الطائفية في لبنان: إلى ما بعد الاستقلال… خطأ تاريخي أم استمرار للعنة؟ 5/3
أصبح المجتمع السياسي في لبنان قائما على طوائف تؤلف كل منها كيانا ذاتيا، صار كل منها عضوا في الدولة، لا يتمتع فقط باستقلال تشريعي وقضائي وإداري، إنما تشترك عبر ممثليها في تكوين إرادة الدولة، من خلال المؤسسات الدستورية التي تشارك في تأليفها وتسييرها.
بعد الجزء الثاني الذي تابعنا فيه البدايات التاريخية لتشكل الطائفية في لبنان، في هذا الجزء الثالث، نواصل ذكر بعض الأسباب التي كرست الطائفية في بلاد الأرز، من العهد العثماني إلى ما بعد الاستقلال.
إلى جانب المسلمين السنيين الموالين للعثمانيين، عرفت بلاد الشام في العهد العثماني كعادتها، تعددا مذهبيا كبيرا من حيث الانتماء الديني… هذا التعدد تركز في جبل لبنان وما أحاط به.
فبينما سكن معظم السنيين المدن، استقرت المذاهب الإسلامية الأخرى (الشيعة، النصيرية، والدروز) في الجبال الريفية، وقد اختلف ولاؤها للدولة باختلاف الظروف التاريخية.
الدولة العثمانية تميزت بنظام يدعى نظام الملة، كان امتدادا لنظام أهل الذمة…
نظام الملة في الدولة العثمانية كان عائقا كبيرا أمام تمازج أبناء الطوائف المختلفة، ما شكل منفذا للدول الأوروبية لتعميق النزاعات الطائفية.
الذي يعنيه أن جميع الرعايا العثمانيين من غير المسلمين، كانوا ينظمون في طوائف حسب مذاهبهم الدينية، كل منها يرعاها رئيس روحي، يفصل في قضايا أحوالها الشخصية، كما يمثل أبناء طائفته لدى سلطات الدولة.
في أوائل القرن الـ19م، عرفت المنطقة تحولا سياسيا كبيرا لا يعود إلى الطائفية أساسا، إنما إلى النزاع الفرنسي البريطاني حول السيطرة عليها، وما استتبعه ذلك من نزاع بين الدول الأوروبية والدولة العثمانية.
لكن، في الواقع، يقول المؤرخ اللبناني علي عبد فتوني في كتابه “تاريخ لبنان الطائفي”، مهد ذلك للأزمات الطائفية، فبينما نحت الطوائف المسيحية إلى الدول الأوروبية، حرصت الدولة العثمانية على عدم إثارة أي نزاع طائفي يستتبع تدخلا أجنبيا.
اقرأ أيضا: “لا أرحام بين الملوك”… عندما قتل الخلفاء العثمانيون إخوتهم
الذي حدث أن شعور هذه الطوائف بالعداء نحو الدولة استمر، فيما اعتبرت الطوائف الإسلامية غير السنية، أن الدولة تسعى دوما إلى اضطهادها، فكثر تمردها وعصيانها…
بالمناسبة، شعور المسيحيين بالعداء نحو الأتراك كان مبنيا، يقول فتوني، على اعتبار أنفسهم رعايا غرباء في بحر شاسع من السيادة العثمانية.
لهذا، كانوا يشعرون بضرورة توفير نوع من الحماية الأجنبية…
الذي يهمنا أن نظام الملة ذاك، كان عائقا كبيرا أمام تمازج أبناء الطوائف المختلفة، ما شكل منفذا للدول الأوروبية لتعميق النزاعات الطائفية.
بشكل عام، اختلفت المواقف اللبنانية خلال الانتداب الفرنسي، فالمسلمون ظلوا دعاة للوحدة السورية، فيما كان التيار المسيحي يتمسك بالانفصال عن سوريا وموالاة فرنسا.
حينما جاءت فرنسا إلى لبنان وسوريا مستعمرة تحت غطاء الانتداب، لم يُخفِ المسلمون شعورهم بالمرارة، فبعدما كانوا طائفة تمثل الأكثرية في الدولة العثمانية، صاروا مجرد طائفة ثانوية في الكيان اللبناني.
على أن نتائج إحصاء عام 1922م، أظهرت تفوقا مسيحيا طفيفا أثار تخوف هؤلاء، بخاصة الموارنة منهم، وما زاد هذه المخاوف أن المسلمين رفضوا الاعتراف بنتائج هذا الإحصاء.
أيا يكن، فقد عرفت البلاد حينذاك نوعا من الولاء الماروني لفرنسا، كرس العداء الإسلامي، الذي وجد بعض التأييد من الروم الأرثوذوكس وغيرهم، الذين استثارتهم فكرة القومية العربية.
اقرأ أيضا: ماذا تعرف عن الاستشراق؟ الوجه الآخر للغزو الغربي للشرق… 1\2
يقول فؤاد شاهين في كتابه “الطائفية في لبنان… حاضرها وجذورها التاريخية والاجتماعية”، إن المسلمين رأوا في بعض المسيحيين عقبة في وجه الوحدة العربية، وأن موقفهم ذاك، شكل جسرا لاستعمار البلاد وتكريسا للسيطرة عليها.
بشكل عام، اختلفت المواقف اللبنانية خلال الانتداب الفرنسي، فالمسلمون ظلوا دعاة للوحدة السورية، فيما كان التيار المسيحي يتمسك بالانفصال عن سوريا وموالاة فرنسا.
حين استقل لبنان عام 1943م، ظلت العقلية هي نفسها، فالحكومة اللبنانية، يقول فتوني، ارتكبت خطأ تاريخيا، إذ لم تقم بإلغاء المواد الخاصة بالطائفية، سواء الواردة منها في الدستور، أو المعمول بها عرفا…
حتى عندما وصل مفوض فرنسي جديد، يدعى هنري دي جوفينيل، عام 1925م، وحاول استرضاء اللبنانيين بدعوة المجلس النيابي إلى وضع دستور للبلاد، وإلى منحهم حق اختيار حاكم لهم من الشعب… ظل المسلمون على رأيهم، ورفضوا المساهمة في وضع دستور مستقل عن الدستور السوري.
لكن، في غضون ذلك، بدأت الأوساط المارونية تشعر بأهمية استمالة المسلمين، فعمد رئيس الجمهورية إيميل إده، عام 1937م، إلى إسناد رئاسة الوزراء إلى مسلم سني يدعى خير الدين الأحدب.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يتولى فيها مسلم رئاسة الوزراء، منذ بداية عهد الجمهورية اللبنانية عام 1926م.
اقرأ أيضا: ثورة لبنــــان الجميلة
… هذه المحاولة، أيضا، لم تنجح في إنهاء الطائفية بلبنان، بل أدهى منه، زادتها حدة، إذ إن كل نائب في مجلس النواب صار يطالب بمطالب لأبناء مذهبه، لا لأبناء طائفته وحسب.
اللبنانيون أصبحوا هنا فرقا على أساس الدين، والكيان الطائفي صار كيانا اجتماعيا، واستمر الوضع يتأرجح بين الانقسامات السياسية والطائفية، سواء في المجلس النيابي أو خارجه.
حين استقل لبنان عام 1943م، ظلت العقلية هي نفسها، فالحكومة اللبنانية، يقول فتوني، ارتكبت خطأ تاريخيا، إذ لم تقم بإلغاء المواد الخاصة بالطائفية، سواء الواردة منها في الدستور، أو المعمول بها عرفا…
لو حكمنا على النظام اللبناني بين 1943 و1975م، يقول فتوني، لوجدنا أن الثوابت التي قام عليها النظام مستندا فيها إلى مرتكزات تاريخية، لم تؤد إلى الاستقرار ولا إلى الازدهار ولا إلى الوفاق ولا إلى العدالة والمساواة…
بل أسوأ من ذلك، جاء قانون الانتخابات لعام 1960م ليكرس قاعدة التمثيل الطائفي في اختيار أعضاء المجلس النيابي، ويحدد نسبة تمثيل كل طائفة في البرلمان.
والحال هذه، أصبح المجتمع السياسي في لبنان قائما على طوائف تؤلف كل منها كيانا ذاتيا، صار كل منها عضوا في الدولة، لا يتمتع فقط باستقلال تشريعي وقضائي وإداري، إنما تشترك عبر ممثليها في تكوين إرادة الدولة، من خلال المؤسسات الدستورية التي تشارك في تأليفها وتسييرها.
اقرأ أيضا: عبد الدين حمروش يكتب: الدولة المدنية والدولة الديمقراطية
وبدلا من أن يؤدي التفاعل بين هذه التناقضات، إلى تخطي هذا الواقع نحو وحدة اجتماعية متماسكة تكون عنوان مجتمع جديد، أكد ملمح التفسخ، فحال دون بناء دولة وطنية بالمعنى الذي يعبر عن طموح ومصالح كل أبناء الوطن.
ولو حكمنا على النظام اللبناني بين 1943 و1975م، يقول فتوني، لوجدنا أن الثوابت التي قام عليها النظام مستندا فيها إلى مرتكزات تاريخية، لم تؤد إلى الاستقرار ولا إلى الازدهار ولا إلى الوفاق ولا إلى العدالة والمساواة…
ما من شاهد على ذلك أكثر من الحرب الأهلية، التي عصفت بلبنان في السنوات ما بين 1975 و1990م.
في الجزء الرابع: الحرب الأهلية… المأساة التي لا نظير لها في تاريخ البلد!
لقراءة الجزء الأول: الطائفية في لبنان… من الجذور إلى المأساة 5/1
لقراءة الجزء الثاني: الطائفية في لبنان… لعنة أزلية؟ 5/2
لقراءة الجزء الرابع: الطائفية في لبنان… المأساة: الحرب الأهلية 5/4
لقراءة الجزء الخامس والأخير: الطائفية في لبنان… جيل جديد: هل تسقط الأسطورة؟ 5/5