المعتزلة… العقل العربي الإسلامي في بداية تشكله! 1\3
في الفكر المعتزلي، فإن الله واحد، “ولكن، لا بالمعنى الأولي الذي يأخذ به السّلفيون من المسلمين، بل بمعنى أنّ ذاته بسيطة، بالمفهوم الفلسفي لكلمة “بسيطة”. أي غير مركبة. فإنه يستحيل التركيبُ على الذات الإلهية. ذلك لأنّ التركيب يقتضي أمرين لازمين له: أولهما، عدم إمكان تحقق “الكل” إلى كلّ واحد من الأجزاء. فلو كانت ذات الله مركبة لكان الله مفتقراً إلى “أجزاء” تركيبه، في حين أنّ الله لا يمكنُ أن يكون كذلك، لأنّ الافتقار بذاته ضعفٌ وعجز”.
كان لبّ الخلاف في صدر الإسلام، وما قبله، يدور في رحى سؤال محوري:
هل ينبغي للعقل أن يكتفي بظاهر النصوص فقط، أم من حقّه أن يطلق العنان للتأويل وفك رموز اللغة التي كتب بها النصّ الديني؟
جاءت فرقة المعتزلة لتحاول الإجابة عن هذا السؤال، باعتماد العقل أوّلا وأخيراً، بعيداً عن أي تأثير خارجي، أو نقل فقهي أو قياس…
يصفهم الكثيرون برواد العقلانية في التراث العربي الإسلامي، وأنهم واضعو أسس علم الكلام الإسلامي؛ ومؤسسو الاتجاه العقلي الفلسفي، الذي “اغترف” من ثماره، الفكرية، فلاسفة الإسلام من طينة الكندي والفارابي وابن سينا…
قامت فرقة المعتزلة على مبدأ “بين المنزلتين” في البِداية، فتكون كذلك ظهرت بفعل الواقع السياسي والسياق التاريخي، حيثُ كان ذلك العصر يشهدُ فرقاً سياسيةً كثيرةً كالخوارج والمرجئة…
نشأت فرقة المعتزلة في البصرة في حدود نهاية المئة الأولى للهجرة، ويسمَّون كذلك بأصحاب العدل والتوحيد. يخلط البعض فيطلق عليهم “القدرية” لرفضهم القدر، أو الجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان المرجئ.
سمة الفكر الاعتزالي سمة عقلية برهانية. بهذا، كانت المعتزلة أول فرقة أدخلت النزعة العقلية في الفكر الإسلامي.
مرايانا في هذا الملف، تلقي نظرة على الفكر الاعتزالي، وأهم الطّروحات العقلية التي قدمها في قراءة التراث والنص الديني…
المعتزلة… أصلُ التّسمية!
شهدت هذه التسمية خلافاً لدى الباحثين القدامى والجدد على حدّ سواء؛ إذ أن الاعتزال، في بداياته، كان في صدر الإسلام، وكان سياسياً صرفاً؛ بينما في أواخر العهد الأموي، ظهر الاعتزال بصبغته الفكرية والفقهية، وبدأ يشتدّ إبان العصر العباسي.
بخصوص الرأي القائل بأنّ المعتزلة بنتُ السّياسة ابتداءً، فإنّ الباحث أحمد أمين يذهب إلى أنّ الأمور التي كانت عصبَ القتال في معركة الجمل أو في معركة صفين، هي “مسائل سياسية تدور كلها حول قتل عثمان وقتلته والقصاص منهم، وعلي واستحقاقه الخلافة، ومعاوية وهل هو أولى بالخلافة من علي ونحو ذلك؛ والانقسام فيها بين الناس كان انقسام أحزاب سياسية. لكن، من الحقّ أن نقرر أنّ المسائل في ذلك العصر، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو شخصية، كانت كلّها مصبوغة صبغة دينية”. [1]
بذلك، يكون الحزب أو الطّائفة “التي أطلق عليها في الصدر الأول اسم “معتزلة” كانت تمثّل فكرة سياسية مصبوغة بالدين، إذا أردنا أن نلخص رأيها في كلمة قلنا : إنها ترى أنّ الحقّ ليس بجانب إحدى الفرقتين المتنازعتين، فهما على باطل، أو على الأقل لم ينكشف الحق في جانب إحداهما. والدين يأمر بقتال من بغى، فإذا كانت الطائفتان باغيتين أو لم يعرف الباغي، اعتزلنا”. [2]
أمّا الاعتزال بالمعنى الفكري والعقلي، ففريقٌ يعتقدُ أن الدافع الصحيح لأصل تسمية المعتزلة، هو الرأي الوارد في كتب البغدادي والشهرستاني، ومن يدور في فلكهما. ذاك الرأي الذي يفيدُ أنّ كلمة “المعتزلة”، لفظُ أطلقه أعداء هذه الفرقة الكلامية من أهل السّنة، للقول بأنّهم انفصلوا عنهم، فكرياً، وتركوا مشايخهم القدامى، واعتزلوا قول الأمّة بأسرها وقتئذٍ، سيما فيما يخصّ حكم مرتكب الكبيرة، التي كانت الحدث الفاصل وفق اعتقاد هذا الفريق.
عموماً، بهذا المعنى، يكون لفظ المعتزلة قدحياً ومحاولة الخصوم لذمّ الفرقة، واتهامها بالخروج على تعاليم السلف والسنة، أي أنّ المعتزلي هو المُخالِف والمُنفصل. [3]
سمة الفكر الاعتزالي سمة عقلية برهانية. بهذا، كانت المعتزلة أول فرقة أدخلت النزعة العقلية في الفكر الإسلامي.
يقول الشهرستاني: دخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين: لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملّة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضرّ مع الإيمان؛ بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، فلا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمّة، فكيفَ تحكُم لنَا في ذَلك اعتقاداً؟ ففكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا، ولا كافرٌ مطلقاً؛ بل هو منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن. فقال الحسن: اعتزَلنا واصل، فسمي هو وأصحابه المعتزلة. [4]
هكذا، نكون قد التقطنا أصل هذا المذهب العقلي، من حيثُ قيامه على مبدأ “بين المنزلتين” في البِداية، فتكون كذلك فرقة ظهرت بفعل الواقع السياسي والسياق التاريخي، حيثُ كان ذلك العصر يشهدُ فرقاً سياسيةً كثيرةً كالخوارج والمرجئة…
التّوحيد… المعتزلي!
من الصّعب الحديث عن المعتزلة دون الحديث عن رؤيتهم العقلية لمبدأ التوحيد. فمن الصادم، ربما، أن نجد فرقة في أوج الخلافة الإسلامية وسطوة السّنة، تعتمد الفلسفة والمنطق للنّظر في الذّات الإلهية.
في هذا الصدد، يبيّن المفكّر حسين مروة، أنه في الفكر المعتزلي، فإن الله واحد، “ولكن، لا بالمعنى الأولي الذي يأخذ به السّلفيون من المسلمين، بل بمعنى أنّ ذاته بسيطة، بالمفهوم الفلسفي لكلمة “بسيطة”. أي غير مركبة. فإنه يستحيل التركيبُ على الذات الإلهية. ذلك لأنّ التركيب يقتضي أمرين لازمين له: أولهما، عدم إمكان تحقق “الكل” إلى كلّ واحد من الأجزاء. فلو كانت ذات الله مركبة لكان الله مفتقراً إلى “أجزاء” تركيبه، في حين أنّ الله لا يمكنُ أن يكون كذلك، لأنّ الافتقار بذاته ضعفٌ وعجز”. [5]
والثّاني، يضيفُ مروة، أنّ التّركيب يقتضي أن يكون كل جزء غير كلّ جزء آخر، وغير “الكلّ” أيضاً. وهذا هو التعدد، لأنه يتحصّل من ذلك عدة أشياء: الأجزاء كل واحد منها بذاته “شيء” غير الآخر، ثمّ “الكلّ” وهو “شيء” أيضاً غير الأجزاء بذواتها. هذا من جهة، ويأتي، من جهة أخرى، محذور الافتقار هنا كذلك، إذ إنّ كل واحد من هذه “الأشياء” المتعددة مفتقر في وجوده إلى وجود الآخر. [6]
على ضوء كلّ ما يقترنُ بمقولة “الجزء والكل”، فإن مروة يجمل أنّ “التركيب” ينتفي عن ذات الله، وتثبت لها “البساطة”، التي هي جوهر معنى “الوحدانية”.
معنى أن “الله واحد” إذن، هو كونُ ذاته لا كثرة فيها نهائياً، لا من حيثُ الكمّ، ولا من حيثُ “الماهية”. وهذا يعني، بالتّبعية، “نفي كلّ عرض من أعراض الأجسام الطبيعية والبشرية عن ذات الله، أي نفي صفات التشخّص العضوية وصفات اللون والرائحة والأبعاد والجهات، التي هي جميعاً بطبيعتها تقتضي الجِسمية، أي التركيب”. [7]
يبدو أنهم، هنا، برهنوا عقلياً، كما يقول محمود إسماعيل، على ما آمنوا به من تفسير لما ورد بالقرآن بشأن جملة من المسائل، منها التوحيد مثلاً، فهكذا تمكنوا من “عقلنة الإيمان”، إن صحّ تعبير الكاتب.
تمّ ذلك، عملياً، “بمساندة الفلسفة الأخلاقية المستمدة من القرآن بالإفادة من الفلسفات الإغريقية ومؤلفات الجدل النصراني الهليني”، كما ينقل إسماعيل عن أحد الباحثين.
هكذا، كان القرآن وأرسطو يقرآن جنباً إلى جنب، ويعتبران بحسن نية متكاملين، بفضل المعتزلة الذين نجحوا في التوفيق بين الفكر اليوناني والدين الإسلامي… بين التوحيد والفلسفة.
لهذا قالوا بخلق القرآن، فوضعوا النّص المقدّس تحت مجهر التأويل وامتحان عقل الانسان، لمعرفة قدرته على فهمه وتأويله دون أي تأثير من الخارج. في وقت كانت أطروحة الحنابلة أسقطت تاريخية القرآن بالمطلق أو وضعته فوق التاريخ كلياً.
لا يخفي المفكر الإسلامي محمد أركون إعجابه الشّديد بأطروحة المعتزلة فيما يخصّ “خلق القرآن”، على اعتبار أنهم جعلوا من النص المقدس رسالة يمكن تحديدها تاريخيا بدقة، فضلاً عن إمكانية تفكيكها أو تفسيرها باعتماد اللغة. وهو المسلك الذي انتهجه أيضاً محمد شحرور في مشروعه الفكري وإعادة قراءة التراث الإسلامي.
… لكلّ هذا، تمّ تكفيرُ المعتزلة واعتُبِروا زنادقة!
في الجزء الثاني من هذا الملف، نقف على ملامح الأنسنة في المشروع الفكري للمعتزلة.
- الجزء الثاني: المعتزلة… جذور الأنسنة في التراث العربي الإسلامي! 2\3
- الجزء الثالث: المعتزلة… عقلنة الشريعة لإصلاح الخِلافة! 3\3
الهوامش:
[1] أحمد أمين، فجر الإسلام، مطبعة الاعتماد.
[2] المصدر نفسه.
[3] عواد بن عبد الله، المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنّة منهم.
[4] الشهرستاني، الملل والنحل.
[5] حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية، المجلد الثاني، دار الفرابي، الطبعة الأولى 2002.
[6] المصدر نفسه.
[7] نفسه.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- المأمون و”محنة خلق القرآن”… صورة عباسية أخرى لاستغلال الديني في السياسي! 2/1
- شغب ناعم… قصة جارية حكمت الدولة العباسية 1/2
- تاريخ الصلاة الإسلامية: من تهجد ما قبل الإسلام إلى الصلوات الخمس
- من نقد التراث إلى نقد العقل، كيف أسس الجابري لنقد العقل العربي 1/3
- “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: نحو إعادة تقييم التاريخ العربي-الإسلامي 7/1
- الإلحاد في تاريخ الإسلام: حين استنفدت الروح العربية قواها الدينية! (الجزء الأول)
- ابن حزم الظاهري… نصيرُ المرأة وفيلسُوف الحُب!