الطائفية في لبنان… من الجذور إلى المأساة 5/1 - Marayana - مرايانا
×
×

الطائفية في لبنان… من الجذور إلى المأساة 5/1

يعترف لبنان على المستوى الرسمي بـ18 طائفة دينية مختلفة بين سكانه، وهي في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير، وبعضها يظل مجهولا لسكان البلاد حتى، مثل البهائيين والمرمون… هذا التنوع الديني قد يبدو جيدا لمن يجهل البلد، غير أن للتاريخ… الكلمة الفصل!

كريم الهاني
كريم الهاني

لبنان، أو “أبيض بلون الحليب”[1]؛ هذا ما يعنيه الاسم الذي حمله البلد، كما يروى، نسبة إلى الثلوج التي تغمر قمم جباله لأكثر من ستة أشهر في العام.

وللمفارقة، فتلك المرتفعات حادة الانحدار، هي نفسها التي وفرت، عبر التاريخ، ملجأ لبدعة “الطائفية” التي يقوم على أساسها لبنان، البلد الذي يبلغ تعداده السكاني 4.5 مليون نسمة فقط، تستضيف أكثر من مليون لاجئ…

الواقع أن آخر إحصاء رسمي للسكان أجري عام 1932م[2]؛ ومن ثم، فالتركيب الديموغرافي والديني الدقيق للبنانيين غير معلوم… أما الرقم أعلاه، فيعود إلى البنك الدولي، الذي أعلن عنه عام 2013م.

لبنان يعترف رسميا بـ18 طائفة دينية مختلفة بين سكانه، وهي في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير، وبعضها يظل مجهولا لسكان البلاد حتى، مثل البهائيين والمرمون[3]

هذا التنوع الديني قد يبدو جيدا لمن يجهل البلد، غير أن للتاريخ… الكلمة الفصل!

لا تعد الطائفية ظاهرة حديثة، فقد برزت منذ العصر العباسي الثاني في القرن العاشر الميلادي، حين أخذ ثلاث خلفاء في الإسلام يتنافسون على تمثيل الخلافة؛ العباسي ببغداد، الأموي بالأندلس، والمهدي (الفاطمي) بالقيروان.

عام 1975م، اندلعت حرب أهلية امتدت لـ15 عاما، كانت حصيلتها مروعة في كافة التفاصيل؛ وإن كان أقساها أن اثنين بالمئة من مجموع سكان لبنان، قُتلوا على أيدي أبناء وطنهم من اللبنانيين[4].

ومع ذلك، رغم كل ما حدث… لم تتعرض قاعدة النظام السياسي، الأساسية، لأي تهديد خطير.

يبدو ذلك كلعنة أزلية سترافق البلد إلى الأبد… وإن كان أبناؤه قد ضاقوا ذرعا، وخرج كثير منهم في ما يشبه انتفاضة، أواخر عام 2019م، يودون وضع حد لمأساة الطائفية، تحت شعار “كلكن يعني كلكن”.

اقرأ أيضا: ثورة لبنــــان الجميلة

المفكر الفلسطيني أنيس الصايغ، في كتابه “لبنان الطائفي”، يقول إن الطائفية توجد بلبنان منذ القدم، أو منذ الفينيقيين تحديدا… هكذا، ستبقى ولو تغير شكل المجتمع اللبناني، فالطائفية قد أصبحت متمرسة بالذات والشخصية اللبنانية.

لكن هذا بالتأكيد فيه نقاش؛ فالقبول به يقود إلى الاعتقاد بالتجمد التاريخي والاجتماعي.

أيا يكن، قبل أن نتمم حديثنا عن لبنان في الجزء الثاني، سنتابع هذا الجزء الأول بالحديث عن المقصود بالطائفية…

الطائفية موقف نفسي يفرض على الفرد نمطا معينا من السلوك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي… والأخطر في ذلك، يقول شاهين، أنها حكم مسبق اعتباطي لا يرتكز على منطق عقلي.

لا تعد الطائفية ظاهرة حديثة، فقد برزت منذ العصر العباسي الثاني في القرن العاشر الميلادي، حين أخذ ثلاث خلفاء في الإسلام يتنافسون على تمثيل الخلافة؛ العباسي ببغداد، الأموي بالأندلس، والمهدي (الفاطمي) بالقيروان.

والطائفية، كما يرى الأكاديمي الفلسطيني عزمي بشارة[5]، هي اعتبار أتباع دين أو مذهب معين، جماعةً تمثل امتدادا أو تواصلا تاريخيا (أي أن لها تاريخا) وذات حدود اجتماعية…

ذاك ما يخلق تصورا عن كيان له أسطورة منشأ، وسردية تتراوح بين صوغ مشاعر الغبن ومشاعر الافتخار والكبرياء.

اقرأ أيضا: الشُّعوبية: حين أشعرَ العربُ “المواليَّ” بالميز العرقي الذي نهى عنه القرآن والرسول! 2/1

وهذا ما يجعل الطائفة، يقول الأكاديمي اللبناني فؤاد شاهين[6]، تعتقد أن مصلحتها تتفوق على مصالح الطوائف الأخرى، فيدفعها إلى الانكماش على ذاتها، فلا ترى في علاقاتها مع الآخرين إلا استلابا لها أو تشويها لأصالتها…

هذه الانعزالية الناتجة عن الاستعلاء الفارغ، هي في الحقيقة، يؤكد شاهين، نوع من العنصرية أو الفاشية…

من ثم، فالطائفية موقف نفسي يفرض على الفرد نمطا معينا من السلوك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي… والأخطر في ذلك، يقول شاهين، أنها حكم مسبق اعتباطي لا يرتكز على منطق عقلي.

عام 1975م، اندلعت حرب أهلية امتدت لـ15 عاما، كانت حصيلتها مروعة في كافة التفاصيل؛ وإن كان أقساها أن اثنين بالمئة من مجموع سكان لبنان، قُتلوا على أيدي أبناء وطنهم من اللبنانيين.

الطائفية، تاريخيا، نشأت وترعرعت في كنف الدين ورجاله، ولا يزال تأثير هؤلاء عنصرا قويا في الإبقاء عليها.

على أنها، إذا كانت ظاهرة دينية، فلا يعني ذلك أنها من صلب الجوهر الديني، بل يعني أن الممارسة الدينية، كظاهرة اجتماعية، تُدخل تمايزا بين المنتمين إلى أديان أو طوائف مختلفة.

صحيح أن تأثير الطائفية يقل كثيرا في المجتمعات العلمانية… إلا أن الشيء المؤكد، هو كون التمايز الطائفي يختلف عن التمايز الديني.

لا يمكن عد المسيحيين واليهود “طوائف”؛ لأنهم “أهل ذمة”، إذا انطلقنا من الكل الذي يسمى “الأمة الإسلامية”…

اقرأ أيضا: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)

لكن… إذا اختلف تعريف الكل، وأصبح مرجعه اللغة والثقافة أو الدولة الوطنية، التي تفترض المواطنة كوحدة أساسية، فحينئذ يصبح هؤلاء “طوائف”، يؤكد عزمي بشارة.

بشارة يرى أن المسلمين قد يكونون طائفة واحدة، وقد ينقسمون إلى طوائف في سياق الصراع على هذا الكل، إذا تبنوا سلوك الأقلية في تأكيد الهوية الدينية في السياسة، بدلا من سلوك الأكثرية…

الطائفية، تاريخيا، نشأت وترعرعت في كنف الدين ورجاله، ولا يزال تأثير هؤلاء عنصرا قويا في الإبقاء عليها.

هكذا، تذهب كل طائفة من هؤلاء، يقول الأكاديمي الفلسطيني، إلى ادعاء أنها تمثل “الإسلام الصحيح”، وتعيد إنتاج “الفرقة الناجية” بطرق مختلفة، يكون وجهها الآخر، “الطرق الهالكة” في مجال السياسة؛ مجال الصهر والتطهير والإبادة إن اقتضى الأمر.

اقرأ أيضا: عمر بن أعمارة يكتب: لا تاريخانية الخطاب الديني … الوهم والمغالطة

بالحديث عن السياسة، فالطائفية بمعناها التحاصصي، ظهرت في سياق المرحلة التاريخية التي نشأت فيها الدولة الوطنية والجماعة القومية…

في هذا السياق، تفتق الصراع بين الطوائف عن الرغبة في الحصول على أكبر حصة من الدولة، يفسر بشارة، ترجمةً لوزن ديموغرافي أو لقوة اقتصادية وثقافية، أو تعويضا عن غبن تاريخي وما إلى ذلك.

في الجزء الثاني: الطائفية في لبنان… لعنة أزلية؟

لقراءة الجزء الثاني: الطائفية في لبنان… لعنة أزلية؟ 5/2

لقراءة الجزء الثالث: الطائفية في لبنان: إلى ما بعد الاستقلال… خطأ تاريخي أم استمرار للعنة؟ 5/3

لقراءة الجزء الرابع: الطائفية في لبنان… المأساة: الحرب الأهلية 5/4

لقراءة الجزء الخامس والأخير: الطائفية في لبنان… جيل جديد: هل تسقط الأسطورة؟ 5/5


[1]  عن هيلينا كوبان، “لبنان… 400 سنة من الطائفية”، ترجمة سمير عطا الله.
[2]  عن رانيا الراجي، “أوراق شجرة واحدة: الأقلية الدينية في لبنان”، منشورات مجموعة حقوق الأقليات الدولية.
[3]  عن المصدر ذاته.
[4]  عن “لبنان… 400 سنة من الطائفية”.
[5]  عن مقاله: “مدخل لفهم المسألة الطائفية وصناعة الأقليات في المشرق العربي الكبير”.
[6]  عن كتابه: “الطائفية في لبنان… حاضرها وجذورها التاريخية والاجتماعية”.
تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *