مُلصقات طنجة “المتطرّفة”: تفكيرٌ فوق الدّولة… في بيتِ الحرّية! 2\2
قبل سنوات، كان “قضاءُ الشّارع” قد أشعل فوضى في بيتِ الحُريات الفَردية. إذ أقدم وكلاء “السّلفية”، كما يصفهم حقوقيون، على أمورٌ مماثلة، حيثُ اعتدوا على شابّ مخمور بطنجة، وكذلك تمّ الاعتداء على مثليين ببني ملال، ورجم عرافة بمدينة سلا…
في الجزء الأوّل من هذا الملف، رأينا كيف أن ملصقات مدينة طنجة، هي تعبيرٌ عن فكر داعشي يختفي في الظلام، رمى بوادر عودته ثم عاد إلى جحره، مخلّفا نقاشاً وطنياً ودولياً لدى “المؤمنين” بالحرية في شموليتها.
في هذا الجزء، نرصدُ كيف أنّ هذا التفكير يعبّر عن بنية مفاهيمية تتجاوز مفهوم الدولة والمؤسسات ويمسّ بهيبة السّلطة والقانون.
من الواضح أن الملصقات أثارت نقاشاً حادا عبر شبكات البثّ المفتوح، حيث اعتبر كثيرون بأن هذه السلوكات، هي إشعار “طفيفٌ” بعودة “قضاء الشارع” و”محاكم المجتمع”، التي تتعارضُ بالمطلق مع الحريات الفردية، التي تعني الفرد حصراً.
“من حق أي فرد أن يتصرف كما يشاء، ويرتدي ما يشاء ما دام يحترم الآخر ولا يمس بحقوقه أو يعتدي عليه جسدياً.”
يتعالى هذا التفكير المتشدّد بطبيعته على منطق سيادة القانون داخل الدولة، ويحلّ بمثابة ضيف ثقيل وغير مرغوب فيه في بيت حريات الأشخاص، يتهدّد حياتهم واختياراتهم الشّخصية.
حرية التعبير مكفولة للجميع، بيد أنّ هذه الملصقات تعتدي على حرّية الآخرين، وتتضمّن تحريضاً على الكراهية والتمييز والعنف ضدّ النساء والفتيات!
انطلق التحقيق في القضية، لتحديد ظروف وملابسات قيام مجهولين بنشر هذه الملصقات بشوارع المدينة، التي تعتبر فضاءً عامًّا، وذلك تحت إشراف النيابة العامة المختصة. ذلك أنّ الأجهزة الأمنية ليس في صالحها أن تحدث فوضى مجتمعية بسبب متطرّفين يندسّون وسط المغاربة.
وليس بمقدور السّلطة أن تطبّع مع إرهاصات فكر متطرّف يهدف حملتُه إلى تطبيق القانون “باللسان” أو “اليد”، في الوقت الذي توجد فيه قوانين تحفظ الحقّ العام، وتحمي كرامة المغاربة وحقّهم في الاختلاف؛ وذلك بما لا يترك مجالا لأية وصاية دينية خارج إطار السّلطة، ولو أن الحقوقيين يرفضون هذه الوصاية بحدّ ذاتها.
ومسّ المتطرّفون… بهيبة الدّولة!
نوفل بوعمري، محامي وحقوقي، يعتقد في حديث مع مرايانا أنّ هذه المُلصقات هي تعبير صارخٌ على وجود تيار ديني متطرف غير قادر على استيعاب مختلف التحولات القيمية والسلوكية والمدنية التي طالت مجتمع المغربي. هذا الأخير الذي ما فتئ يتجه نحو تحديث سلوكه المجتمعي، وبروز قيم الحداثة والتّصالح معها.
أحداثُ 16 ماي 2003 الإرهابية أكدت بالتجربة أنها جاءت محمولةً على أكتاف التّشدّد.
مضامينُ هذه الملصقات المتشدّدة يجب أن “تدقّ ناقوس الخطر داخل المجتمع؛ بتنبيهه إلى أن اختياراته السّلوكية المنسجمة مع القيم المغربية التاريخية، أضحت محطّ تهديد حقيقي من لدن هذه الجماعات المتطرفة، التي اختارت أن تعبر عن نفسها بهذا الشكل.” يقول المتحدّث.
لكن…
الأخطر، في تقدير بوعمري، أن هذه الملصقات تمسّ بهيبة الدولة وتهدّد كيانها، لأن “هذه التنظيمات، عند قيامها بهذا الفعل، تعلن عن تحدي واضح للدولة وللقانون. بل تريد تنصيب نفسها سلطة بديلة عن سلطة الدولة، كما أنها تسعى إلى أن تطرح ذاتها وصيةً على أخلاق المجتمع وقيمه وسلوكه.”
أما بالنسبة لعبد الوهاب رفيقي، الباحث في الشأن الدّيني، فإنّ المشكل فيما وقع في طنجة أوضح أن تمثّل المواطنين لمفهوم الدولة والمؤسسات، حاضرُ بقوة فقط لدى النّخب الحاكمة أو السياسية أو المثقّفة، وليس عند شريحة واسعة من العامة والجُمهور.
المسافة والهوة بين مفهوم الدّولة وبين الشّعب هي كبيرة جدّا، وما أفرزته ملصقات طنجة هو أن الواقع المغربي غير منتبه وغير معني بأننا نعيش في دولة لها مؤسسات وقضاء، يمنعُ فرضَ أيّ وصَاية على الآخرين، سواء كانت دِينية أو غيرها، حسب ما أوضحهُ رفيقي لـ”مرايانا”.
“المتطرّفون عادةً، يصرفون اهتمامهم عن القضايا الجوهرية التي يعاني منها البلد، وينساقون دائما مع محاكمة المجتمع وتنصيب محاكم التفتيش الدّيني”
لا يستغربُ المتحدّث إمكانية أن يتحول “الوعيدُ” المكتوب في الملصق، إضافةً إلى ما تضمنته من “عنف” لفظيّ واضح، إلى تدخلات جسدية لنسف ما يعتبرونه هم “منكراً”، وفرض المزيد من التّحريض والوصاية على المجتمع باسم الدّين.
بناءً على ذلك، دعا محمد عبد الوهاب رفيقي الدّولة إلى النّظر إلى الأمر بأنّه جرس إنذار ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، قبل أن يتحول هذا الفكر إلى عُنف.
قبل سنوات، كان “قضاءُ الشّارع” قد أشعل فوضى في بيتِ الحُريات الفَردية. إذ أقدم وكلاء “السّلفية”، كما يصفهم حقوقيون، على أمورٌ مماثلة، حيثُ اعتدوا على شابّ مخمور بطنجة، وكذلك تمّ الاعتداء على مثليين ببني ملال، ورجم عرافة بمدينة سلا…
حرّياتٌ على المحكّ…
سعاد البكدوري الخمال، رئيسة الجمعية المغربية لضحايا الإرهاب، ترى في تواصلها مع مرايانا أنّ هذه السلوكات تفجعنا بحقيقة مرّة، وهي أن الإرهاب في بداياته، دائماً ما ينطلقُ من إرهاصات فكرية من قبيل التي وُضعت في المنشورات.
الفكر المتطرّف هو “ما يؤدي، عملياً، إلى الإرهاب. وأحداثُ 16 ماي 2003 الإرهابية أكدت بالتجربة أنها جاءت محمولةً على أكتاف التّشدّد. إذ سبقته حملة فظيعة للتطرف وتنامي خطاب التّكفير”؛ وفق تعبير البكدوري.
المثير اليوم أنه، رغم مرور 18 سنة، وتبدُّل الظّروف، لازال فكر السلفيين جامداً، متصلّبا ومتطرّفا كالسّابق، الأمر الذي يدفع إلى الكثير من التساؤلات ويطرح علامة استفهام كبيرة!
هي أفكارٌ، حسب المتحدثة، تضع الحريات على المحكّ، وتمس الخصوصية الشخصية لكلّ فرد. حيثُ تتوجه، صريحاً، للآباء والأمّهات، بكل وقاحة، لتضربُ حقوق الإنسان في العمق. “فمن حق أي فرد أن يتصرف كما يشاء، ويرتدي ما يشاء ما دام يحترم الآخر ولا يمس بحقوقه أو يعتدي عليه جسدياً.”
البكدوري، ابنة طنجة، تعتبر أنّ البيانات صوتٌ “نشاز” ظهر في طنجة، ولا يعكسُ تفكير الطنجاويين، نظراً لقيم التعايش والانفتاح التي بُنيت عليها العلاقات الإنسانية في طنجة، بفعل طابعها الدولي تاريخياً.
لذلك، فالملصقات أصلاً مغرّضة وفيها تضليل، لكونها تحاول أن تفجّر فتنةً، باعتبار أنّ طنجة فضاء لـ”لتّفسّخ الأخلاقي”، في حين أن طنجة، رغم الانفتاح، بها عائلات تقليدية ومحافظة، بينما الخطاب جاء بشكل تعميمي ومطلق، كما ترى رئيسة الجمعية المغربية لضحايا الإرهاب.
هذه لعبة “قذرة” يديرها المتطرّفون ليصوّروا طنجة بأنها منحلة وخارجة عن المألوف، بينما هي مدينة عادية كأي مدينة أخرى، وقيم سكانها هي قيم المغاربة قاطبةً…
اللباس أصلاً، تضيفُ، لا ينبغي أن يُناقش، ولا أن يكون محطّ خلافٍ، فهو يعني الفرد وحده وقناعاته. والمتطرّفون عادةً، يصرفون اهتمامهم عن القضايا الجوهرية التي يعاني منها البلد، وينساقون دائما مع محاكمة المجتمع وتنصيب محاكم التفتيش الدّيني، بدل الاحتجاج تجاه الظلم الذي يعانيه الشّعب المغربي والإشكالات العميقة الأخرى من قبيل الفقر والهشاشة والجوع…
تختم البكدوري قائلة بأنّ اللباس “لا يرقى إلى أن يكون مؤشرا حاسماً على تدين الفرد أو حتى قيم المجتمع، لأن ذلك يبقى حسب كيفية تمثّل كل فرد لمفهوم التدين في نطاقه الخاصّ. البيانات انساقت مع الصور النمطية التي تعتبر المرأة أصل مشاكل التحرش الجنسي، في حين أغفلت دور الرجال في هذه المسألة”…
في ختام هذا الملف، ينبغي الإشارة إلى دور مواقع التواصل الاجتماعي، في فضح هذه “المهزلة” المتشدّدة، والتّنكيل بهذه الممارسة “الرّجعية” وفضح مَسلكياتها، التي ترى في نفسها طريقاً للمؤمنين إلى الجنّة.
أيضاً، لنعرف أنّ هذه الأفعال هي فرصة لإعادة النّقاش، ورفع منسوب اليقظة تُجاه التّطرف ومنابع الإرهاب… وذلكَ في أفق معرفة قطعية، لا تطمئن إلى فكرة أن خفافيش الظّلام في “سُباتها”، ولكن….
الخفافيش… قد تُهاجمنا في أي لحظة سانِحة…