وصفوه بمؤسس علم المقاصد. الشاطبي… المُجدد الذي دعا إلى “الوقوف عند اجتهادات الأوائل”! 1/3
أغلب الباحثين في مقاصد الشريعة من المعتدلين الإسلاميين، يحيلون في بحوثهم على كتاب الموافقات للإمام الشاطبي، والثورة التي أحدثها في علم أصول الفقه، ويمتحون منه القواعد والضوابط المقاصدية التي يفرعون عنها، ويبنون عليها مباحثهم في التأصيل لعلم المقاصد، وبيان صلاحية أحكام الشرع لكل المستجدات المتلاحقة.
فإلى أي مدى يمكن اعتبار فكر الشاطبي وكتابه ثورة تجديدية في علم الأصول أو شرارة لتأسيس علم المقاصد؟ وهل خطر ببال الشاطبي وهو يؤلف كتابه أنه سيتخذ مطية للتحلل من بعض أحكام الدين وفسح المجال للاجتهاد المطلق دون مراعاة لنصوص قطعية تجازوها الزمن؟
كثر الحديث في العقود الأخيرة عن مقاصد الشرع وأولويات الشريعة بين المتبنين للمشروع الإسلامي، واعتبار المقاصد علما مستقلا عن مباحث أصول الفقه، يفتح الباب لأفق أرحب من أجل بناء الأحكام الشرعية وفق ما يستجد للناس في حياتهم ومجالات عملهم.
هذه الدعوات المتنامية والبحوث المتزايدة عن مقاصد الشريعة، يمكن إرجاعها لثلاثة أسباب رئيسية:
1: صدمة العالم الإسلامي بعد الاستعمار الغربي بالشقة الكبيرة بينه وبين العالم المتحضر في مجالات العلوم والحكامة السياسية والرقي والرفاهية الاجتماعية. تولد عنها الرغبة الملحة في تحديث الفقه الإسلامي لمسايرة ركب الحضارة.
2: محدودية نصوص الشريعة، مقابل مطلقية الأحداث وانسيابيتها، فكان لابد من التفكير في عموميات ومقاصد فضفاضة، تستلهم منها أحكام شرعية تواكب تدفق الأحداث والمستجدات.
3: وجود نصوص شرعية مصادمة للواقع، ومعانيها لا يمكن استصحابها لتعيش القرن 21، فكان لا بد من تجاوزها بمخرج شرعي أو بعلة ظرفيتها التاريخية ومخالفتها لمقاصد الشريعة المستدامة.
أغلب الباحثين في مقاصد الشريعة من المعتدلين الإسلاميين، يحيلون في بحوثهم على كتاب الموافقات للإمام الشاطبي، والثورة التي أحدثها في علم أصول الفقه، ويمتحون منه القواعد والضوابط المقاصدية التي يفرعون عنها، ويبنون عليها مباحثهم في التأصيل لعلم المقاصد، وبيان صلاحية أحكام الشرع لكل المستجدات المتلاحقة.
كتاب الاعتصام طافح بنفس سلفي لا يختلف عن تنظيرات ابن تيمية وابن القيم للاتباع المبني على عدم تجاوز رسوم الشريعة أو تقديم العقل والمنطق في فهم النصوص. فمن أين جاء منظرو فقه المقاصد بالشاطبي ليبرروا نظرتهم المقاصدية المنفتحة على منتجات الفكر الغربي نهلا وتطويعا واستلهاما ؟؟
يقول ابن عاشور: “لقد بنى الإمام الشَّاطبي حقًّا بهذا التأليف هـرمًا شامخًا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يشرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قًلًّ من اهتدى إليها قبله، فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالةً عليه، وظهرت مزية كتابه ظهورًا عجيبًا في قرننا الحاضر والقرن قبله، كما أشكلَتْ على العالم الإسلامي عند نهضته مِن كبوته أوجهُ الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية، فكان كتاب الموافقات للشاطبي هو المفزع، وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملائمة بين حقيقة الدين الخالدة، وصور الحياة المختلفة المتعاقبة.”
اقرأ أيضا: المساواة في الإرث في المغرب: قطعية الآيات على ضوء السياقات التاريخية 2/3
فإلى أي مدى يمكن اعتبار فكر الشاطبي وكتابه ثورة تجديدية في علم الأصول أو شرارة لتأسيس علم المقاصد؟ وهل خطر ببال الشاطبي وهو يؤلف كتابه أنه سيتخذ مطية للتحلل من بعض أحكام الدين وفسح المجال للاجتهاد المطلق دون مراعاة لنصوص قطعية تجازوها الزمن؟
1. فقه الشاطبي وزمانه.
عاش الشاطبي في القرن الثامن الهجري، الذي عُرف بمعاداة الفكر الفلسفي، والتنكر لأعمال ابن رشد ومجهوداته في التنظير لحياة علمية دامجة للفلسفة والمنطق والدين، والجمود على أقوال أرباب المذاهب الفقهية السابقة، واعتبارها النهاية التي لا يمكن الوصول إليها، والرسوخ في العلم الذي ليس بعده رسوخ.
الشاطبي كان من الداعين للوقوف عند اجتهادات الأوائل، واعتبارهم ذروة لا يمكن الوصول لسنامها. يقول في الموافقات ناصحا طلاب العلم: “أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم..، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين. وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم… فلذلك صارت كتب المتقدمين، وكلامهم، وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة”.
الشاطبي سيترجم رأيه هذا في حياته العملية، بحيث التزم في فتاواه، المشهور من مذاهب المتقدمين حتى رماه أهل عصره بالغلو والتشدد. يقول في مقدمة كتابه الاعتصام: “وتارة أُحْمَل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب الموافقات”.
اقرأ أيضا: المرأة والفقه: القرآن ولغة الأعراب. أصل الحكاية… 1\3
وما أكثر الإحالات على كتاب الموافقات في كتاب الاعتصام، مما يدل على أن كتاب الموافقات، لم يوضع أصلا ليكون منطلقا للاجتهاد وفق نظرية المقاصد الحديثة. فلو كان فعلا يريد من كتابه ما أراده المتأخرون، لأفتى بما يوافق الحياة المستجدة في غرناطة، ولم يستمسك بالمشهور من المذهب المالكي، إذ لا يمكن بحال من الأحوال، أن ينفصل التنظير الفقهي والأصولي عن الحياة الفقهية العملية للمُنَظر، كما لا يمكن أن تناقض كتب نفس المؤلف بعضها بعضا، إلا اذا كان المنظر أو المؤلف يعاني من لوثة عقلية، أو فُهِمت كتبه على غير مراده.
وفيما يلي مقتطفات من مقدمة كتاب الاعتصام وبعض من عناوين فصوله تبين المنهج السلفي لفقه للشاطبي:
“فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس… وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤالفين، لا من المخالفين، فرأيت أن الهلاك في أتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يُغنوا عني من الله شيئاً… وتارةً نُسبت إلى الرفض وبُغض الصحابة رضي الله عنهم، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب.. وتارةً أضاف إليًّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلي من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.
ما أكثر الإحالات على كتاب الموافقات في كتاب الاعتصام، مما يدل على أن كتاب الموافقات، لم يوضع أصلا ليكون منطلقا للاجتهاد وفق نظرية المقاصد الحديثة. فلو كان فعلا يريد من كتابه ما أراده المتأخرون، لأفتى بما يوافق الحياة المستجدة في غرناطة، ولم يستمسك بالمشهور من المذهب المالكي، إذ لا يمكن بحال من الأحوال، أن ينفصل التنظير الفقهي والأصولي عن الحياة الفقهية العملية للمُنَظر، كما لا يمكن أن تناقض كتب نفس المؤلف بعضها بعضا
وتارة أُحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أو في غيره وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب الموافقات… وتارةً نُسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناءً منهم على أن الجماعة التي أُمر باتباعها وهي الناجية ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا علي في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال”
*بعض فصول وعناوين كتاب الاعتصام.
· فصل ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة.
· فصل ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعاً.
· فصل فإن قيل فالبدع الإضافية هل يعتد بها.
اقرأ أيضا: علي اليوسفي: البعد الشيطاني للخطاب الديني… أصل الإرهاب والتطرف 3\3
· والعاشر تحكيم العقل على الله تعالى وبيان فساد ذلك وكون الله تعالى له الحجة البالغة والمشيئة المطلقة.
· آثارهم في عدم تحكيم عقولهم في صفات الله وعقائد دينه.
· فصل النوع الرابع أي من مناشئ الابتداع وهو إتباع الهوى.
· تفضيل علوم الشريعة على سائر العلوم.
وعلى العموم، فكتاب الاعتصام طافح بنفس سلفي لا يختلف عن تنظيرات ابن تيمية وابن القيم للاتباع المبني على عدم تجاوز رسوم الشريعة أو تقديم العقل والمنطق في فهم النصوص. فمن أين جاء منظرو فقه المقاصد بالشاطبي ليبرروا نظرتهم المقاصدية المنفتحة على منتجات الفكر الغربي نهلا وتطويعا واستلهاما ؟؟
لقراءة الجزء الثاني: التجديد عند الشاطبي: تحريم الفلسفة والمنطق… وباقي العلوم ! 2/3
لقراءة الجزء الثالث: حرم العلم وألغى العقل. هل يصلح المذهب الفقهي والعقدي للشاطبي أساسا للتجديد والإبداع ! 3/3