جهاز الاستخبارات السّوفياتي… أهلاً بكم في وكْر الجواسيس! 3/4
تضمنت نجاحات الكي جي بي تلك القدرة “اللامعقولة” على اختراق كل عملية استخبارات غربية ضخمة، وتجنيد “عملاء” في كل عاصمة كبرى في العالم تقريباً. وتمكنت الكي جي بي، بدورها، من الحُصول على معلومات علمية وتقنية حسّاسة للجيش السوفياتي، كما ظَفرت بالتكنولوجيا المتقدمة اللازمة لتطوير الغواصات والطائرات والصواريخ السوفياتية.
في الجزأين الأول والثاني من هذا الملف، رصدنا بعض ملامح تشكّل جهاز الكي جي بي وتطوره، لدرجة أصبح فاعلاً في صناعة السّموم، وتطويق كل أشكال التمرد داخلياً بقوة قاهرة.
في هذا الجزء، نجد أن التجسس كان حتمية تاريخية من الضروري اللجوء إليها لمحاصرة تكتيك الخصم… ذلك الخصم الذي لم يكن إلاّ المعسكر الغربي!
فكيف “برع” جهاز الاستخبارات السوفياتي في الاعتماد على الجواسيس وتجنيدهم؟
في الحقيقة، استطاعت الكي جي بي توسيع عملياتها الاستعلامية في الخارج، لتصبح بذلك أكبر جهاز استخبارات أجنبي في العالم.
قامت المخابرات السوفياتية بمعظم أنشطتها محلياً أيضاً، أي على الأراضي السوفياتية وضد المواطنين السوفيات أنفسهم.
ساهم جهاز مخابرات الاتحاد السوفياتي في رسم خريطة جواسيس قوية و”مغرية”، نفذت إلى المؤسسات الأمنية الأكثر حساسية في الدول المناوئة سياسياً وأيديولوجياً للسوفيات
عملياً، كان أعضاء الكي جي بي يتظاهرون أحياناً بأنهم رجال أعمال أو صِحافيين، كما أنّ العديد منهم كانوا يستخدمون الغطاء الدبلوماسي التقليدي.
تضمنت نجاحاتها كذلك، القدرة “اللامعقولة” على اختراق كل عملية استخبارات غربية ضخمة، وتجنيد “عملاء” في كل عاصمة كبرى في العالم تقريباً. وتمكنت الكي جي بي، بدورها، من الحُصول على معلومات علمية وتقنية حسّاسة للجيش السوفياتي، كما ظَفرت بالتكنولوجيا المتقدمة اللازمة لتطوير الغواصات والطائرات والصواريخ السوفياتية.
جهاز بثّ الجواسيس في كل مكان، جعل الكي جي بي يتمتّعُ بولوج هائل إلى أسرار كل من خصومها وحلفائها…
بحلول نهاية الستينيات، بات هذا الجهاز راسخاً، باعتباره جهاز الرّقابة الأمنية للحزب الشيوعي. وقد انعكست قيمته كأداة للسيطرة السياسية في تعيين رئيسه، يوري أندروبوف، في المكتب السياسي عام 1973، وخلافة رئيس الحزب والبلد في عام 1982.
في عهد أندروبوف، جنّد الكي جي بي “أفضل” كوادر الحزب الشيوعي وألمع كفاءاته، على الرغم من أنها كانت تدرك حجم الفساد في الاتحاد السوفياتي المتدهور… فكانت عاجزة عن فعل أي شيء لتفادي اتجاه البلد إلى الهاوية.
“شهد شاهدٌ من أهلها“!
في شهادة أوليغ كالوگين، يقول… إنّه عندما أصبح رئيسا لقسم مكافحة التجسس الأجنبي في عام 1973، كان حجم نفاذ الكي جي بي إلى حلف شمال الأطلسي وأجهزة المخابرات الغربية الأخرى مثيراً للإعجاب بالنسبة للسوفيات…
كما لا ينكرُ أنّ جهاز المخابرات السوفيتاية، حظي بالقدرة على بناء شبكة واسعة من العملاء والجواسيس في مناصب مهمة، سواءٌ في فرنسا، ألمَانيا الغربية الرأسمالية، كندا، إيطاليا والدول الاسكندنافية، فضلاً عن دول أخرى.
في هذا العالم المليء بحروب التّجسس، كانت فرنسا أضعف نموذج غربي سقط بين يدي السوفيات استخباراتياً، حيث وصلوا إلى أكثر الأجهزة حساسية، كجهاز مكافحة التجسس وجهاز الاستخبارات العسكرية والمدنية الفرنسية. كان للكي جي بي عشرات الجواسيس الممتازين في فرنسا، معظمهم يحظون بمناصب عُليا في السلطات الفرنسية، وجميعهم مؤمنون بالشيوعية والفكر الاشتراكي.
الاتحاد السوفياتي استثمر في هؤلاء العملاء منذ الأربعينات والخمسينات وانتظر، بروية، بلوغهم مناصب اعتبارية في جهاز الاستعلامات الفرنسي والجيش كذلك…
باتت فرنساً كـ”سلّة مثقوبة”، تتسرّب منها المعلومات للسوفيات، فشكّلت بذلك ملاذاً غير آمن للمعلومات، ولم يعد الأمريكيون يُفشون أسراراً مهمّة حول وضع المعسكر الغربي، خوفاً من أن تسقط بين يدي الكي جي بي…
من بين هؤلاء الجواسيس الذين لم يُكشف أمرهم، جورج إيستر، الذي عمل في هيئة أركان الجيش الفرنسي وفي مقر الناتو في باريس، والذي زوّد الكي جي بي بخطط حروب الناتو في أوروبا الغربية. لم يتم اكتشاف عدد كبير من العملاء الشيوعيين الفرنسيين. معظمهم كان في الخمسينيات والستينيات من عمره بحلول السبعينيات، وأُحيلوا على التقاعد إبّان انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991.
كان القتل الأكثر شهرة وارتباطاً بالكي جي بي، هو مقتل جورجي ماركوف، الكاتب البلغاري المنشق، الذي يبدو أنه أصيب برصاصة مسمومة من مظلة معدلة على جسر واترلو بلندن في عام 1978.
في منتصف السبعينيات، ذهب أوليغ كالوگين لمقابلة أحد عملاء الكي جي بي الرئيسيين في جهاز مكافحة التجسس الفرنسي، والذي كان يعمل لصالح السوفيات منذ عام 1946، وقد تم إدخاله خلسةً إلى السفارة السوفيتية. كان وكيلًا موثوقاً به.
ناقشَ معه المعلومات التي حصل عليها من مصادر وكالة المخابرات المركزية، والتي تفيد بأنّ الأمريكيين تمكّنوا من زرعِ شخصية رفيعة المستوى في KGB أو GRU.
… بعد سنوات، قدّمت مصادر الكي جي بي داخل وكالة المُخابرات المركزية، ومكتب التّحقيقات الفِيدرالي الأمريكي معلومات أدّت إلى اعتقال الجنرال نيكولاي بولياكوف، الذي كان يسرّب، لمدة خمسة عشر عامًا، معلومات أساسية عن الاستراتيجية العسكرية السوفياتية… فتم إعدامه عام 1986!
يبدو، من هذه الشّهادة حجمِ اهتِمام السّوفيات بـ”الجواسيس” عبر العالم، وحضورههم تكتيكياً واستراتيجياً في صلب المخططات العسكرية للغرب، وهو ما ساهم بشكل أساسي في تحقيق ما كان يعرِف آنذاك، في المفاهيم الدولية بـ”توازُن الرّعب”!
التّصفية ومصائد العسل
في ذروة الحرب الباردة، بدأت الكي جي بي “عملية التقدم”، والتي تضمنت ضم عملاء في جميع أنحاء تشيكوسلوفاكيا؛ ليس فقط للتّجسس على ما كان يحدث، ولكن لزرع الدليل على أن أتباع “ألكسندر دوبتشيك” قائد حركة “ربيع براغ”، كانوا متحالفين مع الرأسماليين الغربيين، وبالتالي خلقوا ذريعة لقوة غزو سوفياتية ضخمة.
في نهاية المطاف، أغرقت القوات السوفياتية البلاد في نفس العام، وأطاحت بالنظام الليبرالي الجديد؛ حيثُ كان فاسيلي جورديفسكي، أحد عملاء الكي جي بي، متورطا في هذا التخريب. أخوه أوليغ، والذي كان ضابطاً زميلاً في المُخابرات السوفياتية، أصبح عميلًا مزدوجاً للغرب… حيثُ لعب في هذا التحول استنكاره لغزو الشيوعيين لتشيكوسلوفاكيا…
لا خلاف أن الكي جي بي مرادف أيضاً للتجسس والعِمالة المزدوجة، سواء في المملكة المتحدة أو في الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، فضلاً، عن مصائد العسل والاغتيالات.
كان القتل الأكثر شهرة وارتباطاً بالكي جي بي، هو مقتل جورجي ماركوف، الكاتب البلغاري المنشق، الذي يبدو أنه أصيب برصاصة مسمومة من مظلة معدلة على جسر واترلو بلندن في عام 1978.
أقل شهرة، بيد أنّها جرائم غير عادية، كانت جرائم قتل القوميان الأوكرانيان ليف ريبيت وستيبان بانديرا في أواخر الخمسينيات.
كان أعضاء الكي جي بي يتظاهرون أحياناً بأنهم رجال أعمال أو صِحافيين، كما أنّ العديد منهم كانوا يستخدمون الغطاء الدبلوماسي التقليدي.
تم اغتيالهما من قبل “قاتل” الكي جي بي، بوهدان ستاشينسكي، باستخدام مسدس رش مصمم لإطلاق غاز السيانيد على الضحية. لم يتم الكشف عن حقيقة جرائم القتل الغريبة هذه، إلا عندما انشق ستاشينسكي ولجأ إلى الغرب، واعترف بكل شيء هناك…
لعبت “مصائد العسل” أيضاً دوراً هاماً، وشكّلت تخصصاً حصرياً يحسبُ للكي جي بي، حيث تستخدم العميلات الإناث، المعروفات باسم “السنونو”، لإغواء الرجال الذين يتمتعون بمناصب اعتبارية، قصد التّشهير بهم والنّيل منهم.
لم يكن أحد الأهداف إلاّ أنتوني كورتني، النائب البريطاني المعروف بإداناته الشديدة للدولة السوفياتية، التي سربت علاقتهُ بعميلة الكي جي بي للصحافة وأدت إلى سقوطه السّياسي في الستينيات.
في الأخير، ساهم جهاز مخابرات الاتحاد السوفياتي في رسم خريطة جواسيس قوية و”مغرية”، نفذت إلى المؤسسات الأمنية الأكثر حساسية في الدول المناوئة سياسياً وأيديولوجياً للسوفيات، وكأنّها “مكائد إنسانية”، تبيّن بشكل أكثر، دهاء السوفيات ومكرهم.
… قد يقول قائل إنّ هذا “المكر” لازال مطروحاً على المشهد السياسي الدولي في صورة روسيا كوريثٍ للاتحاد السوفياتي.
هذا ما سنراهُ في الجزء الرابع والأخير من هذا الملف.
- الجزء الأول: جهاز مخابرات الاتحاد السوفياتي… مرايانا تفتح أحد أكثر الملفات غموضاً 1/4
- الجزء الثاني: الكي جي بي… “فظاعة” الثّورة البُلشُفية أو… العنف في خدمة الشيوعية 2/4
- الجزء الرابع: هل لازالت المخابرات الرّوسية تحملُ “بعض” بقايا النّظام السياسي السوفياتي؟ 4/4
مقالات قد تثير اهتمامك:
- التفاصيل الكاملة لانتفاضة 1973، آخر عملية مسلحة بالمغرب (1/12)
- المهدي بنبركة… من المعارضة والنضال الأممي إلى “الأسطورة”! 1\2
- عمر بن جلون… “شهيد” اليسار المغربي! 2/1
- علي يعتة… زعيم الشيوعيين المغاربة
- مرايانا تستحضر سيرة عبد الرحيم بوعبيد، أحد أبرز المعارضين في تاريخ المغرب الحديث
- عبد الرحمان اليوسفي… أيقونة السياسة المغربية! 3/1
- حسين مروة: صوت الفكر الذي اغتاله الرصاص