المثقف والسياسي… سوء الفهم الكبير
على السياسي أن يدرك أن محاربة المثقف ما هي إلا تعطيل عملية تثقيف المجتمع وإقامة سد أمام دمقرطته وتحديثه. الجميع في مركب واحد يتسع لهما ولغيرهما، وجود أحدهما لا يقصي الأخر، علاقتها لن تكون متوترة بالضرورة، بل على العكس من ذلك تماما، قد تصبح متكاملة لو اتسع صدر السياسي للنقد البناء وخلع عنه ثوب التوجس المزمن وأدرك أن الثقافة تهذيب للفعل السياسي وحصنا له من الانزلاق إلى الممارسة النفعية الضيقة بعيدا عن النبل الأخلاقي المميز للإنسان.
ظهر مصطلح “المثقف” سنة 1898م، بعدما أصدر مجموعة من كتاب ومفكرين ومبدعين فرنسيين بيانا، أطلقوا عليه “بيان المثقفين”. جاء هذا البيان تضامنا مع ضابط يدعى درايفوس، بعد الحكم عليه بالنفي إثر اتهامه بالخيانة فيما بات يعرف في تاريخ فرنسا بـ “قضية درايفوس”.
كان من بين الموقعين أسماء معروفة: إميل زولا ومارسيل بروست وأناتول فرانس وسينيوبوس وغيرهم؛ وما تزال هذه الوسيلة التضامنية والاحتجاجية مستمرة في الأوساط الثقافية ولدى عموم المواطنين إلى الآن.
ترجم بعد ذلك هذا المصطلح إلى اللغة العربية عن مفهوم “intellectuel” الذي يحيل إلى من يشتغل بالفكري والروحي. غير أن السياق التاريخي العربي سيحوره عن معناه الأوربي الأصل. يعتبر محمد عابد الجابري هذا المصطلح مجرد صيغة نحوية مشتقة من فعل ثقف، ويحيل عادة إلى من ينصرف إلى المجهود الفكري بغية اكتساب مهارات وكفاءات للانخراط في عمل ما. كما أن تاريخ تداوله لا يتجاوز نصف قرن حسب رأيه.
في حين يميل عبد الله العروي إلى إطلاق لفظ مثقف على شخصية تظهر في سياق تمليه ظروف خاصة. رغم أن هذين الطرحين يحجمان ضمنيا قدرة المثقف العربي على إحداث التغيير، إلا أنهما لا يلغيان حدوثه؛ خاصة إذا تبنى المثقف هموم مجتمعه ووطنه كما ذهب إلى ذلك أنطوني غرامشي حينما أقام التفرقة بين المثقف العضوي الذي ينغمس في مشاكل مجتمعه والتقليدي المتقوقع حول ذاته.
من واجب المثقف، إذن، ألا يعيش لذاته فقط وأن ينزل من برجه ليلامس الواقع. هذا النزول يقودنا إلى الحديث عن علاقة المثقف بالسياسي، علاقة اتسمت عموما بالتوتر على اعتبار تقاطع مجالي اشتغالهما في نقطة أساسية وهي المجتمع عموما والإنسان على وجه أدق، وإن كانت وسائلهما وأهدافهما تتباين وتختلف.
ينزع المثقف إلى النقد أساسا والنفاذ إلى عمق الأشياء وتحليلها في شموليتها، مع استحضار حركية التاريخ والواقع، ويتطلع إلى فضاء ينعم بالحرية لينمي أفكاره وينشرها لتعتنقها الجماهير وتتحول إلى قوة تغيير؛ وهذا بالضبط ما يرعب السياسي الذي يشتغل بمجال السياسات العامة وتدبير الشأن العام، بينما الحرية ليست من همومه الأولى؛ ولنا عبرة فيما يقع الآن من تقييد للحريات في أعرق الديمقراطيات الأوربية؛ تحت ذرائع جائحة كورونا والأزمة الصحية وغير ذلك.
التاريخ الإسلامي لا يخلو من أمثلة لصدامات عديدة بين أهل الفكر والسلطة التي كانت ترى فيهم معارضين لسياستها ومنازعين لها في شرعيتها، ولعل ظاهرة حرق الكتب في التاريخ الإسلامي خير مثال.
في سنة 1150م، أُحرقت كتب ابن سينا وإخوان الصفا بأمر من الخليفة المستنجد في بغداد، وفي سنة 1194م أحرقت جميع كتب ابن رشد إلا القليل بأمر من أبي يوسف يعقوب المنصور في إشبيلية، وهناك مواقع كثيرة غيرها، بل استمر الأمر إلى عصرنا الحالي حيت أمرت وزارة الثقافة المصرية بحرق حوالي 6000 نسخة من أحد كتب الشاعر أبي نواس رغم أنها تعود إلى القرن الثامن. لم يقتصر الأمر على حرق الكتب، بل تعداه إلى التنكيل بالعلماء والمفكرين وكتب التاريخ مليئة بأمثلة لا يتسع المقام لذكرها.
هذه الحالة المضطربة استمرت ولم تتغير كثيرا عما كانت عليه، اللهم في الشكل، ولم يستطع المثقفون العرب نسج علاقة متكافئة مع السلطة مثل نظرائهم الغربيين الذين أوجدوا فضاء يتسع للسياسي والثقافي، يستفيد منه الاثنان، متجاوزين بذلك ما تميزت به علاقة مفكري عصر الأنوار والسلطات السياسية والدينية من توتر مزمن أدى إلى إزهاق الأرواح أحيانا كثيرة.
في المجمل، ظل المثقف العربي خاضعا تارة إلى السلطة يعزف لحنها، وطورا معارضا لها بشكل دوغمائي من غير نقد ولا تحليل. وفي الحالتين، يحشر المثقف نفسه في خانة الايدولوجيا. في الوسط، هناك طرف ثالث يرسم لنفسه خطوطا حمراء لا يتجاوزها، ينأى بنفسه عن كل ما من شأنه أن يثير حفيظة السلطة مستمتعا بتأملاته المترفعة عن عالم الحواس.
بيد أن الأحداث التي عرفتها بعض الأقطار العربية مند موجة ما سمي بالربيع، أبانت عن حاجة الشعوب إلى مثقف من نوع مختلف. مثقف قادر على تحليل الواقع بموضوعية دون إفراط أو تفريط لإعادة تشكيله وفق معايير علمية دقيقة، حاملا على عاتقه هموم مجتمعه، وظيفته الأساسية كما يقول جورج طرابيشي: “هي أشبه ما تكون بذبابة سقراط: أن يوقظ لا أن يُنيم، وأن يلسع لا أن يُخدر”.
لكن، بالمقابل، يجب على السياسي أن يكف عن محاولة إخضاع كل من يخالفه الرأي والتوجه، بالجزرة أحيانا وبالعصى أحيانا أخرى، وحال لسانه يردد تلك العبارة الشهيرة التي نسبت لجوزيف غوبلز وزير الدعاية في ألمانيا النازية: “عندما يقال كلمة مثقف، أتحسس مسدسي”.
عليه أن يدرك أن محاربة المثقف ما هي إلا تعطيل عملية تثقيف المجتمع وإقامة سد أمام دمقرطته وتحديثه. الجميع في مركب واحد يتسع لهما ولغيرهما، وجود أحدهما لا يقصي الأخر، علاقتها لن تكون متوترة بالضرورة، بل على العكس من ذلك تماما، قد تصبح متكاملة لو اتسع صدر السياسي للنقد البناء وخلع عنه ثوب التوجس المزمن وأدرك أن الثقافة تهذيب للفعل السياسي وحصنا له من الانزلاق إلى الممارسة النفعية الضيقة بعيدا عن النبل الأخلاقي المميز للإنسان.
مقالات قد تهمك:
- الحلاّج… الثائرُ “المصلوبُ” الذي لا يخشى الموتَ 2/2
- المعتزلة… العقل العربي الإسلامي في بداية تشكّله! 1\3
- “نصوص متوحشة”: هكذا وطّد ابن تيمية خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/4
- إخوان الصفا… رفع الطّلاق بين الشّريعة والفلسفة! 2\4
- علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين الذين اتهموا بالزندقة والكفر (الجزء السادس والأخير)
- من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: ابن الراوندي (الجزء الثالث)
- السلطة وإعدام الكتب في التاريخ الإسلامي… حكايات مروعة 3/2
- حرية التعبير في المغرب: رقابة ضد الفكر والإبداع وبرلمانيون يطالبون بمزيد من المراقبة 2/2
- عن الحرية والعدل والكرامة الإنسانية: المقاصد بين مفكري الغرب وفقهاء الشرق