حرم العلم وألغى العقل. هل يصلح المذهب الفقهي والعقدي للشاطبي أساسا للتجديد والإبداع؟ 3/3 - Marayana - مرايانا
×
×

حرم العلم وألغى العقل. هل يصلح المذهب الفقهي والعقدي للشاطبي أساسا للتجديد والإبداع؟ 3/3

يقف الباحث متحيرا من التوفيق بين اعتبار الشاطبي مقاصديا، ينظر لمعاني وروح الشرائع التي أتت لمراعاة مصالح العباد الدنيوية والأخروية، ودفعهم لحياة ملؤها الصلاح، أو السعادة بمفهومنا المعاصر، وبين هذا التحريم لكافة العلوم، التي تحد من رقي حياة الناس ورفاهية مجتمعاتهم وتحكم عليهم بعيش حياة بدائية بعيدة عن التحضر ووسائله…
وهذا فعلا ما دخله العالم الإسلامي، بعد الاستجابة لخطاب الشاطبي وغيره من المحرمين للعلوم، من سبات عميق، وتخلف حضاري لم يستفق منه إلا بالاحتكاك الحضاري، وتعرضه للاحتلال من طرف الدول المتقدمة.

حسن الحو

من خلال الجزأين الأول والثاني من هذا الملف، حاولنا الكشف كيف أن حياة الشاطبي العلمية وآراءه الفقهية، كانت بالأساس ترجمة فعلية لما دونه في كتاب المقاصد.

فلو كان فعلا يريد منها ما أراده المتأخرون، لما رفع من شأن المتقدمين وشهد لهم ببعد شأوهم ورسوخهم في العلوم، للدرجة التي لا يدركهم فيها من بعدهم، ولما رُمي بالتشدد والتنطع، لثباته على المشهور من المذهب المالكي، وعدم التخفيف على الناس، وتسمية ما هم فيه من تغيرات في حياتهم الاجتماعية بالهوى والضلال، وليس بالمستجد الذي يتطلب فتاوى مقاصدية تلائمه.

في هذا الجزء الثالث والأخير، نواصل الكشف عن بعض آراء ومواقف الشاطبي، وكيف أنها لا تختلف عن آراء ومواقف من سبقوه… وعن سر اعتبار البعض له، صاحب نظرة تجديدية.

    الشاطبي ونظرية المقاصد.

يمكن القول إن نظرة الشاطبي لمقاصد الشريعة لا تختلف كثيرا عمن سبقه من الأصوليين، مع بعض التغييرات التي جعلت المهتمين تنظر لكتابه نظرة تجديدية أهمها:

         اعتبار أصول الفقه قطعية وليس جزئية في مخالفة للشائع عند الأصوليين والمتكلمين آنذاك من اعتبار أصول الفقه ظنية وليست قطعية.

         اعتماده على الاستقراء التام المفيد للقطع، لاستخلاص “كليات الشريعة” التي هي “كليات استقرائية” من أجل بناء الشريعة كلها على القطع، وذلك بإعادة صياغة أصولها بصورة تجعل منها علما برهانيا لا يتطرق إليه الظن.

اقرأ أيضا: ابن باجة… فيلسوفٌ ظُلِمَ حياً وميتاً

–          الأخذ بالمصالح المرسلة، واعتبار العادة والعرف ومراعاة المعاني والمقاصد في تقرير الأحكام، تماشيا مع أصول المذهب المالكي الذي كان يعتنقه، مع تقييد هذه المصالح بشرطين اثنين:

– 1   مراعاة مقاصد الشريعة الضامنة لاستمرارية وانسجام الأحكام بعضها مع بعض.

– 2 ألا يناقض الأخذ بالمصالح نقض أصل من أصول التشريع.

الشاطبي، في أغلب ما اختطه، لم يأت ببدع من القول، ولهذا رأى بعض الباحثين، أن ما فعله الشاطبي، لم يكن تجديدا أصوليا أو علما مستقلا للمقاصد حاول تأسيسه، بل هو محاولة للعودة بالأصول إلى معينها الأول، وتخليصها مما علق بها من الأساليب المنطقية التي اجتهد الإمام الغزالي في إدخالها إلى علم الأصول.

يقول الدكتور “فريد الأنصاري” في كتابه “المصطلح الأصولي عند الشاطبي”: “فالقصد به –أي مشروع الشاطبي- نقد مشروع الغزالي خاصة. صحيحٌ أنَّه لم يذكره إلا على سبيل الاستفادة منه والمدح له. ولكن طبيعة عمل أبي إسحق فيها نوع من النقد، بل النقض أحياناً لما بنى عليه الغزالي مشروعه العلمي”.

وسندعم قول الدكتور “فريد الأنصاري” بعدة دعامات، تبين أن الشاطبي لم يرد من كتابه ما أراده منه المتأخرون، ولم ينطق في حياته بما حاول استنطاقه من جعله إماما مقاصديا مجددا.

· الدعامة الأولى:

سيرة الرجل وحياته وفتاواه، وما استنكره عليه معاصروه من التشدد والجمود على المشهور من المذهب المالكي، وعدم محاولته التوفيق بين أحكام الشريعة وما استجد في الحياة الأندلسية، حيث شهد هو على نفسه على التزامه بحياة السلف ومنهجهم في الفتيا، واتباع الجماعة حتى لو خالف المفتي كل الناس في عصره، وهو بهذا لا يختلف عن متشددي السلفية، سواء القدماء أو المعاصرين، ويمكن الرجوع لمقدمة كتاب الاعتصام حيث صرح هو بذلك.

· الدعامة الثانية:

نظرته الارتكاسية لتطور الحياة العلمية، واعتقاده أن ما تقدم من علوم السلف خير مما تأخر، وأن العلم الشرعي ما حازه الأوائل، ومن أتى بعدهم عالة عليهم وتبع لهم. وهذه المعضلة العقدية والفكرية، التي تعضدها النصوص ويخالفها الواقع، ليست حكرا على الشاطبي، فأغلب المسلمين يعتقدون أن السلف خير من الخلف، وأن أفضل القرون هي القرون الثلاثة الأوائل، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق.

اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: تاريخنا المثالي العظيم

هذه المعضلة أوقفت العقل الإسلامي عن الإبداع الفكري والفقهي، وجعلت كل منطلقاته الفكرية محكومة بالتواضع والمفضولية. ولعل الاطلاع على نماذج من اجتهادات المفكرين غير المسلمين، الذين يرون أن مسار العلم والحياة تقدمي وليس ارتكاسيا، تبين أن حياة الخلف خير من حياة السلف. فلم يكن السلف منظرين لدولة المؤسسات والأعراف الديمقراطية التي تحد من استبداد وفساد السلطة الحاكمة، ولم يُنظر السلف لتجريم الرق وتحريم الاتجار بالبشر، ولم يؤسسوا منظمات عالمية لحقوق الإنسان…

فكيف يمكن اعتبار الشاطبي مجددا سيمهد لعصر من الانفتاح والتطور الأصولي المقاصدي الذي يحتضن ويستشرف مستجدات الحياة العصرية وهو القائل: “المتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم” ؟.

· الدعامة الثالثة:

تحريمه لكافة العلوم النظرية والطبيعية، واعتبارها مضيعة للوقت، غير الاشتغال بالعلوم الشرعية، وقد سبق في ثنايا هذا الملف، اقتباس مستفيض لدفاعه عن تحريم العلوم. لكن لابأس أن نعيد التذكير باقتضاب لنظرته المقللة من شأن العلم، يقول: “كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه… ”

هنا يقف الباحث متحيرا من التوفيق بين اعتبار الشاطبي مقاصديا، ينظر لمعاني وروح الشرائع التي أتت لمراعاة مصالح العباد الدنيوية والأخروية، ودفعهم لحياة ملؤها الصلاح، أو السعادة بمفهومنا المعاصر، وبين هذا التحريم لكافة العلوم، التي تحد من رقي حياة الناس ورفاهية مجتمعاتهم وتحكم عليهم بعيش حياة بدائية بعيدة عن التحضر ووسائله، وهذا فعلا ما دخله العالم الإسلامي، بعد الاستجابة لخطاب الشاطبي وغيره من المحرمين للعلوم، من سبات عميق، وتخلف حضاري لم يستفق منه إلا بالاحتكاك الحضاري، وتعرضه للاحتلال من طرف الدول المتقدمة.  لكن الحيرة تنتهي بمجرد معرفة أن الشاطبي… لم يقل بما تم تقويله إياه ولم يرد من كتابه ما تم فهمه عنه.

· الدعامة الرابعة:

رهن الدين بمعهود وعرف العرب، وهذه عجيبة أخرى لا تقل عجبا عن سابقاتها. فكيف يمكن الجمع بين عالمية الدين، ورهنه بعادات أمة من الأمم وأعرافها ؟، يقول الشاطبي مبينا هذه القاعدة: “لا بد في فهم الشريعة من إتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرف، وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب“.

اقرأ أيضا: توريث جاه النبوة: سياسة للناس، توسيع للنفوذ ومراكمة للثروات! 3/2

هذه الدعوة من الشاطبي، للاقتصار في فهم الشريعة على معهود العرب وعرفهم، والتغاضي عن عالمية الشريعة، تنسف عدة مدارس فكرية، على رأسها المدرسة القرآنية، مدرسة الإعجاز العلمي، المدرسة المقاصدية الحديثة…

· الدعامة الخامسة:

عدم القول بالتحسين والتقبيح العقلي، واعتبارهما خصيصة شرعية. فالحسن ما استحسنه الشرع والقبيح ما استقبحه، وكل ما يستجد من مصالح العباد، لا يمكن استحسانه ولا شرعنته، إلا بعد سلسلة من الفلترة عبر قنوات الأصول الشرعية وثوابتها ومقاصدها، ثم القول بقبوله أو رفضه… وهي طريق شاقة، تضيع الكثير من المصالح، لاختلاف نظر المجتهدين ووجهات نظرهم واختلاف مدراس الفقهية.

هناك تشبيه لطيف للدكتور “عدنان إبراهيم” في أحد فيديوهاته لهذه المسألة، حيث شبه هذه العملية المعقدة في استحسان المصالح والإفتاء بجوازها، بمن يقود سيارته في دروب ضيقة تحد من سرعتها، وبمن يقود في الطريق السيار، فلا يجد الكثير من العوائق التي تعرقل حركته إلى الأمام.

بعد هذه الدعامات، وغيرها مما يطول ذكره، كمذهب الشاطبي الأشعري، ونفيه لمبدأ السببية، ونظرة طائفة كبيرة من علماء الإسلام إلى الشاطبي باعتباره استمرارا لسيرورة علمية، وليس شماعة يحاول التجديديون إلصاق اجتهاداتهم بمذهبه المقاصدي، يمكننا أن نفسر الفشل الذريع الذي مُنيت به الحركات الإسلامية في تجديد الخطاب الديني، بالرغم من المجالس الفقهية المبنية لهذا الهدف، والاجتهادات الكثيرة، التي حاولت من خلالها اللحاق بركب التطور الفكري والسياسي، وتوفير مرجع من الفتاوى التي تسهل اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية المستقبلة.

لكن، رغم كل ما سبق، لازال الاجتهاد الفقهي المقاصدي منقسما على نفسه بين مبيح وحاظر، ولازال زمام المبادرة غائبا في إنتاج فقه مقاصدي معاصر، يحوز قصب السبق في خلخلة ما يصطلح عليه بالثوابت، ولا يكتفي بإضفاء الشرعية على مستحدثات الفكر الغربي في الإدارة والمالية والاجتماع…

اقرأ أيضا: “نصوص متوحشة”: هكذا أسس أبو حامد الغزالي لخطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/2

كل هذا لأن المنطلق كان خاطئا منذ البداية، والمذهب الفقهي والعقدي للشاطبي، الذي تم التعسف عليه، لا يصلح أن يكون أساسا للتجديد والإبداع، وهو من أدخل العالم الإسلامي في التخلف ومعاداة العلوم، ولازالت تأثيراته السلبية سارية في فكر وأدبيات المذاهب الإسلامية ليوم الناس هذا.

ثم لماذا تم اختيار الشاطبي لبناء الفكر المقاصدي، وعدم اختيار مبادئ وأفكار ابن رشد؟؟؟ مع البون الشاسع بين فكر الرجلين. فابن رشد لم ير المقاصد خاصة بالفقه وأعمال المكلفين، بل جعلها روحا سارية حتى في نصوص العقائد، ولم ير بأسا من التفلسف والنهل من شتى العلوم، واعتبار الدين والفلسفة وسيلتان مختلفتان للبحث عن الحقيقة والمعرفة، ولم تكن عنده النظرة الارتكاسية للعلوم بل يراها سيلا متدفقا للأمام.
لكن ابن رشد حورب في زمانه، وحُرقت كتبه ونُفي فكره قديما وحديثا، بينما تبناه العالم الغربي المتلمس طريقه نحو النهوض، واعتمد آراءه وكتبه في جامعاته قرونا من الزمن، وخلد ذكره بلوحات فنية وتماثيل وأطلق اسمه على بعض الكويكبات…
فانظر للفرق بين المجتمعات التي تبنت مقاصد “الشاطبي” وبين من تبنت مقاصد “ابن رشد”.

 

لقراءة الجزء الأول:وصفوه بمؤسس علم المقاصد. الشاطبي… المُجدد الذي دعا إلى “الوقوف عند اجتهادات الأوائل”! 1/3

لقراءة الجزء الثاني: التجديد عند الشاطبي: تحريم الفلسفة والمنطق… وباقي العلوم ! 2/3

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *