“الإنسان المقهور” عند مصطفى حجازي: مُجابهة التّغيير من الدّاخل 2/3
الإنسان في المجتمعات المتخلفة ينظُر إلى نفسه نظرة دونية، يفتقد إلى الإحساس بالقوة التي من شأنها أن تمنح الحياة طعماً وتزيد من احترام الإنسان، فيبقى بذلك عاجزاً عن المجابهة، فهو دائماً ما يجدُ نفسهُ في حالةِ المغلُوب على أمرِه… يجدُ أن ثمّة انعدام لمبدأ التكافُؤ بينه وبين الظواهر التي يتعاملُ معها.
بعد أن رأينا في الجزء الأول من هذا الملف معالم الهدر في المجتمعات المتخلفة ودورها في تأزيل الاستبداد والسّلطوية، ننتقلُ في هذا الجزء إلى الحديث عن القهر الاجتماعي وكيف يعاشُ على مستوى كينونة الفرد!
يقول مصطفى حجازي إنّ التخلّف على المستوى الإنساني يعيشُ كنمط وجود مميز، لهُ ديناميتهُ النفسية والعقلية والعلائقية النوعية.
الأدهى، يضيفُ حجازي، أنّ الإنسان المتخلف، منذُ أن ينشأ تبعاً لبنية اجتماعية معينة، يصبحُ قوة فاعلة ومؤثرة فيها. فهو يعززُ هذه البنية ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها نظراً لارتباطها ببنيته النّفسية.
الأحداث والتغييرات التي تحدثُ في محيط هذا الإنسان تطبعُ مصيره، حتّى لو كانت محركات هذه الأحداث مجانية أو اعتباطية، فهي تجعلهُ يرزح تحت خوف دائم وتهديد شديد لصحته وقوته وعياله.
يمكن التقاط هذا الطرح وربطه بالدّعوات المتكررة للحداثة بما هي استثمارٌ في الإنسان في الرأسمال البشري والاهتمام به وانتشاله من التقليدانية… لكن، هل يسمحُ المتسلّطُ بهذا التغيير؟
بالعكس… المتسلط يستغلّ كل ما يمكن، لإبقاء الواقع على ما هو عليه، فتتداخل العوامل الخارجية القهرية والبنية النفسية الغارقة في الاتكالية والتقليدانية، ليصبح التغيير مستحيلاً.
الدين… مُطيةُ المتسلّط
في مجتمعات متخلّفة، تؤمنُ بالخرافات والأساطير، يتوسّل المتسلّطُون بالدين، بغيةَ “ترسيخ العُرف الشّائع الذي يخدمُ مصالحهم قبل كل شيء”، يقولُ حجازي.
المتسلّطُ، كما يشرح حجازي، يعزّز سطوة التّقاليد من خلال آيات وأحاديث لا مجال للشكّ فيها، وإلاّ تعرّض إيمانُ الإنسان المغبون للخَطر وتلاشى أملهُ الوحيد في عزاء الدُنيا بالآخرة. لكن، على ما يبدو، فإنّ أصحاب الامتيازات والذين يمسكون السّلطة داخِل المُجتمع التّقليداني، لا يظهرون من الدين سوى ما يدعمُ تواجدهم ويؤكد سلطتهم ويحفظها من النقاش. بصيغةٍ أخرى، فقط تلك الجوانب التي تدعم القناعة بالأمر الواقع وتقبّله وتتكرر على مسامع المغبونين. [1]
أمّا الصور الثورية للدين، أي تلك الجوانب التي تؤكد على “التحرر والتغيير والإبداع، والعدل والعدالة والتّصدي
والشّجاعة والجهاد في سبيل الحقّ وفي سبيل كرامة الإنسان، فيسدَلُ عليها ستارٌ كثيفٌ من التعتيم.”
هكذا، يخلصُ حجازي، يصبحُ كل ما هو عصري، وما يساعدُ الإنسان على تحرير ذاته وامتلاكِ زمام مصيره، بدعة، وكلّ توكيد على الحق والعدالة والكرامة وممارستها زندقة، “ويتحوّل الدين إلى سلاح مسلط على المغبونين… وهذا أفضلُ سلاح لدفعهم إلى الاستسلام والإذعان، لأنّه يهددُ أملهم الأخير في الخلاص والعزاء في ثواب الآخرة. خلاصٌ وثوابٌ يجعلان وحدها حياة القهر ممكنة”.
يتّضح أنّ هذا الطّرح قد ينطبقُ على تيارات الإسلام السّياسي التي تدعمُ أطروحتها بمرجعية دينية تحاول الجمع بين مبادئ الدّولة وأيديولوجيا الدّين؛ وهي بهذا لا تقلّ خُطورة عن سطوة المتسلّط الذي يدعم وجوده في السّلطة ويُؤمّنهُ بالدين!
كل هذه الظّروف الخارجية جعلت الإنسان المقهور يُعاني من الكثِير من العُقد، تعمقّ القهر الاجتماعي وتكرّسُ التّخلف.
عُقدة النّقص والدّونية!
عقدةُ النّقص لا تغذّي سوى الموقف الاستبدادي للمتسلّط، حينَ يدرك أنّ الأفراد يعانون مع جلدهم في داخلهم، وهم غيرُ قادرين على تفجير هذه المكنُونات “الثّائرة”، فضلاً عن كونِ إمكانية التغيير أو إرهاصاته غائبة.
مواقف الإنسان المقهور من الوجود تطبعها، حسب حجازي، مشاعر الدونية بشكل عام، فهو “يعيش حالة عجز إزاء قوى الطّبيعة وغوائلها، وإزاء قوة السّلطة على مختلف أشكالها”.
الأحداث والتغييرات التي تحدثُ في محيط هذا الإنسان تطبعُ مصيره، حتّى لو كانت محركات هذه الأحداث مجانية أو اعتباطية، فهي تجعلهُ يرزح تحت خوف دائم وتهديد شديد لصحته وقوته وعياله.
مُخلصات حجازي تشيرُ أن الإنسان في المجتمعات المتخلفة ينظُر إلى نفسه نظرة دونية، يفتقد إلى الإحساس بالقوة التي من شأنها أن تمنح الحياة طعماً وتزيد من احترام الإنسان، فيبقى بذلك عاجزاً عن المجابهة، فهو دائماً ما يجدُ نفسهُ في حالةِ المغلُوب على أمرِه… يجدُ أن ثمّة انعدام لمبدأ التكافُؤ بينه وبين الظواهر التي يتعاملُ معها. [2]
لكلّ هذه الأسباب، التي تعمّقُ عقدة الشّعور بالنّقص، فالإنسانُ المقُهور “يفتقدُ الطّابع الاقتحامي في السّلوك، سرعان ما يتخلى عن المُجابهة منسحباً أو مستسلماً أو متجنباً، إمّا طلباً للسّلامة وخوفاً من سوء العاقبة، أو يأساً من إمكانية الظفر والتّصدي، وبذلك يفقدُ موقفُهُ العام من الحياة الطابعَ التغييري الفعال، ويقع في أسلوب التوقع والانتظار والتّلقي الفاتر لما يحدُثُ”. [3]
الإنسان المتخلف منذُ أن ينشأ تبعاً لبنية اجتماعية معينة، يصبحُ قوة فاعلة ومؤثرة فيها. فهو يعززُ هذه البنية ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها نظراً لارتباطها ببنيته النّفسية
هذا الوضع العام يجعلُ الإنسان المقهور، بالموازاة، منعدم الثّقة في نفسه، فلا شيء مضمونٌ في وجوده، وفقدانُ الثقة هذا يعممُ منهُ على كل الآخرين… هكذا، يشعرُ أنهُ وإياهم، لا يستطيعون شيئاً لمجابهة قهر الطّبيعة وقوى التّسلط. [4]
من هنا يتّضحُ أنّ إمكانية التغيير غيرُ قائمة، لأن الجماهير في حد ذاتها تؤمن أنها غيرُ قادرة على الفعل والتأثير ومجابهة الواقع الاستبدادي. لهذا، فالإنسان المَقهُور يمارسُ التغوّل بدوره على المرأة، لممارسة نفس التسلط الذي تمارسه عليه السّلطة والتقاليد والمجتمع!
العارُ.. “المرأة” في نظر الإنسان المقهور!
يكشفُ حجازي أنّ عقدة العار لها صلة وطيدة بعقدة النّقص. لكن الأخطر، هنا، أنّ الرجل المقهور يُسقط العار أساساً على “المرأة: المرأة العورة، أي موطنُ الضّعف والعيب، بسبب هذا الإسقاط يربط شرفهُ وكرامتهُ كُلها بأمر جنسي ليس لهُ أي مبرر من الناحية البيولوجية المحض، ونعني الحياة الجنسية للمرأة.”
ليس من باب المُصادفات، يردف حجازي، أن يتم تطويقُ المرأة بكل هذا الحجم من الأساطير وربطه بآليات التعبير عن الشّرف المهدد، فطالما أن “أكبر درجات الغبن تلحق عادةً بالمرأة في المجتمع الذي يتّصفُ بالقهر، ليس من المستغرب إذن أن يربط الشّرف بها ويسقط العار عليها”.
الأخطر أنّ الأمر ينحو منحى “إرهابياً”، حيثُ يغدو القتل عادياً ومبرراً ويجدُ سندهُ في العُرف الاجتماعي، تحتَ مُسمى جنَاية الشّرف.
وهو مبرر، يضيفُ الباحثُ، لأنّه يعتبر انتفاضة “مشروعة” لاستعادة الكَرامة والسّمعة اللتين هدرتا…
كلّ هذه المُعطيات، ربّما، هي معروفة ومتداولة هنا وهناك، إلى حد الابتذال أحياناً. بيدَ أنّ السؤال الذي يطرحه حجازي هو: أليس الأمر خدعةً تنطلي على الفئات المقهورة، حين يقتات المتسلّط من هذا التّصور الذي يربطُ كرامة الإنسان وشرفه بالمرأة، بدل الاهتمام بالمفهوم الحقيقي للشّرف الذي يتعلّقُ بالمكانة الاجتماعية والمهنية؟
أكثر من ذلك، ألا يمكن اعتبار الأمر “تحويلاً للأنظار عن مصدر العار وسببه، وهو الاستغلال والتسلّط وما يفرضانه من قهر على الإنسان ودوس لكرامته؟”، يتساءل حجازي.
مواقف الإنسان المقهور من الوجود تطبعها مشاعر الدونية بشكل عام
الإجابة على هذه الأسئلة تجعل الصّورة تتضح بشكلي جلي، أنّ الإنسان المقهور “بدلَ أن يثور ضد مصدر عاره الحقيقي، يثُور ضدّ من يمثّل عاره الوهمي وهو المرأة المستضعفة. هذا بينما تحتفظُ الفئة المُستغِلّة لنفسها بلقب الشّرف والنبل من خلال ما تتمتّعُ به من امتيازات.”
لكن، كيف تتجلى بالأساس معالم قهر المرأة من الناحية السيكولوجية في الدول العربية “المتخلّفة”؟
هذا ما سنجيب عنه في الجزء الثالث من هذا الملف.
[1] حجازي مصطفى، التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة 2005.
[2] المرجع نفسه.
[3] نفسه.
[4] نفسه.
اقرأ أيضاً:
-
الإنسان المهدور” عند مصطفى حجازي: هدر الفكر والثّروة وطاقات الشّباب 1/3
- المرأة عند مصطفى حجازي.. عنوانُ القهر والاستلاب في المجتمعات العربية المتخلفة! 3/3
-
أوجه التشابه بين المتطرفين ودعاة الاعتدال. هل هناك نسخة معدلة من الإسلام!؟
- حرص المخزن على إعادة إنتاج نفسه… هكذا فشلت البعثات التعليمية المغربية ونجحت اليابانية في تحديث بلادها 3/2
- محمد شحرور… المفكر الإسلامي الذي نظر للقرآن بعيون القرن الحادي والعشرين! 1/3
- معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا