سعد سرحان: أجنحة التَّطّيُّر - Marayana - مرايانا
×
×

سعد سرحان: أجنحة التَّطّيُّر

أنا سليل التطيّر أُمًّا عن جدّة، أمدّ الله في عمريهما. لذلك، فإنّ مُواء قطّة سوداء في نهاية زُقاقنا كان يُواجَه من طرفي بالبسملة وليس بالرّكل كما يجب في حالة طفل …

أنا سليل التطيّر أُمًّا عن جدّة، أمدّ الله في عمريهما. لذلك، فإنّ مُواء قطّة سوداء في نهاية زُقاقنا كان يُواجَه من طرفي بالبسملة وليس بالرّكل كما يجب في حالة طفل مثلي. صفيري الطفولي، عندما كنت ألحِّن أحلامي الصغيرة، كان يُفسَّر على أنّه نذير شؤم، إذ لا يليق الصّفير إلا بالخرائب والبيوت الفارغة.

هل يعقل أن يقف الجنود في خط مستقيم لإشعال سجائرهم؟ إذن، لا بد أنّهم كانوا يتحلّقون حول عود الثقاب فتنتقل الشّعلة من الواحد إلى الآخر راسمةً بذلك مثلثًا مضيئا في فضاء اللّيل البهيم

نعيب البوم على مشارف بيت جدّتي هناك (في تلك القرية التي لا أعرف لِمَ لا تحمل اسمها) كان يُقابَل بالتّلويح بمشعلٍ درءًا لِما قد يجلبه لأهل البيت من فَقْد. أمّا صَبُّ الماء السّاخن ليلًا على الأرض أو في المجاري، فهو أمر غير محمود العواقب، إذ يمكن أن يحرق أحدًا من أهل المكان، فيكون انتقامهم شديدًا. مع أنّ أهل المكان حسب ما فهمت فيما بعد مجبولون من مارج من نار.

لقد مرّت سنوات طويلة، قضيت معظمها على مقاعد المدارس والمقاهي، وخلالها شاهدت أكثر من فيلم من نوع الخيال العلميّ، وغيّرت نظّاراتي الطبيّة عشر مرّات، وآمنت بالقدر خيره وشرّه، وتابعت لمدّة غير قصيرة مجلة “العلم والحياة”، كما ادّعيت غير ما مرّة أنّي كارتيزيان… ومع ذلك فإنّ نسبة التطيّر في دمي لم تنخفض.

اقرأ أيضا: الثور، الكبش والأسد: هذه بعض الحيوانات التي قدّسها الإنسان المغاربي القديم 2/2

في بداية عهدي بالتدخين، وقد كان تضامنيًّا، تعزّز رصيدي من التطيُّر بعبارة جديدة: une allumette pour trois, ça porte malheur.. إذن فكلّنا، جدّتي، فرنسا وأنا، في التّطيُّر سواء. اللّهم إذا كان لهذه العبارة تفسير آخر، وهو ما رجّحته منذ البداية، ليس احترامًا للكوجيطو، فلم أكن قد سمعت به بعد، وإنّما لأنّ فرنسا كانت عندي بلد ثورة في كل شيء.

الغلاف القديم لعلبة أعواد الثقاب المغربية

لم يكن لباحث غرّ مثلي من مراجع تنير له السبيل. بلى، لقد اهتديت إلى مرجع وحيد وثمين. إنّه علبة أعواد الثقاب في طبعتها الأولى، تلك التي يحمل غلافها الأوّل صورة الأسد (هل هو أسد الأطلس؟) فيما يحمل غلافها الأخير تلك النظريّة الخالدة التي تقول: “إنّكم باستعمال المواد المغربيّة تساهمون في اقتصاد البلاد”.

لَكَمْ كُنّا مقصّرين (وقاصرين طبعًا) في استعمال أعواد الثقاب المغربية، إذ كان يتحلق أحيانًا أكثر من ثلاثة منا حول الواحد منها. بل إنّنا، مرارًا، كنا نستغني عنها بإشعال لفافة من عقب أخرى. لم نكن نعرف، سامحنا الوطن، أننا نخرب اقتصاد البلاد بأفعالنا الرّعناء تلك، وأنّنا سنكون سببًا في انتشار الولّاعات التي ستكلّف خزينة الدّولة مصاريف أخرى، إذ ترافق انتشارُها مع ارتفاع أثمنة المحروقات، خصوصًا وأنّنا بلد كبريت، كما تشهد على ذلك كل الحرائق، ولسنا بلد نفط، كما يشهد على ذلك اقتصادنا الهش.

اقرأ أيضا: الأنثى في عاشوراء المغربية: عندما تنفلت المرأة من سلطة الذكر 2/2 

لم يخفّف من إحساسي بالذّنب سوى انتباهي إلى أنّ العبارة فرنسيّة، ولا بدّ أنّ أعواد الثّقاب المعنيّة لا تمتّ بصلة إلى الجُرف الأصفر. ولَكم كانت دهشتي كبيرة حين أكّد لي أحد الأصدقاء أنّ العبارة تعود إلى نابوليون. وقد كان ينصح بها المدخنين من جنوده، فهم حين يشعلون السجائر ليلًا، فإنّهم بذلك يعلنون للعدوّ عن وجودهم وفي ذلك خطر محتمل.

هل يعقل أن يقف الجنود في خط مستقيم لإشعال سجائرهم؟ إذن، لا بد أنّهم كانوا يتحلّقون حول عود الثقاب فتنتقل الشّعلة من الواحد إلى الآخر راسمةً بذلك مثلثًا مضيئا في فضاء اللّيل البهيم. وحيث إنّ كلّ ثلاث نقط غير مستقيميّة تحدّد مَعْلَمًا (repère)، فإنّ الجنود لا يعلنون عن وجودهم فقط، وإنّما أيضًا عن إحداثيّاته، وفي ذلك خطر أكيد.

لم نكن نعرف، سامحنا الوطن، أننا نخرب اقتصاد البلاد بأفعالنا الرّعناء تلك

وإذا علمنا أنّ المَعْلَمَ السّالف الذّكر يحمل اسم ديكارت (المَعْلم الدّيكارتي) وأنّ الرّجل رمزٌ للعقلانيّة، فإنّنا ندرك كم كان نابوليون داهيّة إذ يخاطب جنوده تَطَيُّرًا، أي على قدر عقولهم، فيما عبارته الشّهيرة أقرب إلى الرّياضيّات منها إلى الهراء.

“في البرازيل خرافة تقول بأنّه يجب عدم إشعال أكثر من ثلاث شمعات بقشة الكبريت نفسها”، هذه العبارة وردت على لسان ماريا، بطلة رواية “إحدى عشرة دقيقة” لباولو كويلهو: لكأنّ التطيّر كان سبّاقًا إلى العولمة.

ولأنّ جدّتي لا تقِلُّ حصافة عن نابوليون، فلابدّ أنّها، هي الأخرى، كانت تخاطبنا تطيُّرًا فيما فمها يرشح حكمة، إذ أنّ الماء السّاخن لم يكن سوى ما ندلقه، على عجل، من مثاناتنا عند أول الحاكورة، أما أهل المكان فهم أحواض النعناع التي كانت تتذمر من أسلوبنا الأرعن في الريّ.

وأخيرًا، هل نُعلِّق على أعواد الثقاب المشتعلة هزيمة نابوليون في معركة واترلو؟ واترلو، هذه الكلمة التي ترشح ماء.

اقرأ أيضا: عاشوراء في المغرب: النار، الماء، الصوم… رحلة البحث عن الطهارة 1/2

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *