علي اليوسفي: خلافة أبي بكر: مشروعية السيف
كان الرسول قد بعث عماله إلى القبائل العربية، ليس ليحكموها، وإنما ليبشروها ويجمعوا منها صدقات عينية لصالح الدعوة الإسلامية باسم الله ورسوله. لكن تلك الصدقات ما فتئت أن تحولت تدريجيا إلى ضرائب مفروضة وعلامة على الخضوع لنظام سياسي. وهذا بالضبط هو ما ناهضته قبائل بني أسد وغطفان وهوازن وطيء وقضاعة بعد موت الرسول؛ إذ كانت تود الاستمرار في أداء فروضها الدينية، ولكنها ترفض دفع تلك الضرائب التي كانت تعهدت بها للرسول لا لغيره، والتي كان الرسول في مقابلها يصلي على دافعيها كما أمرته بذلك الآية: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم” (التوبة:103). لكن أبا بكر أبى إلا أن يجاهد من يمنعه عقالا كان يؤديه للرسول، وهو ما لم يوافقه عليه عمر بن الخطاب نفسه، الذي خاطبه مستغربا: “أتقاتل رجالا يقولون لا إله إلا الله (والنبي عصم دم قائلها)؟”. لكن أبا بكر نهره قائلا: “أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟”.
شكلت وفاة الرسول لحظة فارقة في تاريخ الدولة الإسلامية الفتية؛ فلقد “ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم وقِلَّتهم، وكثرة عدوهم”[1]. وهذا يعني أن الصرح السياسي الذي بناه الرسول في زمن قياسي (عشر سنوات) كان مهددا بالانهيار، نظرا لضعف نواته الداخلية من جهة وللمخاطر الخارجية المحدقة به من جهة ثانية.
على المستوى الداخلي، كان الخزرج، وعلى الرغم من مبايعتهم أبا بكر، يشعرون بالغبن من جراء اغتصاب حقهم في خلافة الرسول، وهم الذين بفضلهم وبأسيافهم استقامت العرب لأمر الله، ودانت لرسوله طوعا وكرها. وأما الهاشميون، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم الامتداد الطبيعي للرسول والأحق دون غيرهم بخلافته، فلم يغفروا لأبي بكر استبداده بذلك الحق. بل إن أبا سفيان نفسه، الذي طالما نافس الهاشميين قبل الفتح، لم يستسغ أبدا أن تخرج الخلافة من بني عمومته (حفدة قصي)، وتؤول إلى قبيلة أقل شأنا، ولو أسعفه عليّ، لملأ الأرض على أبي بكر خيلا ورجالا.
أما على مستوى الخارجي، فقد كانت هناك معارضة سياسية قوية لسياسة المدينة قبل وفاة الرسول، مثّلها كل من الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة في اليمامة، وطليحة على رأس قبيلتي أسد وغطفان والمتنبئة سجاح على رأس تميم والبحرين وعمان. ويمكن اعتبار كل هذه الحركات نوعا من المنافسة السياسية؛ إذ إن أولئك المتنبئين، إنما أرادوا بناء أنظمة سياسية تضاهي النظام الذي أقامه محمد بن عبد الله في المدينة.
علاوة على ذلك، فقد كان الرسول قد بعث عماله إلى القبائل العربية، ليس ليحكموها، وإنما ليبشروها ويجمعوا منها صدقات عينية لصالح الدعوة الإسلامية باسم الله ورسوله. لكن تلك الصدقات ما فتئت أن تحولت تدريجيا إلى ضرائب مفروضة وعلامة على الخضوع لنظام سياسي. وهذا بالضبط هو ما ناهضته قبائل بني أسد وغطفان وهوازن وطيء وقضاعة بعد موت الرسول؛ إذ كانت تود الاستمرار في أداء فروضها الدينية، ولكنها ترفض دفع تلك الضرائب التي كانت تعهدت بها للرسول لا لغيره، والتي كان الرسول في مقابلها يصلي على دافعيها كما أمرته بذلك الآية: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم” (التوبة:103). لكن أبا بكر أبى إلا أن يجاهد من يمنعه عقالا كان يؤديه للرسول، وهو ما لم يوافقه عليه عمر بن الخطاب نفسه، الذي خاطبه مستغربا: “أتقاتل رجالا يقولون لا إله إلا الله (والنبي عصم دم قائلها)؟”. لكن أبا بكر نهره قائلا: “أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟”.
نستطيع إذن أن نتصور الدرجة العليا من الخطر الذي كان محدقا بالدولة المحمدية الفتية أمام هذا الكم من بؤر التوتر الساخنة. الأخطر من ذلك أن أبا بكر لم تكن له أية شرعية دينية يوحد بها المناوئين له داخل المدينة، أو يُحاجُّ بها المعارضين أو المخالفين أو المرتدين، إذ لم تتأسس خلافته على أمر ديني من الله، ولا على وصية صريحة من الرسول قبل وفاته، ولا على إجماع قبْلي من الأمة، وإنما كانت بيعته “فلتة” كما قال عمر بن الخطاب، ولذلك لم يجد أبا بكر أمامه إلا السيف ليحقق به أكثر من هدف.
كانت القبائل العربية متعودة على الحرب وتحصيل الغنائم قبل مجيء الإسلام، وهو ما تكرس في غزوات الرسول بمشروعية جديدة: نشر الرسالة الإلهية. وبالتالي، فإن خوض الحرب والغزو مفتاح لجمع شمل العرب، على الأقل المهاجرين والأنصار منهم، وتصدير غضبهم وانكسارات بعضهم النفسية إلى الخارج بمواجهة عدو مشترك، خاصة وأن بعض من ارتدوا حاولوا الهجوم على المدينة. من جهة أخرى، فإن تلك الحرب ستبوئ أبا بكر مكانة المدافع عن الإسلام، والمواصل لمشروع الرسول، فتضفي على خلافته نوعا من الشرعية العملية.
ونظرا لكل ذلك، لم تكد تمضي خمسة عشر يوما على وفاة الرسول، حتى أطلق أبو بكر حملاته العسكرية ليس فقط لمواجهة القبائل المتمردة، أو تلك المرتدة، وإنما أيضا في اتجاه سوريا وفلسطين (الأراضي البيزنطية)، وكذا في اتجاه بلاد فارس.
انطلاقا مما سبق، يمكننا تسطير الملاحظات التالية:
أولا: إن بيعة أبي بكر لم تكن تحظى بإجماع كل الأطراف النافذة، وأن مبايعة تلك الأطراف له لم تكن إلا فرضا للأمر الواقع، وفلتة؛ أي تسرُّعا أريد به قطع الطريق على كل من الخزرج والهاشميين. كما أن هذه البيعة لم يكن لها أي أساس ديني، وإنما هي بيعة بُرِّرت لحظتَها بنفوذ قبيلة قريش واستتباب الأمر لها منذ جدها الأول قصي. وهذا يعني أن بيعة أبي بكر كانت سياسية محضة، وأن ما أضفي عليها من شرعية دينية إنما كان نتيجة لعمل بَعدي، يرجع إلى القرنين التاسع والعاشر حين أضفيت الهالة على خلفاء الرسول، ومنع الناس من الاستمرار في الخوض في تاريخهم أو انتقادهم؛ إذ اعتُبروا خير الخلق بعد رسول الله.
ثانيا: أن ما جمعته السرديات الإخبارية تحت مسمى حرب الردة، يتضمن في الواقع ثلاثة أصناف من الحروب وليست حربا واحدة.
فأما الحروب التي خيضت على الأراضي الفارسية والبيزنطية فهي لا تدخل أبدا في حروب الردة، لأن تلك المناطق لم تكن قد اعتنقت الإسلام من قبل، وإنما رأى فيها أبو بكر مصدرا للغنائم والأراضي الخصبة المدرة للغلال، وبالتالي فغزوها يحقق له هدفين: هدفا ماليا بما تدره من عائدات على المشاركين في الغزو، وعلى “خزينة الدولة”؛ وهدفا سياسيا لأنها تنسي عرب المدينة الفُرقة التي أوشكت أن تشتت شملهم، وتوحدهم حول القائد الجديد، فتمنحه شرعية الرئاسة. وقد جاءت الأحاديث في وقت لاحق لإضفاء الشرعية الدينية على الغزو، حيث ينسب للرسول قوله: “من مات ولم يغز أو يحدث نفسه بالغزو، فقد مات ميتة جاهلية”، “جُعل رزقي تحت سن رمحي”، “لا تزال أمتي بخير ما حملت السيف”. ومهما يكن من أمر صحة تلك الأحاديث، فإنها قد أضفت الشرعية على غزوات أبي بكر وغزوات من أتى بعد من خلفاء وملوك، وشكلت تصورا جمعيا لدى المسلمين، بحيث لا زالت الكثير من التنظيمات الإسلامية تنادي بالجهاد اليوم، بل وتدخل ضمنه عملياتها الإرهابية داخل وخارج أرض الإسلام.
ثالثا: إن تمرد العرب على سلطة المدينة شمل مختلف المناطق، ولكن صفة الردّة، أو بالأحرى الارتداد أي التراجع والخروج، لا تنطبق إلا على فئة محدودة، هي تلك التي أعلنت صراحة خروجها من الإسلام بعدما اعتنقه. ومع ذلك، فإن محاربة هذا الفريق المرتد تطرح سؤالا عميقا حول مدى اعتبار الإسلام أمرا اختياريا، وحول ما إذا كان اعتناق الإسلام إسلاما من الفعل المزيد أسلم، حيث تقول: أسلمت أمري لله؛ ونقول أسلم المغني كاتْ-ستيفنس وغيَّر اسمه طواعية، ودون سيف على عنقه إلى يوسف؛ أمْ أن الأمر يتعلق باستسلام؛ أي بانهزام أمام قوة ضاربة وخضوع لقهرها وجبروتها، وبالتالي إخفاء للمعتقد الحقيقي، كما حدث ليهود ومسلمي الأندلس عندما أجبروا على اعتناق المسيحية؟ لا بد من طرح السؤال إذن حول جدوى وأهمية ودلالة أن تعج قوائم الإسلام بجماهير لا تكنُّ للإسلام إلا الكره، ولا يمكن إلا أن تنخره من داخله بعدم الامتثال لتعاليمه، وبالتحايل عليها، وإفشاء قيم معادية له بين صفوف المسلمين.
عموما، ما هي القيمة المضافة لمسلمين شكليين، أو بالأحرى لمستسلمين؟ وفي الأخير، لا بد من طرح السؤال حول موقع تلك الحروب المسماة حروب ردة من الآيات القرآنية الكثيرة التي تنص على حرية المعتقد، والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر: “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء” (القصص: 56)، “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا، أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس: 99).
رابعا: لا يمكن بحال من الأحوال اعتبار الفريق الذي تمسك بالصلاة، أي بالإيمان بالله وحده وشهادة أن محمدا عبده ورسوله، والذي رفض أداء صدقة للخليفة كان يؤديها للرسول، لا يمكن بحال اعتبار هذا الفريق مرتدا، ولا اعتبار الحرب التي شُنَّت عليه حرب ردة، وإنما يمكن تسميتها بحرب الصدقة، وهي حرب خطيرة الأبعاد. فلقد شرّع أبو بكر لنفسه بمقتضى محاربته لهذه الفئة ما كان حقا للرسول بموجب آية قرآنية، حيث لم يكن فعل الأمر في الآية “خذ” موجها لجميع المسلمين، وإنما هو فعل خص به الله رسوله، وأمره بالصلاة “صلِّ” على دافعي هذه الصدقة كمكافأة لهم على حسن صنيعهم.
أيستطيع أبو بكر أو غيره من الخلفاء أن يصلوا عليهم؟ وحتى لو فعل، فما قيمة صلاته عليهم؟ لقد فتح أبو بكر بفعله ذلك للخلفاء والحكام بشكل عام، تبوء مكانة الرسول من حيث نسبة آيات قرآنية أخرى خاصة به إلى أنفسهم، وذلك من قبيل: “فلا وربك لا يؤمنوا حتى يحكموك في ما شجر بينهم ولا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما” (النساء: 65).
من جهة أخرى، فقد كان الخلاف بين أبي بكر والقبائل التي رفضت دفع الزكاة، خلافا حول تفسير آية، فانتصر أبو بكر لتفسيره الشخصي ضدا على رأيهم جميعا، وعلى رأي عمر وأعيان المدينة؛ وبذلك فتح الباب مرة أخرى أمام الخلفاء والحكام للاستقلال بتفسيرهم للقرآن وفرض ذلك على محكوميهم.
وأخيرا، فإن أبا بكر قد قنن بحروب الصدقة، إشهار سيوف المسلمين على المسلمين، واعتبار ذلك جهادا “لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه”، ومن ثمة تعصب كل فرقة مسلمة لرأيها، والسعي إلى فرضه بقوة السيف على غيرها من المسلمين، وفي ذلك تكمن الجذور العميقة لما نراه اليوم من تكفير المسلمين لبعضهم، تنظيمات وأفرادا.
من بين المراجـــع المعتمدة:
1- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الخامسة، 2012
2- Wilferd Madelung, The succession to Muhammad, A study of the early Caliphate, CAMBRIDGE University Press, 2004
[1] – تاريخ الطبري، المجلد الثاني، دار الكتب العلمية 2012، ص 245.
مقالات قد تهمك:
- كيف استغل الإسلاميون اغتيال فودة لتأسيس حد الردة الجديد؟
- Marayana TV: محمد عبد الوهاب رفيقي: تاريخ الجهاد في الإسلام – الحلقة 3: عن حروب الردة وادعاء النبوة لامتلاك السلطة
- مسَّ يقينيات وقطعيات من الدين: التأويل الاضطراري!
- حسن الحو: علم الترقيع… آخر سلاح الإسلاميين
- “حُروب الرّدة”: حين كشف أبو بكر عن وجهه الآخر! 2/1
- “حُروب الرّدة”… وجهة نظر أخرى! 2/2
- تساؤلات جديدة حول اجتماع السقيفة