد الإنسان لتلك العبادة، فكأنها مقررات تدريبية لازمة لها”.

هذه المقولة تشير بوضوح إلى أن هذه العبادات المشروعة، وفق التصور الديني، كالصلوات الخمس، هي في الواقع وسائل بالنسبة للمودودي تقود نحو غاية أخرى: هي الطاعة وتأسيس الحكومة الإلهية، واعادة التنظيم إلى الحياة، وهذا في وقت نرى أنّ الفكر الديني يعتبر الصلاة غاية في حد ذاتها.

لذلك، يعتبر الندوي في النهاية أنّ هذا المنهج من التفكير، وهذا الأسلوب الكتابي، ظاهرة خطيرة على الفهم الديني، وستنعكس سلبًا على الذين يستقون معلوماتهم الدينية من نبع هذا التفسير السياسي للإسلام حصراً، أو من قد تقتصر دراستهم للإسلام على هذه الكتابات وحدها.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *