تونس: عشر سنوات من التدافع لا يثمر سوى الدفع القسري أو القهري؟
الإخوان اليوم في حال من الذهول، وذلك بعد تعيين شخصية مستقلّة لرئاسة الحكومة، وبخاصّة شخصية متخلّصة من كلّ عيب يمكن أن يعوق عملها فيحوّلها إلى فريسة للمقايضة الحزبية، صفتها الطاعة والذلّ والخنوع لرغبات الإخوان ومن والاهم…
هم في حال من الفزع، لإدراكهم أنّ كلّ ما غنموه في العهد الذهبي مع الباجي ينفلت من بين أيديهم وأرجلهم، وأنّ التدافع الذي هلّلوا بتطبيقه صار يدفعهم إلى القبول القسري بالآخر فإذا هو القهر والغبن… وإذا هو الفشل والخيبة والخسران…
عشر سنوات مرّت والغنوشي يحاول وخز جسمنا الاجتماعي بالمزيج العجيب الذي صنعه شيخه الأوّل البنّا… مزيج، اعتبره في كتاباته، حاملا لذاك المفعول السحري الذي يحوّل المرء بقدرة إخوانية من إنسان عاديّ إلى دمية قدّت من مبادئ إخوانية، أو قل إلى مريد سُبِل عليه الحجاب: لا يفكّر ولا يرى ولا يتذوّق إلاّ ما يوحي به إليه ويوجّهه إليه أو يرضاه له حلالا زلالا… وذاك هو مفهوم الطاعة المنشود، ويوم تسود هذه الطاعة الوطن، تنتصب الخلافة الإخوانية فيعيش الناس حالة من الاستغفار بحثا عن صراط مستقيم يهيدهم إلى باب من أبواب الجنّة…
عشر سنوات مرّت والناس يتألمون لوخز الإبر المؤلم، وعبّروا عن ألمهم بالاحتقان والرفض، رغم سعي الأحزاب الطفيلية إلى خنق الأنفاس وتقييد الأيدي والأرجل والألسنة… رغم عملها الكثيف في التطلّع إلى الاقتراب من الصورة الإخوانية البهية…
عشر سنوات مرّت وهم يجرّبون.. قرؤوا علينا جميع التعويذات عسى أن نهدأ… التجأوا إلى جميع الحيل، أوهمونا أنّهم لا يحكمون، فإذا هي ليست سوى مناورة حربية، ساعدتهم على تنفيذها أحزاب كان شرارها فاشوشا لا غير، فإذا بها قسمة ضيزى، للإخوان فيها الأعماق والغوص في هويتنا، ولهم البهرج والزينة التي توهم بأنّ تونس في أبهى زينة ديموقراطية، ولا يدرك بأنّ هذه الديموقراطية فيها واوا، فإذا هي صنعة إخوانية أدخلوها معمل تغيير المصطلحات لتواكب مطامحهم ولا تتنافر مع المبادئ الكونية… وإذا بها تخرج إلينا مرّة أخرى هجينة منبتّة…
الباجي انساق وراء اتفاق مستور مع الغنوشي قوامه، لي القصر ولك البلاد بعبادها وأرضها… وكان ما كان من نتائج، واستقوى الغنوشي، وقويت علاقة الحبّ بين الرجلين، وأعتقد أنّ الغنوشي أحسن توصيفها في مرثيته الأخيرة، عندما تحدّث عن التناغم الجامع بين الرجلين
عشر سنوات من التجارب، جعلت منّا أمّة تعيش احتفالا لا ينقطع… جحافل من رؤساء الحكومات ووزراء تكفي أمّة أخرى دهرا… وجميع من اعتبر أهلا من الإخوان أو المنتمين إلى الأحزاب مرّ من القصبة، وخرج منها بفضائل ومزايا صارت تقتطع من لحم تونس، لحمنا الذي انتشر أجزاء وفتاتا.. إنّها الغنيمة يا سادتي بجميع معانيها الفقهية، غنيمة اعتبروها حلالا بما أنّهم فتحوا البلاد فتح عنوة لا فتح صلح… النقطة الإيجابية الوحيدة التي خرجنا بها في هذه السنوات هي اكتنازنا ل 208 وزيرا و83 كاتب دولة، دون أن نحتسب تلك الحشود من المستشارين الذين يأتي بهم هؤلاء لإتمام البهرج والتزويق… ثروة تكلّفنا غاليا إلى يومنا هذا، وكدّست أكياسا على أكتافنا بما أخذته من مزايا عينية ومثلية…
اقرأ ايضا: الطريق إلى الإرهاب: خطّة الإخوان لاختراق الدّولة والسّيطرة عليها
جميع هذه المحاصيل توفّرت لنا بفضل تلك المصطلحات التي لحّن لها الغنوشي وأتباعه، مع من اعتبر حداثيا من الأحزاب، أنغاما من صنف نغمة التوافق، ونغمة وزراء متحزّبون أكفّاء، ونغمة حزام حزبي عريض… فإذا به حزام ناسف لقيم الدولة المدنية وللاستقرار السياسي… حزام ينسف مؤسسات الدولة ويحيط بالفساد حاميا له ورادّا عنه أذى المخالفين…
واليوم، تعيش تونس لحظة جديدة، وأدها التحالف الهجين والتوافق القميء، لكن، ظلّ التونسي العاديّ يطلبها ويرنو أن يراها ترفرف في أفق بلده: إنّها لحظة التحرّر من الاستعمار الحزبي، استعمار مقنّع بكلّ ما تشتهيه الأنفس، غير أنّه قناع مخادع مسموم.
يمكن أن نتساءل: وماهي العوامل الجديدة التي غيّرت مجرى الهواء بتونس؟ حتى نقول إنّ عهدا جديدا بدأ يولد… فالإخوان في الحكم مع أحلافهم السياسيين والمتسلّقين الذين تكفيهم نظرة رضا من شيخ الإخوان… ونحن على صراخنا باقون نحذّر وننبّه ونلطم حظّنا العاثر… الجديد يا سادتي هو خروج سعيد عن قطيع من سبقه من الرؤساء بعد 2011، رئيس يعي بما يمتلك من قدرات وامتيازات لا تمنح سوى لرئيس الجمهورية، صحيح أنّها امتيازات قليلة، لكنها هامّة وفاعلة، إذا ما أحذق توظيفها شخص عالم بالقانون…
وفي هذه المسألة أعود بكم إلى ليلة من ليالي جانفي/ يناير 2014… ليلة الإمضاء على الدستور… في تلك الليلة، بكى الغنوشي في القاعة المحاذية لقاعة الجلسات ثمّ سجد للّه شاكرا… في تلك الليلة ارتمى الإخوان والأخوات في حال هستيرية مهنّئين بعضهم بعضا، وملأت الزغاريد القاعة… ولا أخفيكم، شعرت في تلك اللحظة بالخوف من هذا الدستور… وأحسست أنّ فرح الغنوشي ورعيته به، ليس مسألة مجانية… هذا بالرغم من أنّنا، باعتبارنا مجتمعا مدنيّا، كنّا يقظين لكلّ شاردة واضحة رغب الإخوان تسريبها في الفصول… لكن للإخوان مكرا لا يعلمه إلاّ الله… وفهمت أنّ هذا الدستور الذي قال عنه الغنوشي “أفضل دستور في العالم”، يحمل أفخاخا ستبوح بها الأيام، وأنّه لم يكتب البتة من صفحة بيضاء كما سوّق لذلك الحداثيون… ثمّ تتالت الأعوام لنبدأ في اكتشاف مطبّات هذا الدستور، وفهمنا أنّهم سكبوا القوانين المتعلّقة برئيس الجمهورية في قوالب لا تتجاوز من يرون فيه الشخصية الصالحة لهذا المنصب، لا الشخصية التي يرشّحها الشعب… شخصية تسلّم مقاليد الحكم للإخوان، وفي الظاهر تقوم بدور المشارك فيه… شخصية ليس لها من مكسب سوى أن تتحرّك في القصر وتنعم بالهواء النقيّ لقرطاج. فكانت لنا أوّل تجربة مع السبسي.
اقرأ أيضا: عسكرة الرّعب: من الجهاز الخاصّ إلى الجماعة المقاتلة. تعاليم سيد قطب
في هذه المسألة أيضا أعود بكم، على سبيل التذكير لا غير، إلى الحملة الانتخابية التي قام بها السبسي: حملة ركّزت على مقاطعة الإخوان… العمل على إقصائهم من الحكم… ولا تعويل سوى على الكفاءات، حملة اختصرها في جملته الشهيرة “نحن والنهضة خطّان متوازيان لا يلتقيان”. وغلبت سذاجة القطيع، واندفع الناس وراء التصويت للباجي ولا شخص غيره، وجميع ذلك حماية لتونس وإنقاذ ما تبقّى من تونس، وخاصّة تأمين المحاسبة بالنسبة لمن كان مذنبا، وخاصّة بعد أن انتشر بين الناس اعتقاد شبيه باليقين، أنّ الإخوان هم من قتلوا الشهيدين (شكري بلعيد ومحمد البراهمي)… وفي هذه الأجواء دخلنا الانتخابات…
وفاة السبسي كان رزية بالنسبة للغنوشي، كان درعه الحامي من نقد المخالف… والرداء الواقي من ضربات الحقوقيين الذين فتحوا ملفّ التسفير والجهاز السريّ واغتيال الشهيدين… كما كان دعامة أساسية وطريقا مفتوحا أمام برنامج الإخوان في تطبيق سياسة التدافع، التي تفرش لهم غطاء حريريّ الملمس ليتمكّنوا في الأرض… حتى أنّنا نكاد نقول إنّ الباجي لأشدّ إخوانية من الإخوان أنفسهم…
لكن… حدثت أمور غريبة، فإذا بالباجي صامت في ركن من أركان القصر… وإذا بالغنوشي يخاطب أتباعه “نحن تركنا الحكومة ولم نترك الحكم”، فنزلت جملته عليهم بردا وسلاما… ” فبهت الذي كفر”… وبدأ الغنوشي في الاستقواء… وإذا بالجماعة والسبسي وجماعته إخوان صفا وخلاّن وفاء… وإذا بالناخب العادي يتساءل بأيّ ذنب أقصي!!! وإذا بنا ندرك أنّ الباجي انساق وراء اتفاق مستور مع الغنوشي قوامه، لي القصر ولك البلاد بعبادها وأرضها… وكان ما كان من نتائج، واستقوى الغنوشي، وقويت علاقة الحبّ بين الرجلين، وأعتقد أنّ الغنوشي أحسن توصيفها في مرثيته الأخيرة، عندما تحدّث عن التناغم الجامع بين الرجلين إذ يقول: “سنة 2016 كان سي الباجي حريصا على حضوري مؤتمر النداء بسوسة وأذكر طرفة وهو أنّ سيارتي تعطلت في زحمة المرور فأعطى تعليماته بتخفيض سرعة موكبه الرئاسي حتى نصل في نفس الوقت”. فهل يوجد تنازل أكثر من تنازل السبسي حتى يسوّي بينه، هو الرئيس المنتخب من التونسيين، بالغنوشي المنتخب من جماعة المعبد؟؟؟ والغريب أنّ الغنوشي يضيف معاني جديدة للمصالحة بين النداء والإخوان، أعتقد أنّها ستسهم لا محالة في إنارة مواطن كثيرة ظلّت مظلمة في تجربة السبسي مع الغنوشي… إذ يقول: “أذكر ونحن في بيته في سهرة أنّ أحد الحاضرين في اللقاء المضيق قال “سي الباجي انت والشيخ أخوة”، فأجابه “بل نحن أصدقاء لأن الأخ لا يختار شقيقه وقد لا يتفق معه ولكن الصديق يختار صديقه”. أكتفي بهذا القدر من شهادة زعيم الإخوان في السبسي، لأنّ ما قدّمه من معلومات في مرثيته بمناسبة مرور سنة على وفاته، كفيل بأن يكون ورقة عمل أساسية لفهم نظرية التدافع في تونس ونتائجها على أهل القرار…
اقرأ أيضا: في ذكرى اغتياله، حسين الوادعي يكتب: هل كان لفرج فودة مشروع فكري؟
المفيد، هو أنّ وفاة السبسي كان رزية بالنسبة للغنوشي، كان درعه الحامي من نقد المخالف… والرداء الواقي من ضربات الحقوقيين الذين فتحوا ملفّ التسفير والجهاز السريّ واغتيال الشهيدين… كما كان دعامة أساسية وطريقا مفتوحا أمام برنامج الإخوان في تطبيق سياسة التدافع، التي تفرش لهم غطاء حريريّ الملمس ليتمكّنوا في الأرض… حتى أنّنا نكاد نقول إنّ الباجي لأشدّ إخوانية من الإخوان أنفسهم… ولنا عودة لفتح ملفّ تجربة الحكم بتونس من 2014 إلى 2019. ونكاد نقول… لولا الباجي وجماعته لما تمكّن الغنوشي وجماعته في أرض تونس.
واليوم، يعيش الإخوان تجربة جديدة في علاقتهم بالسلطتين الرئاسية والحكومية. ولعلّ طرافة هذه المرحلة، هي أنّها عبّرت عن أنّ تجربة التدافع لا تنتهي إلى الجنة الإخوانية، بقدر ما هي مفضية بهم إلى هوّة مجهولة… والسبب الأصلي يعود إلى سذاجة الجماعة التي تُفسّر بالاطمئنان والغرور الذي أشبع غريزتهم في حبّ الحكم والسلطان… غرور تمظهر في الاستهانة بكلّ شخصية تخالفهم الرأي وبإيمانهم أنّهم الأقدر والأرفع والأقوى والأذكى والأدرى… وهكذا سرعان ما طالتهم نيران التدافع، لينال شرارها المعبد بدء بزعيمهم… فإذا بالقيود المكبّلة تتكسّر لتطوّق أعناقهم… وإذا بهم اليوم يدركون، أنّ الدستور لم يعد أفضل دستور في العالم… وأنّ سعيد لم يدخل في القالب الجاهز الذي وضعوه لرئيس الجمهورية… وإذا بهم يصطدمون بحقيقة مرّة هي انقلاب السحر على الساحر…
الإخوان اليوم في حال من الذهول، وذلك بعد تعيين شخصية مستقلّة لرئاسة الحكومة، وبخاصّة شخصية متخلّصة من كلّ عيب يمكن أن يعوق عملها فيحوّلها إلى فريسة للمقايضة الحزبية، صفتها الطاعة والذلّ والخنوع لرغبات الإخوان ومن والاهم… هم في حال من الفزع، لإدراكهم أنّ كلّ ما غنموه في العهد الذهبي مع الباجي ينفلت من بين أيديهم وأرجلهم، وأنّ التدافع الذي هلّلوا بتطبيقه صار يدفعهم إلى القبول القسري بالآخر فإذا هو القهر والغبن… وإذا هو الفشل والخيبة والخسران…
وعلى كلّ، إنّ غدا لناظره لقريب.. فقد علّمنا التدافع أنّ القادم من الأيام لا يمكن التنبّؤ به… وأنّها أيام حمّالة أوجه.