من نيويورك. هشام الرميلي يكتب: …إنهم يحتفون بالموت
من بين كل أنواع الدعم الذي يمكن أن تقدمه السلطات المحلية للمواطنين… لم يجد رئيس المجلس الجماعي لإحدى المدن، أجمل من بشرى إعلام الساكنة، أن الدعم المخصص في شكل أثواب …
من بين كل أنواع الدعم الذي يمكن أن تقدمه السلطات المحلية للمواطنين… لم يجد رئيس المجلس الجماعي لإحدى المدن، أجمل من بشرى إعلام الساكنة، أن الدعم المخصص في شكل أثواب الكفن، هو مجاني ومفتوح في وجه المعوزين، والفئات الهشة وضحايا حوادث السير، الذين يتم استقدامهم لمستشفى المدينة.
يبدو وكأن الأمر فيه نوع من المواساة، والتخفيف على المواطنين ومؤازرتهم في مصائبهم، لكن فيه أيضا رغبة لا واعية لهذه السلطات، للتكفير عن إهمالها للمواطن في حياته وعدم الاهتمام بشأنه، فتعينه على انتقال مريح و غير مكلف للدار الآخرة.
… أفاد مؤشر دولي أن المغرب لا ينتمي إلى البلدان التي “من الجيد أن تموت فيها”، إذ صنف في المرتبة 52 من بين 80 دولة حول العالم شملها هذا المؤشر، الذي أشرفت على إنجازه مجموعة The Economiset insights.
دولة تحتفي بك ميتا… وتعجل لقاءك برب حي لا يموت، فميتتك مجانا ومأتمك وعزاؤك فاخر على غرار ولائم السلطة، و”حانوتي” المخزن ومتعهد مناسباته مستعد لإبهار المعزين…
اعتمد المؤشر الدولي على دراسة عدة جوانب في الدول التي شملها التصنيف، ومنها جودة الخدمات المقدمة للأشخاص المصابين بأمراض مميتة، وسهولة الولوج الى هذه الخدمات.
إقرأ لنفس الكاتب: بائعة الكبريت وراعي الغنم
بالطبع لسنا محتاجين لتعداد المصائب في حياتنا كمغاربة، لأن النفخ في قربة مثقوبة فعل أحمق، والحديث هنا حديث موت وآخرة، يجعلك زاهدا في الدنيا ومتاعها.
لم تعد الحياة تهمنا فنحن لسنا من أهلها، ولا يهمنا أن نتذيل القوائم فيها، لكن يبدو أن الموت أيضا هو في حالة خصام معنا، ونتذيل فيه القوائم، بالرغم من أن كل الطرق تؤدي إليه، فمن لم تطحنه شاحنات الأزبال، اقتنصته حرب الشوارع، ومن نجى منها بجلده قتلته مستوصفات الدولة، أو أجهزت عليه مجازر الخواص.
المساكن المتداعية هي أيضا تتربص بالدراويش ولا تنسى أن تساهم بحصتها في القتل…
أماكن العمل هي مراتع للقتل، يتحين الموت في جنباتها الفرص، من لم يمت مترديا في ورش بناء، مات حرقا في معمل أو صعقا في مصنع…
المغاربة لا يعانقون الموت في البر فقط، البحر أيضا يأخذ حصته من أرواحهم، منهم من يذهب اليه مكرها، بحثا عن مهرب من موت مقطر، فيتجرعه دفعة واحدة في قوارب الموت… ومنهم من يذهب اليه باحثا عن رزقه، ليصبح خبرا حزينا في نشرة المساء…
قد تقضي جل حياتك دون أن يكشف عليك طبيب، لكن الطبيب الشرعي الذي يكشف عليك عند وفاتك، ويحدد أسبابها يكون تابعا للجماعات المحلية، ومجانا، فالدولة لا تهتم بتفاصيل صحتك في حياتك، لكنها حريصة على أن تدرك أسباب الوفاة…
المغاربة يموتون في كل الفصول، وتنتشر رائحة الموت في كل الأرجاء وعلى طول العام، ما مر عام وليس في المغرب موت.
في حديث مع صديق مصري، أخبرني أنه اتفق مع زوجته الكرواتية على الشروع في الإذخار لتكاليف دفن ومأثم حماته العجوز، فبالرغم من أنه ﻻ يبدو أنها ستودع قريبا، لكن الاحتياط واجب لمواجهة تكاليف الموت الباهظة في أمريكا…
إقرأ أيضا: في غياب حلول بنيوية… يصبح موسم الثلج كابوسا سنويا لبعض المواطنين في المغرب! 1\2
راق لي أن أخبره أنه في بلادنا السعيدة، غالبا ما يحظى البؤساء بمراسيم دفن ومآثم عزاء مجانية… فبؤساؤنا معرضون دائما للكوارث والأمراض المستعصية، وانهيار الجحور التي تأويهم، وإذا كانت الدولة غائبة في معظم مراحل حياتهم، فإنها حاضرة وبقوة عند نهايتهم …
قد تتركك الدولة لتتشرد أو تموت محاصرا بالثلوج في القرى النائية، قد تقضي جل حياتك دون أن يكشف عليك طبيب، لكن الطبيب الشرعي الذي يكشف عليك عند وفاتك، ويحدد أسبابها يكون تابعا للجماعات المحلية، ومجانا، فالدولة لا تهتم بتفاصيل صحتك في حياتك، لكنها حريصة على أن تدرك أسباب الوفاة…
قلت لصديقي إن الدولة ﻻ تتذكر… وﻻ يصحو ضميرها إلا عند موت رعاياها، فهي تلتزم بمبدأ “إكرام الميت دفنه” وإن لم يكن أهلك قادرين على شراء القبر، فالحفرة التي ستقذف فيها وتتخلص الدولة من عبئك تكون مجانا…
في بلادنا السعيدة، غالبا ما يحظى البؤساء بمراسيم دفن ومآثم عزاء مجانية… فبؤساؤنا معرضون دائما للكوارث والأمراض المستعصية، وانهيار الجحور التي تأويهم، وإذا كانت الدولة غائبة في معظم مراحل حياتهم، فإنها حاضرة وبقوة عند نهايتهم
قلت له أيضا: إن للموت وجها لطيفا في بلادي، حين تحظى بجنازة مدفوعة التكاليف، ستكون محظوظا أن تموت في فعل فاضح تتورط فيه الدولة، على الأقل ستعوض ما فاتك في حياتك، ستحظى بكفن مجاني وسيارة بلوحة ترقيم رسمية، تنقلك الى مثواك الأخير، وستجرى مراسيم العزاء على نفقة دولة الأموات… دولة تحتفي بك ميتا… وتعجل لقاءك برب حي لا يموت، فميتتك مجانا ومأتمك وعزاؤك فاخر على غرار ولائم السلطة، و”حانوتي” المخزن ومتعهد مناسباته مستعد لإبهار المعزين…
إقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: من يحكم المغرب؟ … “جهات ما”
قلت لصديقي: إذا غابت الدولة في حياتنا فلا ضرر، فهي تعوضنا عند الموت، أليس الموت انتقالا إلى حياة أفضل من حياتنا؟ وما قيمة ما تقدمه لك الدولة في حياتك؟ إذا كانت ستسهل لك انتقالا للآخرة، تراه هي أفضل بالنسبة لك، وأريح بالنسبة لها.
مع كل هذا الموت المحدق بنا، كان لزاما علينا الآن، أن نكون قد راكمنا تجربة محترمة في الموت والتعامل معه، وتيسير سبله وقطفه للأرواح…
كان ينبغي علينا نحن الذين طلقنا الحياة، وخرجنا من مضمارها، أن نكون من الأوائل في برامج الموت والأكثر تطورا في التعامل معه، والأنجح في ترسيخ مؤسساته وبنياته… لكن يبدو أن الذي لا ينجح في اختبار الحياة، من الصعب عليه أن يجتاز اختبار الموت…