من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: ابن المقفع (الجزء الثاني)
الكثير من العلماء والأدباء والفلاسفة في التاريخ الإسلامي اتهموا بالزندقة والإلحاد، فكانت نهايات الكثير منهم مأساوية، كما هو الحال مع ابن المقفع، الذي نتابع حكاية اتهامه بالزندقة في هذا الجزء الثاني.
بعدما تابعنا في الجزء الأول شذرات عامة عن الإلحاد في التاريخ الإسلامي، نواصل هذا الملف ابتداء من جزئه الثاني، مع قصص بعض أشهر من اتهموا بالإلحاد في الإسلام.
اتهموا بالزندقة والإلحاد، فكانت نهايات الكثير منهم مأساوية، كما هو الحال مع ابن المقفع، الذي نتابع حكاية اتهامه بالزندقة في هذا الجزء.
روزبه بن داذويه، مترجم وأديب فارسي ولد عام 106هـ، قيل في قرية بفارس اسمها حور، وقيل في البصرة. عاش الخلافتين الأموية والعباسية معا، ولما أسلم، اختار له “عبد الله” اسما، وكان ينادى بـ”ابن المقفع”، لأن والده اتهم بسرقة أموال المسلمين، فعاقبه الحجاج بن يوسف الثقفي وضربه على أصابع يديه حتى تقفعت (اعوجت وتقلصت).
أحد أشهر الكتب التي عرف بها ابن المقفع، كتاب “كليلة ودمنة”. كتاب أصله باللغة الهندية، ألفه، كما يروى، حكيم هندي يدعى بيدبا. يروى أيضا أن “برزويه”، طبيب كسرى “أنو شروان”، سرقه سرا في القرن السادس للميلاد، بأمر من الأخير، ثم ترجمه إلى الفارسية.
اقرأ أيضا: ابن عربي… “الشيخ الأكبر” المتهم بالزندقة والكفر 1\2
حين حصل ابن المقفع على نسخة من الكتاب، ترجمه عن الفارسية إلى العربية، وزاد عليه فصولا من عنده.
النهاية المأساوية لابن المقفع جاءت لكونه “اتهم بالزندقة حتى أفسد الناس”… كان في ذلك، يقول عبد الرحمن بدوي في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام”، إراحة لضمير قاتليه.
نهاية ابن المقفع كانت مأساوية… كان على خلاف شديد مع سفيان بن معاوية، وكان هذا واليا للبصرة أثناء حكم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور.
كان ابن المقفع يستخف كثيرا بسفيان. مثلا، قيل إن أنف سفيان كبير، فكان كلما دخل عليه ابن المقفع يقول له: السلام عليكما؛ أي سفيان وأنفه. وهذا غيض من فيض ما يرد في روايات كثيرة.
حين استنفد سفيان صبره على ابن المقفع، أمر بإحضار فرن وأوقده حتى اصطكت فيه ألسنة اللهب، ثم أمر بتقطيعه عضوا عضوا، كلما قطعوا واحدا منه، قال لرجاله: ألقوه في النار.
عندما كان يحتضر، قال سفيان لابن المقفع: “ليس علي في المثلة بك حرج، لأنك زنديق قد أفسدت الناس”. كان ذلك عام 142 هـ. كانت تهمة الزندقة والإلحاد هنا، كافية للتنكيل بواحد من أهم أدباء التاريخ الإسلامي.
“كان ابن المقفع مع سعة فضله، وفرط ذكائه، فيه طيش؛ فكان يقول عن سفيان: “ابن المغتلمة” (الفاجرة في القواميس العربية)، مما تسبب في قتله”، يقول المؤرخ شمس الدين الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء.
اقرأ أيضا: ملف “مرايانا”: الشك… بين انفتاح النص وتطرف الفقهاء. 1/3
النهاية المأساوية لابن المقفع جاءت كما رأينا لكونه “اتهم بالزندقة حتى أفسد الناس”… كان في ذلك، يقول عبد الرحمن بدوي في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام”، إراحة لضمير قاتليه.
وكما رأينا في قصته مع سفيان بن معاوية، وذلك ما يعتقده الكثيرون، فإن اتهامه بالزندقة لم يكن الباعث الحقيقي على قتله.
تقدير شخصية ابن المقفع تقديرا عاما يقوم على موقفه الديني إزاء الإسلام الذي عاش في دائرته السياسية والمدنية. ليس لدينا في الحقيقة للوصول إلى خلاصات حول ذلك، سوى “باب برزويه” الذي ورد في كتاب “كليلة ودمنة”، بخاصة الفقرة الشكوكية التي لم يقطع بصحة نسبتها إليه، والتي جاء فيها: ” وجدت الأديان والملل كثيرة من أقوام ورثوها عن آبائهم وآخرين مكرهين عليها، وآخرين يبتغون بها الدنيا ومنزلتها، فرأيت أن أواظب علماء كل ملة لعلِّى أعرف بذلك الحق من الباطل ففعلت ذلك، وسألت ونظرت فلم أجد من أولئك أحدا إلا يزيد فى مدح دينه، وذم دين من خالفه ولم أجد عند أحد منهم عدلا وصدقا يعرفها ذو العقل ويرضى بها”.
الكتب الباقية المنسوبة إلى ابن المقفع، تخلو من أي فكرة تتيح اتهامه بالزندقة. على أنه يبدو أنه آمن بالمانوية؛ ومن آمنوا بهذه العقيدة وصفوا في كتب التاريخ الإسلامي بالزنادقة.
من خلال ذلك، يزعم البعض أن ابن المقفع كان لديه بغض ممزوج بالشك نحو الإسلام، إذ اعتنقه ظاهريا وحسب، وأنه كان يتسم بحرية فكرية في تناوله لمسائل الدين وقلة احترام للقرآن بعدما حاول أن يعارضه (أن يكتب مثله).
هم عادة، يقول بدوي، يذكرون أنه زنديق، تشبع بالزندقة، ويذكرون عن الخليفة المهدي، الذي كان يضطهد الزنادقة، أنه تعود القول إنه لم ير مطلقا كتاب زندقة إلا ويرجع إلى ابن المقفع… بمعنى أنه لا توجد زندقة إلا ولها أصل في “باب برزويه”!
وثمة في بعض المراجع كـ”الأغاني” (أبو الفرج الأصفهاني) ما يبين اتصالا وثيقا جمع بين ابن المقفع وعدد من الأدباء والشعراء، الذين عاشوا في بداية الدولة العباسية واتهموا جميعا بالزندقة.
اقرأ أيضا: هكذا نشأت فكرة “الشيطان” لدى الإنسان الأول وتطورت حضارة بعد حضارة ودينا بعد دين 1\4
الحقيقة أن الكتب الباقية المنسوبة إلى ابن المقفع، تخلو من أي فكرة تتيح اتهامه بالزندقة. على أنه يبدو أنه آمن بالمانوية[1]؛ ومن آمنوا بهذه العقيدة وصفوا في كتب التاريخ الإسلامي بالزنادقة.
لكن يظهر، وفق ما يورده بدوي، أن ابن المقفع يعرض ما نسب إليه من شذرات تتعلق بالمانوية، في دقة ويقين تام وغيرة دينية صادقة وبخاصة في حمده للنور.
لذا، صعب الحكم بأن ابن المقفع استخدم المانوية، ذلك الدين الشائع في تلك الفترة، من أجل الطعن في الإسلام، دون أن يكون هو نفسه مؤمنا بها إيمانا صادقا.
ما نستشفه من باب برزويه أن ابن المقفع -على فرض أنه الكاتب-، شكك في صحة الدين الذي ورثه عن آبائه، وآخذ أهل كل دين لدفاعهم عنه فقط لأنهم ورثوه دون أن يتفكروا في صحته، بل ويتنابذون فيما بينهم، كل يعتقد بصحة دين آبائه وبهتان دين الآخرين.
ليس من شك إذن في أن المانوية بدت لابن المقفع كنوع سام من الدين. دين استطاع أن يحل مسألة الشر في علاقتها بالإله الخالق، وأن يفسر مسألة حرية الإرادة تبعا لنظرته للكون، وأن يفرض أخلاقا قوية عقلية.
ذلك على الأقل ما استطاع أن يهدئ روح ابن المقفع المضطربة، التي خلفت لنا “باب برزويه” شاهدا عليها… الباب الذي إن لم يكن ابن المقفع قد ألفه كله، فمن المحقق أنه تناوله بالتغيير والإضافة من عنده، يؤكد بدوي.
اقرأ أيضا: منع الكتب: سلاح الاستبداد في محاربة التحرر
إجمالا، ما نستشفه من باب برزويه هذا أن ابن المقفع -على فرض أنه الكاتب-، شكك في صحة الدين الذي ورثه عن آبائه، وآخذ أهل كل دين لدفاعهم عنه فقط لأنهم ورثوه دون أن يتفكروا في صحته، بل ويتنابذون فيما بينهم، كل يعتقد بصحة دين آبائه وبهتان دين الآخرين.
إعمال العقل، وصل بابن المقفع إلى عدم التسليم بأي دين، وبأن حسن الخلق مع الناس، لوحده كاف.
… تم تعذيب وقتل ابن المقفع بطريقة وحشية وهو في 36 من العمر، وتقول بعض الروايات إن آخر ما نطق به، قوله لسفيان بن معاوية:
“والله إنك لتقتلني، فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قُتِل مائة مثلك لما وفوا بواحد”.
في الجزء الثالث، نتابع حكاية ابن الراوندي، وهو واحد من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي أيضا.
[1] المانوية، تعرف أيضا بالمنانية، ديانة من العقائد الثنوية، التي تقوم على فكرة أن العالم مركب من أصلين أحدهما النور والآخر الظلام، ويعود أصلها إلى رجل اسمه ماني، ولد عام 216م في بابل.
لقراءة الجزء الأول: الإلحاد في تاريخ الإسلام: حين استنفدت الروح العربية قواها الدينية! (الجزء الأول)
لقراءة الجزء الثالث: من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: ابن الراوندي (الجزء الثالث)
لقراءة الجزء الرابع: من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: أعظم أطباء الإنسانية… الرازي (الجزء الرابع)
لقراءة الجزء الخامس: من أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: أبو العلاء المعري (الجزء الخامس)
لقراءة الجزء السادس والأخير: علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين الذين اتهموا بالزندقة والكفر (الجزء السادس والأخير)
ما بالكم لا تبحثون إلا في أخبار الملاحدة و انتقاد المسلمين وكأنكم لستم منهم؟
يذكر انهم قطعوا أصابعه وبعد شيها أجبروه على أكلها وعلي فرض صحة اتهامه بالزندقة كان يكفي إعدامه , ماذا استفادوا بتعذيه