“الإنسان المهدور” عند مصطفى حجازي: هدر الفكر والثّروة وطاقات الشّباب 1/3 - Marayana - مرايانا
×
×

“الإنسان المهدور” عند مصطفى حجازي: هدر الفكر والثّروة وطاقات الشّباب 1/3

عند هذا الحد، لا يمكن بالأصل الحديث عن التنمية والإنماء، على اعتبار أنّ الهدر يتولّد كالقهر، وكلّ مقهور سيقهرُ من هم دونهُ لا محالة حين تتاحُ له الفرصة، وكلّ ضحيةٍ للتسلّط سيعيد توجيه التسلط إلى من هم أقل منه مرتبةً. بهذا، كل إنسان مهدور سيهدر ما دونه من الناس والموارد والثروة، ومن تعرّض كيانه للتهديم لا يستطيع بكلّ الأحوال أن يبني.

منذ ما يزيد عن العقدين من الزمن، يحاول  مُصطفى حجازي، الدكتور اللبناني في علم النّفس، استعمال نظريات علم النّفس للوقوف على التخلف الاجتماعي والإنساني في محيط الفرد وسيكولوجيته ومعيقات التغيير على المستوى النفسي.

هنا ، تبرُز مفاهيمُ الهَدر الإنساني والقَهر الاجتماعي عنده!

يتجلى هدرُ الإنسان العربي عند مصطفى حجازي من قِبل ثالوث الحصار والقمقمة؛ أي الاستبداد والعصبيات والأصوليات، من خلال التعامل معه ليس باعتباره إنساناً له كيان وقيمة، وإنما باعتباره أداة، أو عقبة ومصدرَ تهديد أو عبئاً وحملاً زائداً.

الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية إجتماعية

على هذا الأساس، تُهدرُ كل المميزات داخل المجتمع لتأزيل الاستبداد، وإبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه، لأن الثالوث المذكور يقتاتُ من هدر الطاقات والأفكار والثروات والمؤسسات والديمقراطية… هذا الهدرُ يمدهُ بالكثير من الامتيازات، ولو على حساب قهر الإنسان والنيل من كرامته وإنسيته!

الهدر الفكري… أخطرُ ألوَان الهَدر!

يتحالفُ، في الهدر الفكري، كلّ من “الأمن والرقابة السياسية ويتدخّلُ الذين نصّبوا أنفسهم حماة للدين وأوصياء على عقول النّاس لمصادرة الكُتب، ومحاربتها بالشبهة وإطلاق تهم التكفير والخيانة والمساس بالعفاف والأخلاق”[1].

ليست الكتبُ وحدها التي تسقطُ ضحيةً للمنع والمصادرة، يقولُ حجازي، بل أن المُؤَلّفُ أيضا يُتهم بالكفر أو الزندقة والإلحاد إلى حد متطرّف، وينادي البعضُ باستحلال دمه.

لهذا… كلّ من يمسّ الدين أو الجنس أو الأنظمة العربية من قريب أو من بعيد ممنوعٌ بالمُطلق في بعض الدول الإسلامية، كدليل على هدر الفكر وتحجيمه. هذا الأمر يتسببُ، عملياً، في هدر القضايا الكبرى والشائكة على المستويين الفردي والجماعي ويهمّشُ الإنسان ويتعطّل بناء المستقبل ويجابهُ التغيير من الدّاخل. [2]

لقد هُدر الفكرُ الثقيل والفعال والخصبُ واكتفى، ولا يزال، بالوجبات الفكرية السّريعة عديمة القيمة الغذائية. “نتيجة لهذا الهدر، أصبحَ معظمُ من يعملونَ في الفِكر من كبار السّن، وحتى هؤلاء لا ينتشِرُ فكرهم نظراً لفقدان السّوق وتقهقره ونضوب المفكرين ذاتهم.”

لا يقتصرُ مأزمُ الشبابِ على هدرِ الطّاقات والكفاءات، بل هو يتفاقمُ من خلال التحييد عن المُشاركة في القضايا العامة الوطنية والمصيرية

الأخطرُ، حسب الكاتب، هو ما حلّ بمهنة الفكر من تبخيس، حتى أصبح لقبُ “الكاتب” مثاراً للدهشة أو سخرية ضمنية حين يقدم أحد هؤلاء نفسهُ للآخرين.

… تُهدرُ، بهذا، شتّى الأفكار المتنورة التي تصنع العالم وتبني له سُبل النجاح؛ فكلّ ما يساهمُ في بناء كيان العالم، يرى حجازي، لم يعد يقامُ له وزنٌ أو اعتبار مع حلول المِلكية والأرصدة والأسهم ووجاهتها، محلّ الاحترام والتّبجيل الفكري.

في المُحصلة، يصبحُ الفكرُ نشازاً داخل المجتمعات المتخلفة على ما يبدو، ويصبح دور المثقّف قاصراً، لأنه محاصرٌ بالكثير من السّلط، سواء الدينية أو سُلطة الرقابة الذاتية أو السّلطوية في حد ذاتها، فيضيعُ حقّ الإنسان في التّفكير أحياناً!

هذا ما يفسّرُ ما قالهُ عبد الكريم الجويطي في حواره مع “مرايانا”، أنّ المجتمع المغربي على وجه الخصوص لا يستمع للمثقف بقدر ما يستمعُ للمشعوذ والدجال. فهل ظاهرة هدر الفكر عامة في البلاد الناطقة بالعربية؟

أجل… لأنّ من يهدرُ الفكر، يهدر الثروة والمؤسسات والشباب وكل ما يدفعُ نحو الديمقراطية والحرية والتنمية.

هدرُ الثّروة… هدرُ المؤسسات!

يتلازمُ عند حجازي هدر الإنسان بهدرِ الموارد والثروات الذي أصبح، في الدول العربية، مؤسسة قائمة الذّات تكادُ تتحول إلى حالة عامة لا تثير أي انتباه أو نقاش، عكس ما هو الحال في البلدان المتقدمة، حيثُ يغدو الفساد المالي ممارسات مزلزلة تطيح بالكراسي والمناصب.

كلّ من يمسّ الدين أو الجنس أو الأنظمة العربية من قريب أو من بعيد ممنوعٌ بالمُطلق في بعض الدول الإسلامية، كدليل على هدر الفكر وتحجيمه

في خضم هذه السلسلة، حسب الكاتب، يصبحُ هدر المؤسسات واقعاً، حيثُ تجبرُ على خدمة مكاسب السلطات والعصبيات على اختلافها، ويشتدّ الصراع بين السلطات لضمان سيطرتها على المؤسسات أو اللجوء إلى اقتسام الغنائم والثروة وهدرها، وبالتالي إحكام الحصار على الإنسان وهدره. [3]

ذلك أنّهُ… حين “تهدرُ الثروات والمؤسسات، يتم الاستفراد بالإنسان وكيانه، من خلال تجريده من كل مرجعيات القوة والمنعة والحقوق.” [4]

يصبحُ المجتمع أمام حالة الهدر هذه، عرضةً لما يسمى، عند حجازي، “بالمرض الكياني”، إذ يسقطُ كل فرد من المجتمع في “فقدان المناعة الكياني”، وهو شبيه بفقدان المناعة الطبي.

هنا يكمن الخطر، أي حين يدخل المجتمع وناسه وطاقاته الحيوية في التاريخ الآسن، الذي عنوانه الاجترار والتكرار بدلاً من التغيير والنماء.

في المغربِ، ومنذ عقود طويلة ، تنادي أصوات من المجتمع المدني وبعض الأحزاب الوطنية بالاهتمام بمكوّن الشباب داخل المجتمع

يذهبُ حجازي إلى أنه عند هذا الحد، لا يمكن بالأصل الحديث عن التنمية والإنماء، على اعتبار أنّ الهدر يتولّد كالقهر، وكلّ مقهور سيقهرُ من هم دونهُ لا محالة حين تتاحُ له الفرصة، وكلّ ضحيةٍ للتسلّط سيعيد توجيه التسلط إلى من هم أقل منه مرتبةً. بهذا، كل إنسان مهدور سيهدر ما دونه من الناس والموارد والثروة، ومن تعرّض كيانه للتهديم لا يستطيع بكلّ الأحوال أن يبني.

… على غرار هدر الثّروة والمؤسسات، يصبحُ لنا نمُوذج غير بعيدٍ بالمغرب، حيثُ يعلو كعبُ الريع في الممارسة السياسية، وحيثُ يُصدرُ المجلس الأعلى للحسابات تَقارير سنَوية تتضمّنُ ملفات فساد مُعينة، لكن… دون أن تتمّ مُتابعة أيّ جهة تورّطت، بالفعل، في قضايا فساد… وفق تلك التقارير.

هدرُ الطاقاتِ الشّابة.. اغتِيالُ الحيَاة!

لا يقتصرُ مأزمُ الشبابِ، حسب مصطفى حجازي، على هدرِ الطّاقات والكفاءات، بل هو يتفاقمُ من خلال التحييد عن المُشاركة في القضايا العامة الوطنية والمصيرية، فالشّبابُ في بلاد الهدر مُستبعدٌ عن دائرة صنع القرار التي يستأثرُ بها جيلُ الكبار الذي شاخ، ولا يزالُ يحتكرُ التّعامل مع قضايا المصير.

فبعد أن كان الشباب في فترات التحرير الوطني فاعلاً أساسياً في الحركات التحررية، يسقطُ على مكون الشباب، اليوم، حيفٌ وغبنٌ كبير في مجتمعاتهم نتيجة انعدام قضايا كُبرى، ولم تعد ثمة معاركُ مصيرٍ تربطُ الإنسان بدلالات الوجُود المتسامية. [5]

الأمَرّ، يقول حجازي، أنّ الكيان الوطنيّ اختُزِل في هم الحفاظ على سطوة السّلطة والبقاء فيها، وهو بالأساس همّ ليس فيه مكانٌ لبطولات الشّباب وبذلهم وتضحياتهم، بعد أن تحول إلى مهادنة خفية كل الوقت، وعلنيةً أحياناً.

هدرُ القيمةِ عند جيل الشّباب يتصعّدُ، “من خلال سعي السّلطات المستمر إلى تبرير الانصياع للقوى الخارجية بدعوى الواقعية السياسية، ومراعاة الظروف والحفاظ على المكتسبات، والذي يترجمُ قمعاً وكُبتاً لكلّ تعبيرات رفض الاستسلام والتمرد على المهانة، والانتفاضة للحقوق الوطنية…” [6]

يكشفُ حجازي أنّ الشباب في بلاد الهدر، يعاني أمام واقع الهزيمة السياسية والعجز المتفاقم الذي يميزُ سياسات القائمين على السّلطة في الدول العربية.

من الواضح أنّ هذه المُخلصات الدّقيقة لحجازي، كُتبت قبل اندلاع ما سمي بثورات “الربيع الديمقراطي” سنة 2011… لكن، حتى في لحظة حماسة الجمهور والبحث عن العدالة الاجتماعية والحرية… انتصرت الفوضى أو الثورة المضادّة للأنظمة العَربية!

الأخطرُ هو ما حلّ بمهنة الفكر من تبخيس، حتى أصبح لقبُ “الكاتب” مثاراً للدهشة أو سخرية ضمنية حين يقدم أحد هؤلاء نفسهُ للآخرين.

أما في المغربِ، ومنذ عقود طويلة، تنادي أصوات من المجتمع المدني وبعض الأحزاب الوطنية بالاهتمام بمكوّن الشباب داخل المجتمع… وتشبيب الأحزاب… بينما…

أُهدِرت الطاقاتُ الشّابةُ، وذهب بعض منها للخارج… حيثُ تستطيع أن تعيش بحرية وكرامة واحترام إنسية الإنسان، دون أن يُحبطَ الشبابُ “الثائر” بثقل الجماعة التّقليدانية وقسوَة التّراث العربي الإسلامي وكبح جموح “الحياة” بفعل بعض القوانين، التي يصنّفُها الخبراء بأنها “رجعية”!

في النهاية، يتضحُ أنّ الهدر الإنساني رديفٌ للقهر الاجتماعي، لأنّ الأول يعمقُ فداحة التخلف ومظاهره داخل المجتمع، أمّا الثاني فيجعلُ منَ التغيير، ربما، مستحيلاً، لأنّهُ يكرّس معاناة الذّات وعُقدها، ما يجعلها إما تنغلق على الذات (السّلفية والعودة للماضي والتقاليد) أو ضمان استمرارية القهر بشكل تراتبي؛ وتكونُ المرأة دائماً ضحيتهُ في المجتمعات العربية الإسلامية المقهورة.

كيف ذلك؟

الإجابة في الجزء الثاني من هذا الملف!

[1] حجازي مصطفى، الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2005.

[2] المرجع نفسه.

[3] نفسه.

[4] نفسه.

[5] نفسه.

[6] نفسه.

اقرأ أيضا:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *