حسن الحو: مدننا الحديثة وبداوتنا المزمنة - Marayana - مرايانا
×
×

حسن الحو: مدننا الحديثة وبداوتنا المزمنة

التحضر ليس رديفا للسكن بالمدن الذكية، بل حيث ما وُجِدت شروطه اعتُبر المجتمع متحضرا، حتى ولو كانت قرية نائية في أقاصي القطب الشمالي بكندا، أو مدينة بسيطة في الجنوب الإيطالي؛ وهذا ما تعكسه موجات الهجرة الشرعية وغير الشرعية للشباب العربي، الذي يفضل صقيع كندا على العيش في المدن العربية الذكية، وما ذاك إلا لتوافر شروط التحضر الرافع من قيمة الإنسان وحقوقه.

المدينة والتمدن، الحضارة والتحضر… كلها مفاهيم تدل على ما وصلت إليه الإنسانية، في سعيها الحثيث للخروج من طابع البداوة والبدائية، إلى رفاهية المدَنية الحديثة.

التحضر، قبل أن يكون عملية اجتماعية، هو في أصله، نتاج للتطور البيولوجي والإنسان العاقل Homosapien، الذي هو تتويجٌ لكل أنواع البشر الذين سبقوه، وتميز عنهم بالاختلاف في الشكل المورفولوجي وكيفية استغلال وتسخير الطبيعة.

قبل اكتشاف الإنسان للأديان، بصيغتها المهيمنة التي ظهرت مع الديانات الابراهيمية، كان التحضر في مدن العالم القديم، متحررا من القيود التي تمنعه من الإبداع والرقي بالإنسان الى مستويات حضارية، تجعل العيش بالمدن مجالا لإنتاج القيم الإنسانية والأعراف الاجتماعية التي أسست للتعددية الدينية، ومكنت النساء من سياسة الدول، ورفعت مكانة العقل لإنتاج المعرفة والنزوع للتفلسف.

لولا ظهور تعاليم الكهنوت الديني التي كبحت مسيرة التحضر وحقَّرت مكانة العقل، لاختصرت البشرية قرونا من الزمن لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم؛ والبشرية المقصودة آنفا، عمومٌ يُراد به خصوص العالم الغربي ومَن يدور في فلكه ويستلهم قيمه الحضارية، وليس المنطقة العربية التي لاتزال بعيدة جدا عن مفهوم المدينة والحضارة.

فهل يعكس ما تعيشه بعض الدول العربية من رفاهيةٍ وبنية تحتية متقدمة عمليةً تحضُرِية عريقة؟ أم أن الأمر مجرد استيراد مظاهر الحضارة جاهزةً لبناء مدن الملح ؟؟!

وهل المدن الذكية بالدول العربية، وخاصة دول الخليج، يعيش فيها إنسانٌ ذكي مساهم في بناء الحضارة منفتح على إفرازاتها… أم أن التمدن لا علاقة له بالتحضر على الإطلاق؟

بعد أن استطاعت أروبا رتق الفجوة الزمنية بين عملية التحضر التي باشرتها المدن القديمة، وبين عصر الأنوار وإلزام الكهنوت الديني مكانته الطبيعية، استُأنِفت مسيرة التحضر من جديد، وبناء المدَنية الحديثة على الأسس التي أنتجها فلاسفة اليونان، والسعي لتحديثها والتوسع لإنتاج قيم أخرى أكثر ثراءً وتجردا؛ فالديمقراطية والتعددية وثقافة الحقوق والحداثة وما بعد الحداثة، وإيلاء أهمية للفنون والتيارات الفكرية والفلسفية المختلفة… كلها أسسٌ للحضارة الغربية، تم ترسيخها عبر سنوات من البناء، وتأطيرها بقوانين تمنع انتهاكها، لتكون منطلقا لبناء قيم أخرى، في عملية اشتقاقية هدفها الرفع من الانسان وصيانه حقوقه.

عندما كانت الجامعات في العالم المتحضر تؤسس لمناهج العلوم المادية والإنسانية، وعلماؤها يحاولون شطر الذرة وسبر أغوار الكون، كانت الدول العربية قابعة في فكر القرون الوسطى، منغلقة على نفسها بفتاوى الشيوخ، جاعلة من الدين منطلقَ الحياة ومنتهاها.

تَدَّيُنٌ أغلق كل منافذ الضوء التي يمكن أن تنير ظلام القيم القبَلية، وألغى حرية العقل ليفكر خارج إطار النص، وأوقف عقارب الزمن عند القرون الوسطى، بكل حمولتها الثقافية وسذاجتها المعرفية.

مع أول احتكاك بالثقافة الغربية، الساعية لبسط نفوذها الاستعماري، فتح ذلك العربي، الذي فاته قطار التحضر، عينيه على إنسانٍ آخرَ مختلفٍ عنه في لباسه ومركبه وسلاحه وأنماط سلوكه الاجتماعي. صدمةٌ ثقافية ستخلط أوراق الشعوب والحكام في المنطقة، وستطرح أسئلة عميقة تُسائل الوعي والتاريخ والدين… لكن، سرعان ما تَم تجاوز كل تلك الأسئلة، لفشل الحركة التنويرية في الاستقطاب والبناء، وهيمنة الأصولية الدينية التي اتخذت موقفا مناوئا لكل القيم المخالفة للتراث الديني وعادات القبيلة، واكتفت بالتنظير للمجتمع الإسلامي الفاضل، الذي تتجاوز قيمه المطلقة، ذات المصدر الإلهي، كل القيم الإنسانية المستحدثة، معيدةً إقفال قوس الانغلاق والعزلة الحضارية، بدعمٍ من السلطة السياسية الحاكمة.

استبدادٌ سياسي وديني، اكتفى باستيراد مظاهر الحضارة، وبناء المدن الحديثة، وتقليد الانسان الغربي في العادات الاجتماعية، معتقدا بذلك أنه لا يقل شأنا عن العالم المتمدن والمتحضر. هذا الخلط ناتج عن عدم فهم العلاقة بين المفهومين ، فبناء المدن الحديثة واستيراد آخر صيحات التكنلوجية الحديثة، لا يعني أن هناك عملية تحضُرية تسائل أسباب التخلف، وبناء المؤسسات السياسية لا يُعبر بالضرورة عن وجود مناخ ديمقراطي سليم قطع مع عادات شيخ القبيلة المتحكم في كل شيء، واقتناء هاتف ذكي لا يستلزم أن يكون مالكه ذكيا، فليس كل متمدنٍ متحضرا…

إن هذا الغبش في التفريق بين التمدن والتحضر، هو الذي جعل الدول العربية منغلقة على نفسها، مستهلكة لمظاهر الحضارة غير مساهمة في إنتاجها، تقبل بالنتيجة وترفض العوامل المؤدية إليها، تبني مدنا ذكية فارغة من روحها الحضارية.

المدينة، باعتبارها مجالا للتفاعل بين عمليتي التحضر والتمدن، هي “الكائن الحي” كما يعرفها المعماري السويسري le Corbusier، وهي مجرد “فكرة” كما يقدمها سوسيولوجياً  مصطفى الخشاب.

المدينة هي تتويج للحضارة الانسانية وأسمى مظاهرها. هي الأبراج العالية والخدمات الرقمية والمواصلات السريعة، وهي كذلك الذوق والحكامة والعلمانية وحركات التمرد النسوية، هي المتاحف والمسارح ودور السينما، وهي المساجد والكنائس والحانات، هي الميني-جيب والحجاب… ببساطة إنها الوعاء الكبير الذي يسع كل الاختلافات ويسعى لخلق مزيدٍ منها.

فهل مدن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستحق أن تُسمى مدنا أم أنها مجرد تكدسات لتجمعات بشرية؟!!

وهل يُعتبر ساكن المدن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إنسانا متحضرا، وهو لازال حاملا لأنماط السلوك البدوية والوحشية؟!!

يقول ابن خلدون: “إن العرب إذا تغلبوا على أوطانٍ أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خُلُقاً وجِبِلَّة. وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحُكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له”.

هذا التوصيف الغارق في البداوة، ليس عنصرية ضد العرب، ولكنه وصف ينطبق على كل الأمم المنغلقة على نفسها لاعتبارات دينية أو عرقية، وهي أوصاف ملازمة للأفراد حتى وإن سكنوا الأبراج العالية ولبسوا آخر صيحات الماركات العالمية، فالتحضر عقلية واعية وسلوكيات اجتماعية متحررة، وتنظير للمستقبل ويقظة دائمة لصيانة الحريات.

التحضر، بهذا المعنى، ليس رديفا للسكن بالمدن الذكية، بل حيث ما وُجِدت شروطه اعتُبر المجتمع متحضرا، حتى ولو كانت قرية نائية في أقاصي القطب الشمالي بكندا، أو مدينة بسيطة في الجنوب الإيطالي؛ وهذا ما تعكسه موجات الهجرة الشرعية وغير الشرعية للشباب العربي، الذي يفضل صقيع كندا على العيش في المدن العربية الذكية، وما ذاك إلا لتوافر شروط التحضر الرافع من قيمة الإنسان وحقوقه.

التحضر، كقيمة اجتماعية وذهنية متفاعلة، وسلوك إنساني، سيظل يجافي المجتمعات العربية، مادامت قد استوردت جزء من المدَنية الحديثة، وأهملت الجزء الأهم… الذي يعتبر المؤشر الرئيس لحيوية المجتمعات ونزوحها لبناء حضارتها بمعزل عن سطوة الدين وأعراف القبيلة.

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *