مدننا: ذاك الخراب الساكن فينا ليل نهار - Marayana - مرايانا
×
×

مدننا: ذاك الخراب الساكن فينا ليل نهار

درسنا في مقررات الجغرافيا لسنوات السبعينات أن سكان المغرب الحضريين لا يشكلون إلا 17% من مجموع الساكنة. ثم فاجئتنا لجنة الفيفا سنة 2006 بتقريرها الذي لا يرى بالمغرب سوى خمس …

محمد كاوي

درسنا في مقررات الجغرافيا لسنوات السبعينات أن سكان المغرب الحضريين لا يشكلون إلا 17% من مجموع الساكنة. ثم فاجئتنا لجنة الفيفا سنة 2006 بتقريرها الذي لا يرى بالمغرب سوى خمس مدن متفاوتة الأهمية :الدار البيضاء، الرباط، مراكش، طنجة وأكادير، مقصية بذلك مدنا تاريخية كفاس، مكناس، آسفي والجديدة.

المعايير المعتمدة بطبيعة الحال هي غربية، لكنها تعتمد على مقاييس علمية وتقرن تعريف المدينة بشروط يكون في غيابها أي تجمع سكني، مهما كان حجمه، مجرد قرية كبيرة.

لكن، يبدو أن مهندسي المدن المغربية، الحديثو  العهد بثقافة المدينة، يتجاهلون هذه الشروط،  أو أسوأ من ذلك، يجهلونها.

اقرأ أيضا: من فرنسا، مريم مروازي تكتب: آسفي، المطلقة بالثلاث

 من يتذكر شعار: “الدارالبيضاء تتنظم”، الذي أطلقته السلطات المغربية بداية الثمانينيات، يتذكر حتما أزمة المدينة آنذاك: مدن صفيح في كل الجهات، محاور طرقية غير منظمة، نظافة منعدمة وأحياء معزولة رغم وجودها بقلب المدينة…

فتحت الأوراش واخترق الطريق السيار المدينة وتم تعويض بعض مدن الصفيح بمدن إسمنتية زادت من مشاكل الساكنة دون تحسين المشهد الحضري.

فئة قليلة من مسيري المدن تفهم أن المدينة ليست فقط تكتلا سكنيا؛ لكنها مضطهدة من طرف أغلبية سياسوية تنتعش في العشوائية والهشاشة التي تخلقهما لغرض في نفس يعقوب

تم حينها تشخيص المشكل في الهجرة القروية، وراجت شائعات حول نية الإدارة في تنظيمها، ولِم لا منعها. أصبحنا، ونحن صغارا، نسب من نزح إلى المدينة منذ عهد قريب، ونعرف بعضنا بأصول عائلاتنا. عدو المدينة والمسؤول عن مرضها هو “العروبي” أو “الجبلي” او “الكربوز”.

بطبيعة الحال، فإن هذه الثقافة لها من يرعاها ويؤسس لها. على مستوى عال في مؤسسات الدولة، سمعنا سكان المدينة يوصفون بالرعاع والبدو غير القادرين على التمييز بين شرطي وشاوش ذي “شاشية”؛ والحال أن ساكن المدينة، إن كان فعلا كذلك، هو دليل واضح على فشل سياسة المدينة؛ إذ ما جدوى مدينة لا تتفاعل مع ساكنها لتطور عقليته وتدمجه في حضارتها؟

اقرأ أيضا: عمر لبشيريت : “الجزيرة” التي تحكم المغرب…

إن المعادلة التي لم تنجح إلى اليوم سياسة المدينة في تحقيقها، هي الموافقة بين الاجتماعي والقانوني. ظلت دائما تعالج أعراض المرض بارتجالية لتسكت الأصوات المطالبة بحقها في المدينة، أي الحق في حي يوفر حياة حضرية وتفاعلا إيجابيا مع المجال.

كما أن مليون كيس بطاطس لا يشكل مجتمع بطاطس، فلا يمكن لملايين المزارعين المنطوين على أنفسهم أن يشكلوا طبقة واعية بانتمائها ومصالحها

فئة قليلة من مسيري المدن تفهم أن المدينة ليست فقط تكتلا سكنيا؛ لكنها مضطهدة من طرف أغلبية سياسوية تنتعش في العشوائية والهشاشة التي تخلقهما لغرض في نفس يعقوب.

مقارنة مع الريف، تخلق المدينة بحكم تنظيمها تفاعلات اجتماعية أكثر تعقيدا وغنى. عقلية التمدن هي نتاج هذا التفاعل الاجتماعي مع المحيط قلبا وقالبا؛ فتكدس الناس جنبا إلى جنب دون تواصل لا يشكل أي مجتمع، حضريا كان أو بدويا. هذا، حسب كارل ماركس في تفسيره  لفشل الثورة الفرنسية الثانية سنة 1884، ما منع بزوغ وعي طبقي لدى فلاحي الريف الفرنسي المنزوين في ملكياتهم الصغيرة المسيجة دون تواصل. فكما أن مليون كيس بطاطس لا يشكل مجتمع بطاطس، فلا يمكن لملايين المزارعين المنطوين على أنفسهم أن يشكلوا طبقة واعية بانتمائها ومصالحها.

من السهل أن نصب غضبنا على متعاطي هذه الأنشطة اللاقانونية والمزعجة، لكن كل هذا لا يحدث في الواقع إلا بمراعاة المجالس البلدية والمقاطعات

قبل ماركس بقرون، عرف أرسطو الإنسان بكونه “حيوانا سياسيا” لا يمكنه أن يحقق إنسانيته خارج المدينة . وحده العيش في مجتمع منظم وفق أعراف وقوانين متعارف عليها يهذب الفرد ويخرجه من الحيوانية. خارج المجتمع المتمدن، لا يمكن للفرد العيش إلا كإله في غنى عن الناس أو كوحش منبود من طرف الجميع.

اقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: من يحكم المغرب؟ … “جهات ما”

إن الساكن، وحتى في أنشطته اليومية المعتادة، يساهم في بلورة المدينة وتشكيلها. كما أن للحياة الحضرية ثمن يؤديه كل يوم بشكل أو بآخر. حتى عند عدم الوعي بهذا المعطى، فمن يخلي بمسؤوليته في صيانة المدينة وتطويرها هو أول من يعاني من تدهورها. أي نعم، فضرورة العيش تحتم أحيانا أنشطة مزعجة، لكن الإنسان لا يطمح فقط إلى العيش بل إلى الحياة السعيدة كما حددها الإغريق.

تنوع الأنشطة بالمدينة يفرز في كثير من الأحيان أنشطة غير اقتصادية بالمرة:  أسواق عشوائية تعرقل حتى المحاور الرئيسية بالمدينة وتحول الحياة ببعض الأحياء إلى جحيم، معامل غير مرخصة وسط أحياء سكنية، شاحنات من الحجم الكبير تعرض سلعها ليل نهار بأهم الشوارع مستعينة بمكبرات صوت، احتلال للملك العمومي وأحيانا الخصوصي…

من البديهي أن أنشطة كهذه تدهور المشهد الحضري وتمس بجودة حياة الجميع. من المسؤول على هذا التردي؟ من السهل أن نصب غضبنا على متعاطي هذه الأنشطة اللاقانونية والمزعجة، لكن كل هذا لا يحدث في الواقع إلا بمراعاة المجالس البلدية والمقاطعات. من المستفيد؟ حتما ليس اقتصاد المدينة ولا ساكنها ولا حتى من يسترزق من هذه الأنشطة.

الجواب نجده عندما نسمع الخطابات الشعبوية لبعض الأحزاب: رعاية الفقر والهشاشة، هدم أسس المدينة وترك الناس مشغولين بأمنهم اليومي، هو ضمان لاستمرارهم في ربح أصوات يحصنون بها ما راكموه من ثروة.

إن ما يفعلونه بالمدينة، هو بكل بساطة ريع سياسي، بل استثمار يستهتر  بحياة الملايين من المواطنين.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *