من نيويورك، هشام الرميلي يكتب: حين سقطت راية… - Marayana - مرايانا
×
×

من نيويورك، هشام الرميلي يكتب: حين سقطت راية…

فتحنا كتاب القراءة على الصفحة الأولى ووقف “سّي حسن”، معلم الصف الأول التحضيري، بطربوشه الوطني وعصاه الرقيقة الطويلة، أمام السبورة. أخدنا نردد وراءه نص المطالعة الأول في مسيرتنا التعليمية: كمال …

هشام الرميلي

فتحنا كتاب القراءة على الصفحة الأولى ووقف “سّي حسن”، معلم الصف الأول التحضيري، بطربوشه الوطني وعصاه الرقيقة الطويلة، أمام السبورة. أخدنا نردد وراءه نص المطالعة الأول في مسيرتنا التعليمية:
كمال كمال
هذا علم بلادي
كريم كريم!
علم بلادي أحمر

طلب منا المعلم أن نشكل ثنائيات ونردد الحوار. بعد أن تأكد من جودة أدائنا، أخد يشرح لنا دلالات الراية ورموزها، فاللون الأحمر هو دم المغاربة الأحرار الذين قضوا دفاعا عن استقلال البلد ووحدته، والنجمة الخضراء الخماسية هي أركان الإسلام، واللون الأخضر هو لون الخصب والنماء الذي حبا الله به هذه الارض.

ربما لم يدر بخلدك… أن هذا الفصل المنضبط كفيلق عسكري، سيثور يوما ويخرج الى الشوارع؛ وأن الراية الخفاقة فوق مبنى المدرسة، سوف تسقط لأن النظام مختل، وسيطرحها التلاميذ أرضا أمام مبنى البرلمان… فمن غير الممكن أن تبقى خفاقة متوازنة حين يختل مركز الثقل.

كان صوته يرتفع ويتهدج، وكان يبدو متأثرا بما يقول… لم يفته أن يحدثنا بأن الراية قيمة وطنية كبرى ومقدس من مقدسات الوطن، وأن أشرف ما يقوم به الانسان، هو أن يذود عنها ويحملها عالية في المحافل بين الأمم…

إقرأ لنفس الكاتب: بائعة الكبريت وراعي الغنم

كان هذا أول درس من دروس الوطنية، التي تلقيناها في مدرسة “الرجاء” الخاصة، التي شيدها أحد رجال الحركة الوطنية. بذلك، أصبحت الراية الكبيرة الخفاقة فوق مبنى المدرسة والتي تحركها رياح البحر القريب التي تهب عليها، هي علامة الوطن.

كان شعورا كبير ومبهجا ونحن نستلهم دروس “سّي حسن” ونتمثل حديثه… رفعنا الراية في المناسبات المدرسية وأدينا تحية العلم ونظرنا بفخر الى صورة المسيرة الخضراء المعلقة على جدران القسم: حشود غفيرة متحمسة تحمل الرايات وترفعها عاليا كما قال لنا “سي حسن”… ابتهجنا برفع العلم في محافل الرياضة، وكنا نطير فرحا ونحن نرى الراية وهي تتوسط الرايات الأجنبية في منصات التتويج، بل تعلوها وتصعد عاليا، يصاحبها عزف النشيد الوطني، في حين يذرف الابطال دموع الفرح السخية ويتلفعون بعلم الوطن.

الآن، وبعد ما يزيد عن ثلاثة عقود من درسك الأول، لكم تمنيت أن أخبرك، “سي حسن”، أن الراية لم يعد يرفعها المغاربة في المحافل فقط، ولم تعد تعلو بين رايات الأمم في المنافسات الدولية، ولم تعد تحمل في التظاهرات الوطنية والمناسبات فقط، بل أصبح للراية إيحاءات واستعمالات أخرى…

إقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: من يحكم المغرب؟ … “جهات ما”

رفعها عمال المصانع الذين يشتغلون بأجور زهيدة ويتعرضون للطرد التعسفي، وحملها عمال المناجم وهم يستخرجون جثة زميلهم القاصر، بعد أن هلك في انهيار نفق أرضي كان يحفر فيه لاستخراج الفحم طول النهار، من أجل خمسين درهما فقط… نعم أستاذي… خمسون درهما فقط !

انا ممتن لكل ما تعلمته منك أستاذي… لقد حاولتَ دائما أن تغرس فينا كل القيم… قيمة وحيدة لم تحدثنا عنها، وهي قيمة الإنسان… وكيف أن الإنسان هو مركز ثقل كل هذه القيم، وبانهياره تنهار كلها ولا تبقى لها باقية…

الراية علقت فوق “البراريك” وهي تتعرض للهدم فوق رؤوس ساكنيها. حتى بعد أن أصبحوا مشردين ولم يأبه لشكواهم أحد، لم ينسوا الراية يا أستاذي. نصبوا خياما بلاستيكية وعلقوا الرايات على أبوابها، ليذكروا الجميع انهم أيضا ينتمون لهذا الوطن… وليتذكروا هم أيضا أنهم لايزالون على أرض هذا الوطن.

لن أكذب عليك “سي حسن”، لقد رأيت شريطا لشباب كالورد وهم يحاولون اجتياز البوغاز هاربين من الوطن. رغم خطورة الموقف ورهبة الموت، لم ينسوا أن يرفعوا الراية. ربما ليذكرونا أنهم غادروا الوطن ولم تغادرهم الوطنية.

حتى المرضى “سّي حسن” يحملونها أمام المستشفيات، بعد أن ضاقت بهم خدماتها وأغلقت دونهم أبوابها وطردوا الى الخارج… حتى وهم يستجدون ثمن العلاج وثمن الأدوية… حتى وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة أمام بواباتها، لم ينسوا راية الوطن.

إقرأ أيضا: أحمد الخمسي يكتب: يا ظالمة!… أحاديث في الدولة والولاء

حتى العاطلون حملة الشواهد العليا من تلامذتك، وهم يتعرضون للضرب و تنهال على أجسادهم هراوات البوليس، وتتكسر ضلوعهم، لم ينسوا درسك الكبير ولم ينسوا الحوار الأول… ورفعوا راية الوطن.

أنا ممتن لكل ما تعلمته منك أستاذي. ربما لم يسعفك الوقت أو المرحلة. لقد حاولتَ دائما أن تغرس فينا كل القيم… قيمة وحيدة لم تحدثنا عنها، وهي قيمة الإنسان… وكيف أن الإنسان هو مركز ثقل كل هذه القيم، وبانهياره تنهار كلها ولا تبقى لها باقية…

ربما لم يدر بخلدك، “سّي حسن”، أن هذا الفصل المنضبط كفيلق عسكري، سيثور يوما ويخرج الى الشوارع؛ وأن هذا الوطن الذي أفنيت عمرك في تربية ناشئته سيتنكر للجميع، وأن الراية الخفاقة فوق مبنى المدرسة، سوف تسقط لأن النظام مختل، وسيطرحها التلاميذ أرضا أمام مبنى البرلمان… فمن غير الممكن أن تبقى خفاقة متوازنة حين يختل مركز الثقل.

تعليقات

  1. Abderrahim

    جميل جدا.سلمت اناملك.
    Very interesting article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *