كيف استغل الإسلاميون اغتيال فودة لتأسيس حد الردة الجديد؟ - Marayana - مرايانا
×
×

كيف استغل الإسلاميون اغتيال فودة لتأسيس حد الردة الجديد؟

أسس مزروعة والغزالي والمطعني والقرضاوي للخطاب الذي لا يزال سائدا حتى اليوم، والذي يصور الإرهابيين بصفتهم شبابا غيورا على دينه؛ ويصور المفكرين بوصفهم ذابحين للإسلام ومستبيحين للمقدسات!

سيختفي لفظ التطرف من الخطاب الإسلامي بعد مقتل فرج فودة ليظهر المصطلح البديل “الغيرة على الدين”… وسيختفي لفظ حرية التفكير بعد ذلك ليظهر لفظ “ذبح الدين واستباحة المقدسات” لوصف أي عمل فكري نقدي.

كانت شهادة محمد الغزالي ومحمود مزروعة في المحكمة بكفر فرج فودة عام 1992 إيذانا بتدشين مرحلة “حد الردة الجديد” كوسيلة لإرهاب وتصفية الخصوم.

فهل هناك حد جديد وحد قديم للردة؟

ظهر حد الردة القديم استجابة لمطالب الملك العضوض والإمبراطورية الإسلامية في حربها ضد الأعداء الخارجيين والمعارضين الداخليين كحل تستطيع دولة الخلافة، من خلاله، فرض الهدوء والاستقرار في مجتمع متوسع يموج بعشرات التيارات الفكرية والدينية والعديد من الفرق والنزعات المذهبية والأدبية. لهذا، كان حد الردة القديم موجها ضد فرق المعارضة والفرق العقلانية كـ المعتزلة والفلاسفة، أو الفرق المذهبية المعارضة كالشيعة والصوفية.

أما حد الردة الجديد، فلم يظهر لتلبية احتياجات السلطة، بل ظهر لتلبية احتياجات المعارضة. وأعني بها هنا المعارضة الإسلامية (جماعات الإسلام السياسي) كسلاح فتاك في حربها ضد خصومها من الليبراليين والعلمانيين؛ فهو موجه ضد المفكرين والكتاب المعارضين للإسلام السياسي ولمشروع بعث الخلافة والحكومة الدينية الذي بلغ أوجه في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين.

هناك أسباب وجيهة تجعلني أعتبر حادثة اغتيال فرج فودة وشهادة الغزالي في المحكمة نقطة محورية في تاريخ التكفير والتصفية الدينية للخصوم.

انخرط الإسلاميون، ابتداء من اليوم التالي لاغتيال فرج فودة، في عملية تأليف وترويج مكثفة وغير مسبوقة عن حد الردة وضرورته وأهميته لحماية الإسلام

أول هذه الأسباب أن حد الردة كان قد انتهى تقريبا بحكم الواقع وبحكم سيطرة حكومات شبه مدنية وشبه علمانية أو حكومات عسكرية على الحكم في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا، وغياب الحاجة إلى تصفية الخصوم بحجج دينية في ظل حضور بدائل سياسية أخرى لتصفية الخصوم كالاتهام بالعمالة أو الخيانة أو قلب نظام الحكم.

باستثناء تنفيذ حكم الإعدام قتلا في المفكر الكبير محمود محمد طه في السودان في حقبة التطبيق الفوري للشريعة، لم تشهد بلدان المنطقة حد علمي حكما مماثلا.

ثاني هذه الأسباب أن حرية التعبير وحرية الضمير كمبدأ، كان قد بدأ يشق طريقه على استحياء إلى التشريعات القانونية والحياة العامة، مما يجعل المطالبة بتطبيق حد الردة صعبا ومعاكسا للتيار.

ثالث الأسباب أن هذه كانت المرة الأولى التي يدافع فيها الغزالي مباشرة وبإلحاح عن حد الردة ويكرر ذلك في مقالاته وخطاباته اللاحقة، مع أن كتاباته السابقة تكاد تخلو من أي حديث عن حد الردة أو تطبيقاته، رغم تورطه في معارك فكرية ضد عشرات الأدباء والمفكرين والصحفيين كان يتهمهم فيها بالتهمة المعهودة: “معاداة الاسلام”.

كان اغتيال فودة هو ذروة التحالف بين فروع الإسلام السياسي الثلاثة: الفرع “المعتدل” الذي يكفر ويحرض، والفرع الجهادي الذي يقتل وينفذ، والفرع المستقل (الإسلاميون المستقلون) الذي يبرر ويحول المثقف المقتول والضحية إلى الجاني الذي يستحق ما لقي من عقاب.

أما السبب الرابع، فهو انخراط الإسلاميين، ابتداء من اليوم التالي لاغتيال فرج فودة، في عملية تأليف وترويج مكثفة وغير مسبوقة عن حد الردة وضرورته وأهميته لحماية الإسلام.

صار حد الردة القضية المصيرية الجديدة التي يدافع عنها الإسلاميون. بدلا من الدفاع عنها ضمن إطار أوسع يتحدث عن أحكام الشريعة، صارت تفرد لها المؤلفات الضخمة والمخصصة فقط للدفاع عنها وتبربر عودتها في العقد الأخير من القرن العشرين.

بعد اغتيال فرج فوده بأسابيع، ظهر أول كتاب لتبرير عملية الاغتيال، وهو “من قتل فرج فودة” للشيخ الأزهري الإخواني عبد الغفار عزيز. هذا الكتاب كان أسوأ دفاع عن الإرهاب، قال فيه إن الارهابيين لم يقتلوا فرج فودة وأن فرج فودة هو من قتل نفسه بنفسه لأنه استفز غيرة الإرهابيين المدافعين عن الدين.

ثم نَشَر مقالا في “الوفد” فيه تفسير غريب للطريقة الفعالة للقضاء على الإرهاب من وجهة نظره، وهي أن تقوم الدولة نفسها بمعاقبة المثقفين العلمانيين الذين ينتقدون العقيدة وقتلهم بدلا من أن يقوم “العابثون” بذلك. والعقيدة طبعا هي شعارات الإسلام السياسي (الإسلام هو الحل، وتطبيق الشريعة، وشركات توظيف الأموال).

كان تورط عزيز في مقتل فرج فودة واضحا، حتى أن محمد الغزالي نصحه بمغادرة مصر، فورا وهو ما حصل.

ثم جاءت شهادتا محمود مزروعة ومحمد الغزالي أمام المحكمة لتدفع بتبني الإسلاميين لحد الردة ولسياسة اغتيال الخصوم إلى حدوده القصوى.

مع كتاب القرضاوي، اكتملت أركان حد الردة الجديد. أركان حادة ودموية تجعله مختلفا اختلافا جذريا عن حد الردة التقليدي في كتب الفقه.

لقد ذهب الغزالي “تطوعا” إلى المحكمة ليقول إن فودة كافر بإجماع الأمة وإن من قتله قد طبق الحكم الشرعي الصحيح. ليس هذا فقط، بل أسس الغزالي لمبدإ خطير جدا هو ضرورة أن يقوم الناس بتطبيق حد الردة إذا تقاعست الدولة عن ذلك، لأن التقاعس يوقع الأمة كلها في الإثم.

وأكد يوسف القرضاوي نية الغزالي المبيتة في كتابه عن الغزالي، كما كشف طه جابر العلواني اعترافا خطيرا للغزالي وهو ذهابه إلى المحكمة لإنقاذ القتلة من حكم الإعدام. وشهادة العلواني عن اهتمام الغزالي بإنقاذ القتلة من مشنقة الإعدام موثقة بالصوت والصورة.

أسس مزروعة والغزالي والمطعني والقرضاوي للخطاب الذي لا يزال سائدا حتى اليوم، والذي يصور الإرهابيين بصفتهم شبابا غيورا على دينه؛ ويصور المفكرين بوصفهم ذابحين للإسلام ومستبيحين للمقدسات!

سيختفي لفظ التطرف من الخطاب الإسلامي بعد مقتل فرج فودة ليظهر المصطلح البديل “الغيرة على الدين”… وسيختفي لفظ حرية التفكير بعد ذلك ليظهر لفظ “ذبح الدين واستباحة المقدسات” لوصف أي عمل فكري نقدي.

كان التأليف الإسلامي حول الردة كثيفا جدا في الأعوام 1992 و1994.

كان حد الردة القديم يطرح مبدأ الاستتابة، لكن حد الردة الجديد قال إن الاستتابة غير واجبة لمن يعرفون أحكام الإسلام وتمت مناقشتهم فيها، وإن النقاش مع فرج فودة في المناظرة الشهيرة تعتبر استتابة علنية رفض فيها فودة التراجع عن أفكاره، وبالتالي استحق القتل.

ألف عبد العظيم المطعني كتاب “عقوبة الإرتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين” عام  1993 يلغي فيه كل القيود المفروضة حول حد الردة، فيرى أن الاستتابة غير لازمة وأن التنفيذ من حق من يريد وبدون شروط. كما ألف القرضاوي عام 1994 كتاب “جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة” وهو من أخطر الكتب وأكثرها ترويجا وتبريرا له، حتى أنه اقترب من نغمة سيد قطب التكفيرية رغم أنه كان قد انتقده في بعض كتبه.

توسع القرضاوي في مفهوم الردة ليخرجها من معناها الفقهي، الارتداد عن الاسلام، إلى معنى واسع جدا يشمل جميع المخالفين؛ فتحدث عن “الردة الفكرية” التي يقصد بها كل الأفكار الحديثة التي دافع عنها المثقفون المستنيرون والتي تختلف مع فكر الصحوة الإسلامية؛ وتحدث أيضا عن “ردة السلطان”، ويقصد بها الأنظمة الحاكمة التي تختلف مع الإسلاميين أو تقمعهم…

مع كتاب القرضاوي، اكتملت أركان حد الردة الجديد. أركان حادة ودموية تجعله مختلفا اختلافا جذريا عن حد الردة التقليدي في كتب الفقه.

كان هدف الإسلاميين من شرعنة مقتل فرج فودة إيصال رسالة هامة لبقية المثقفين العلمانيين مفادها أن الحادث ليس فرديا وأنه لم يعد لهم مكان في المجتمع المصري وأن ما حدث لفودة ليس إلا البداية…

كان حد الردة القديم يطرح مبدأ الاستتابة، لكن حد الردة الجديد قال إن الاستتابة غير واجبة لمن يعرفون أحكام الإسلام وتمت مناقشتهم فيها، وإن النقاش مع فرج فودة في المناظرة الشهيرة تعتبر استتابة علنية رفض فيها فودة التراجع عن أفكاره، وبالتالي استحق القتل.

كان حد الردة القديم في يد السلطان فقط. أما حد الردة الجديد فجعل إقامة الحدود واجب الأمة وليس واجب الحاكم فقط، فإذا تأخر الحاكم عن إقامة الحدود، صار عبئا على الأمة كما قال الغزالي في المحكمة… وتظل الأمة آثمة إذا لم تقتل المرتد. شرعن حد الردة الجديد للإرهاب والإرهابيين وقال إن تجاوزات بعض الشباب (الإرهاب!) لا يجب العقاب عليها لأن السبب فيها أن الحاكم لا يطبق الشرع، وبالتالي لا عقوبة للإرهاب.

كما أن حد الردة الجديد نقل حق التكفير من يد القضاء إلى يد فقهاء الإسلام السياسي، فقد قال القرضاوي إن من يملك حق التكفير هم “الراسخون في العلم”، وهي عبارة ليست بحاجة إلى تفسير أو تحديد.

لقد ذهب الغزالي “تطوعا” إلى المحكمة ليقول إن فودة كافر بإجماع الأمة وإن من قتله قد طبق الحكم الشرعي الصحيح. ليس هذا فقط، بل أسس الغزالي لمبدإ خطير جدا هو ضرورة أن يقوم الناس بتطبيق حد الردة إذا تقاعست الدولة عن ذلك، لأن التقاعس يوقع الأمة كلها في الإثم.

في نفس الفترة، تحدث محمد عمارة عن “أنياب ومخالب الدعوة”، قاصدا بها الجماعات الجهادية والمتطرفة التي كانت تمارس جرائم التفجير والاغتيالات ضد المفكرين وضد القضاة ورجال الشرطة، وكان يرى أن هذه “المخالب” مهمة جدا للتيار الوسطي لكي يقنع الدولة والمجتمع أن الحل الوحيد للخلاص من الإرهاب هو تنفيذ أفكارهم.

كان اغتيال فودة هو ذروة التحالف بين فروع الإسلام السياسي الثلاثة: الفرع “المعتدل” الذي يكفر ويحرض، والفرع الجهادي الذي يقتل وينفذ، والفرع المستقل (الإسلاميون المستقلون) الذي يبرر ويحول المثقف المقتول والضحية إلى الجاني الذي يستحق ما لقي من عقاب.

كان هدف الإسلاميين من شرعنة مقتل فرج فودة إيصال رسالة هامة لبقية المثقفين العلمانيين مفادها أن الحادث ليس فرديا وأنه لم يعد لهم مكان في المجتمع المصري وأن ما حدث لفودة ليس إلا البداية… وكانت تلك بداية العشرية السوداء في الجزائر وموجات الإرهاب والتكفير في اليمن ومصر والمغرب والخليج… وهي الموجة التي استمرت حتى استنفذ “حد الردة الجديد” أغراضة بسقوط عدد من الأنظمة القديمة بعد أحداث الربيع العربي.

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *