ملاحظات أولية حول تطبيق الشريعة في المغرب خلال العصرين الوسيط والحديث
…ألا تدعو هذه النصوص للتساؤل حول مدى حضور الشريعة الإسلامية كمصدر قانوني؟
ألا يمكن القول إن طبيعة العقاب في المغرب، ارتبطت بمنظومة أكبر من المنظومة الشرعية، وإن العقاب لم يكن مجرد أحكام نظرية فحسب؟
قد يبدو التساؤل حول مصادر التشريع في المغرب، خلال العصرين الوسيط والحديث، مثيرا للاستغراب، إذ يعد من نافل القول إن مصدر التشريع هو أحكام الشريعة الإسلامية، وإذا كان عدد من الحدود مقدر بآيات قرآنية، كعقوبة الزنا والسرقة وغيرهما، فإن الحبس والتطويف والتشهير وغيرهم من العقوبات التعزيرية التي شهدها المغرب الوسيط والحديث، يعود تقديرها إلى من يتولى أمور المسلمين، أو من ينوب عنه، وذلك باستحضار مجموعة من الحيثيات، كنوع الجرم المقترف ووضعية المذنب”[1].
بيد أن هذا التصور يصطدم بعدد من الروايات التاريخية التي تجعله محط شك ونظر، ويبدو معها من الضروري التساؤل:
إلى أي حد كانت أحكام الشريعة الإسلامية، مصدر تشريع في المغرب خلال الفترة الوسيطية والحديثة؟ وهل كان المغرب الأقصى آنذاك يطبق أحكام الشريعة الإسلامية؟.
أثناء محاولة استقراء المصادر التاريخية، نجد أن الحسن الوزان المعروف بليون الافريقي، والذي عاش خلال القرن السادس عشر، يحكي في كتابه “وصف افريقيا” عند زيارته لبعض القبائل الأمازيغية أن: “فيها شيوخ وفقهاء إلا أن هؤلاء غير مختصين في النظر في جرائم القتل والجروح. وإذا ارتكب شخص إحدى الجرمتين وظفر به أهل الضحية قتلوه، وإن لم يظفروا به نفي سبع سنوات، وعند انقضاء مدة النفي يرفع عن المجرم حظر الإقامة إذا أدى غرامة (دية) لذوي القتيل”[2].
يورد ابن زيدان رسالة من المولى محمد بن عبد الرحمان إلى أحد القائمين على سجونه من بين ما ورد فيها: “ومن كان مسجونا منهم في حق تعلق به لغيره من دم أو غيره ولم يكن من أهل الدعارة والفساد فوجه على أصحاب دعواه يسلكون الشرع مع وكيله حتى تقف الدعوى وأعلمنا، ومن كان من أهل الدعارة أو معلوما بالسرقة والفساد فالسجن أولى به
تطرح هذه الرواية أكثر من سؤال، فهذه القبائل، ورغم وجود نصوص وحدود واضحة بخصوص أحكام القتل والجروح، إلا أنها لا تطبقها، ليس جهلا بها، فالوزان يؤكد وجود شيوخ وفقهاء عالمين بالدين، ولكن إعمالا لعرف خاص جرى العمل به في عدد من القبائل الأمازيغية، كما يؤكد ذلك الحسن الوزان في عدد من الروايات أدرجها في كتابه وصف افريقيا حول ذات الموضوع.
قد يرد على هذا الأمر بكونه متعلقا بأعراف قبلية، حيث لم تكن السلطة المركزية قد بسطت يديها، غير أن رواية أخرى للحسن الوزان، تتعلق هذه المرة بمدينة تيبوت تنفي هذه الفرضية، وتذهب في اتجاه تأكيد معطى وجود نوع من الفصل بين الدين في جانبه التعبدي والتشريعي عند المغاربة في تلك الفترة، إذ يذكر الوزان أنه وجد فيها:
“قضاة وفقهاء يرجع إليهم في الأمور الدينية، أما المسائل الدنيوية فإن من كان أكثر أهلا كان أكثر حظا فيها، وإذا حدث أن قتل رجل منهم آخر، فإن تمكن أهل القتيل من الاقتصاص من القاتل انتهى الامر، وإلا نفي القاتل لمدة سبع سنوات أو بقي في المدينة رغم أنف أهل القتيل. وإذا نفي القاتل فتلك عقوبته، وعندما تنتهي مدة النفي يستدعي جميع الأعيان إلى وليمة ويتصالح مع خصومه”[3].
اقرأ أيضا: من نقد التراث إلى نقد العقل: الجابري يفكك عقل الغنيمة، القبيلة وشرعنة الاستبداد 3/3
تضعنا هذه الرواية أمام معطيات عديدة، عن إعمال العرف في تدبير الخلافات أو الجانب التشريعي، بالتالي… التساؤل عن مدى حضور الأحكام الشرعية في الحياة اليومية في المغرب الأقصى خلال العصرين الوسيط والحديث؟.
قد يشكك البعض في روايات ليون الافريقي باعتبار تنصره وانتمائه لفضاء ثقافي آخر، كان على علاقة متوترة بهذا المجال الجغرافي، بل وكان يسعى إلى إيجاد موطئ قدم مسيحي فيها، لكن استقراء عدد من الروايات من داخل النسق الثقافي المغربي الإسلامي، يطرح العديد من علامات الاستفهام، “ففي رواية مناقبية، تعرض أحد أصحاب الشيخ أبي زيد عبد الرحمن الهزميري بأغمات للسرقة بالحمام، وكانت المسروقات عبارة عن ثمانين دينارا من الذهب وحجر من الياقوت وكرة من العنبر، فكان أن لجأ حاكم المدينة إلى “تفتيش الناس وسجن بعضهم”[4].
ونجد الونشريسي في المعيار، يفتي في حق من اشتهر بالسرقة: “وعرف بها سجن أبدا حتى يموت في السجن”[5]، هذا برغم ورود حد صريح للسرقة في النص القرآني، وبرغم وجود معايير واضحة يمكن على أساسها توجيه تهمة السرقة، إلا أن الونشريسي أفتى بتجاوز الشرع، أو على الأقل كان ثمة نوع من الالتفاف عليه بشكل أو بآخر.
بعد الونشريسي بقرون، نجد أن ابن زيدان في كتابه العز والصولة، يحدثنا عن الفئات التي كانت تملأ سجون الدولة العلوية فيقول:
” لم تكن غياهب سجونها مستودعا إلا لأهل الدعارة والجناة، والأشرار والبغاة، وكانوا يحرصون كل الحرص على أن لا يبقى مودعا بسجونهم إلا أرباب الجرائم والفساد، وأهل البغي والعناد”[6]، نستشف من هذا النص طبيعة الجرائم التي كانت تقود للسجن في الفترة الحديثة، فبرغم ورود نصوص صريحة وقطعية الدلالة بخصوص عقوبة الزنا، والقاضي بالجلد 100 جلدة، إلا أن السجن كان هو مجال من عرفوا بهذه النوعية من الجرائم.
الحسن الوزان المعروف بليون الافريقي، والذي عاش خلال القرن السادس عشر، يحكي في كتابه “وصف افريقيا” عند زيارته لبعض القبائل الأمازيغية أن: “فيها شيوخ وفقهاء إلا أن هؤلاء غير مختصين في النظر في جرائم القتل والجروح. وإذا ارتكب شخص إحدى الجرمتين وظفر به أهل الضحية قتلوه، وإن لم يظفروا به نفي سبع سنوات، وعند انقضاء مدة النفي يرفع عن المجرم حظر الإقامة إذا أدى غرامة (دية) لذوي القتيل”
في ذات السياق أيضا، يورد ذات ابن زيدان رسالة من المولى محمد بن عبد الرحمان (1789-1859) إلى أحد القائمين على سجونه مؤرخة ف 28 ربيع الأول 1281 هجرية، كان من بين ما ورد فيها:
“ومن كان مسجونا منهم في حق تعلق به لغيره من دم أو غيره ولم يكن من أهل الدعارة والفساد فوجه على أصحاب دعواه يسلكون الشرع مع وكيله حتى تقف الدعوى وأعلمنا، ومن كان من أهل الدعارة أو معلوما بالسرقة والفساد فالسجن أولى به”[7].
نقف هنا على تمييز هذه الرسالة بين نوعين من الجرائم، ما تعلق بحق للغير أو من كان ممن عرف بالدعارة والسرقة. إن هذا التمييز الموجود في متن الرسالة، يطرح أكثر من علامة استفهام، حول ضرورته، إذا ما افترضنا أن إعمال أحكام الشريعة كان هو الأصل المطلق.
اقرأ أيضا: في ذكرى اغتياله، حسين الوادعي يكتب: هل كان لفرج فودة مشروع فكري؟
…ألا تدعو هذه النصوص للتساؤل حول مدى حضور الشريعة الإسلامية كمصدر قانوني؟ ألا يمكن القول إن طبيعة العقاب في المغرب، ارتبطت بمنظومة أكبر من المنظومة الشرعية، وإن العقاب لم يكن مجرد أحكام نظرية “فحسب وإنما هو على وجه الدقة فعل يؤثر في الأشخاص الذين يقع عليهم فعل العقاب، ويؤثر فيه أيضا الفضاء الذي يجري فيه العقاب”[8].
ألا يجب النظر إلى الموضوع ومقاربته من زاوية أخرى ترتبط بالتمرحل التاريخي للسلطة وعقلها التأديبي والعقابي، في علاقة بالمجال والمقدس والمجتمع؟.
[1] مصطفى نشاط، السجن والسجناء نماذج من تاريخ المغرب الوسيط، الرباط، منشورات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، 2012، ص 11.
[2] – الحسن بن محمد الوزان، وصف افريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الجزء الأول، الطبعة 2، لبنان، دار الغرب الإسلامي، 1983، ص 109.
[3] – نفسه، ص 117.
[4] – مصطفى نشاط، مرجع سابق، ص 19.
[5] – أحمد بن يحيى الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، إشراف محمد حجي، الجزء 2، الرباط، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ودار الغرب الإسلامي، 1981، ص 286.
[6] – عبد الرحمن بن زيدان، العز والصولة في معالم نظم الدولة، الجزء الثاني، الرباط، المطبعة الملكية، 1962، ص 115.
[7] – نفسه، ص 123.
[8] – كريستيان لانغ، العدالة والعقاب في المتخيل الإسلامي خلال العصر الوسيط، ترجمة رياض الميلادي، بيروت-لبنان، دار المدار الإسلامي، 2016، ص17.